الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
كلمة غبطة أبينا البطريرك في مؤتمر الإخاء الإسلامي ـ المسيحي في دمشق: كفى متاجرة بالدين، وكفى مزايدة بأرواح الأبرياء باسم إله الرحمة

 
 

  صباح يوم الأربعاء 15 كانون الأول 2010، غادر غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي الكلي الطوبى مقره البطريركي في بيروت، يرافقه الأب أفرام سمعان سكرتير غبطته، وتوجّها براً إلى  دمشق، للمشاركة في مؤتمر "الإخاء الإسلامي ـ المسيحي" الذي دعت إلى عقده وزارة الأوقاف السورية ورؤساء الطوائف المسيحية في سوريا، وشارك فيه أصحاب الغبطة والسيادة البطاركة والأساقفة في سوريا، وعدد كبير من العلماء المسلمين في سوريا، إضافةً إلى مشاركين وضيوف مسيحيين ومسلمين، وعدد من العلمانيين من أكثر من ثلاثين دولة عربية وأجنبية.

   في الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر، ألقى غبطة أبينا البطريرك الكلمة التالية:

 

ـ نودّ أن نوجّه شكرنا: لفضيلة الأستاذ الدكتور محمد عبد الستار السيد، وزير الأوقاف،  ولإخوتنا أصحاب الغبطة البطاركة ورؤساء الكنائس ـ الطوائف، لتوجيه الدعوة إلى هذا المؤتمر...

ـ هذه الدعوة هي من دون شك منسجمة مع الرؤيا الواضحة والمنهجية الفطنة، التي تبنّاها عن قناعة، رئيس البلاد الدكتور بشار الأسد، الذي يطلب من جميع القيّمين على الدين والأخلاق في سوريا الحضارة والتآخي والمساواة، كي يتلاقوا ويتعاضدوا بروح الإنفتاح والإحترام المتبادل، في الإنسانية التي تجمعهم.

ـ رداً على سؤال ما هي الوصية الاولى، يجيب معلّمنا السيد المسيح كلمة الله المتجسّد من مريم العذراء: "الوصية الأولى أن أحبب الرب إلهك من كل قلبك وكل نفسك وكل قوتك، والوصية التي تشبهها أن أحبب قريبك مثل نفسك". أمّا القريب في نظر المعلّم، فهو ليس فقط من تربطنا به صلات رحم أو دين أو صداقة... هو كل إنسان خُلق على صورة الله ومثاله، كما يذكّرنا مثل السامري الصالح، لأنّ المسيحي مدعو أن يحب الجميع حتى الأعداء، وكلمة الأعداء في نظر المسيحي مجازية، إذ على محبته أن تشمل الجميع.

ـ نحن نرى أنّ هدف هذا المؤتمر ليس البحث في الثوابت العقائدية والمسائل اللاهوتية التي تتفرّد بها الديانتان المسيحية والإسلامية، بل عليه أن يتطرّق للأمور الحياتية وعلاقات الإخاء التي على المسيحيين والمسلمين أن يعيشوها ويبنوها في المجتمع الذي شاء الله سبحانه وتعالى، أن يلتقوا فيه، ويجابهوا فيه معضلات الحياة العصرية. لذلك أمور ثلاثة تالية:

 

1 -      نبذ الإرهاب باسم الدين

    لأنّ الشرّ الذي يعلّل الإرهاب ويغسل أدمغة المجرمين منفذّيه، هو النقيض المطلق لجوهر الله  خالق جميع البشر، وهو الإهانة التي لا شبيه لها للرحمة الإلهية عزّ جلالها.

    إسمحوا لي هنا أن أورد بإيجاز هول الهجوم الإرهابي على كنيستنا في الكرادة، بغداد مساء الاحد 31/10، وما خلّفته هذه المجزرة في نفوس الرهائن والجرحى بل المسيحيين العراقيين كافةً، من قلق لدرجة الهلع أمام مستقبل وجودهم في أرض الرافدين. لقد قصدتُ بغداد وترأستُ نهار الجمعة الماضي صلاة القداس الأربعيني في الكنيسة الجريحة ذاتها، وحاولت أن أبثّ المؤمنين نفحةً من الأمل بل الرجاء في دعوتهم للعيش مع الأكثرية التي يختلفون عنها دينياً. وكم كان عزاؤنا كبيراً، عندما رأينا العديد من إخوتنا وأخواتنا المسلمين الشيعة، قد أتوا ليشاركونا في الصلاة والرجاء، مندّدين بذاك العمل الإجرامي الذي ارتكبه مهووسون، وقد نتجت عنه مذبحة نكراء  لم تستثنِ لا الأطفال ولا النساء!

    إني أعتقد أنّ هذا السرد الموجز للجريمة البشعة التي استهدفت مؤمنين في كنيسة مريم، سيدة النجاة، كافٍ لكي نفهم تخوّف المكّون المسيحي في منطقتنا. ونقولها بصراحة إنّ تخوّفنا يزداد يوماً بعد يوم، عندما نسمع عن الهجمات الإرهابية التي تستهدف، تفجيراً أم انتحاراً، المواطنين المسيحيين في العراق أو غيرهم من المواطنين الأبرياء الذين يتوجّهون في مواكب الحجّ إلى المراقد المقدسة مثلاً. لقد حان الوقت كي يردّد القيّمون بصوتٍ واحد وعالياً: كفى متاجرة بالدين، وكفى مزايدة بأرواح الأبرياء باسم إله الرحمة، الذي يشرق شمسه على جميع البشر من أخيار وأشرار!

   

2 -      تربية المؤمنين بروح إيجابية على قبول الآخر

    وهي تعني أنّ على المخوَّلين أن يثقّفوا ويوجّهوا ويربّوا المؤمنين أتباعهم، ثقافة القبول بالتعددية، كي يبتعدوا عن كل ما يدعو إلى التفرقة والتشهير والتكفير. لدينا مجالات واسعة تسمح لكل رجل دين أن يختار بين النصوص الدينية، ما يكوّن خطاباً دينياً إيجابياً، يُبرز الفضائل التي تبني الذات والأفراد والمجتمع. خطاب ديني  يفسّر النصوص المنتقاة بالتأوين المناسب (جعلها معاصرة لزماننا) للأمكنة وشرائح المجتمع التعددي على اختلافها. وما أكثر هذه المواضيع التي نستطيع أن نقدّمها للقراء أو السامعين أو المشاهدين: كالرحمة، والعفاف، والأمانة، والحرية المسؤولة، والإحسان، والتكافل، والتعاضد، وتربية النشء، وأزمة العائلات، وبناء الوطن وحمايته وتقديم مصلحته على المصلحة الخاصة، واحترام القوانين المدنية، والتفاعل الإيجابي والمنفتح بين مختلف مكوّنات الوطن الواحد، وإبراز الوجه الحضاري للوطن بين سائرالأمم...

 

3 -     ديانات توحيدية وشراكة في الإنسانية الواحدة

    إنّ إيماننا في الإله الواحد، وإن تضمّن رؤىً لاهوتية متميّزة، يفرض علينا ألا نتشبّث فنركّز على ما يمّيزنا فيفرّقنا، بل على ما يوحّدنا فيجمعنا لمجابهة تحديات العصر بإنسانية ترنو إلى العلى وهي متعانقة.

    وهذا ما يدفعنا إلى التأمل بحكمة أفريقية تشبّه الإنسانية بالشجرة ذات الجذور والجذع  والأغصان. أول ما يُرى من الشجرة هي الأغصان التي إن هبّت عليها الريح، تراها وكأنها تتعارك ولا تلبث أن تتباعد. بينما هي ملتصقة بجذع واحد لا تستطيع الإنفصال عنه وإلا فستموت. أمّا الجزء الذي لا يُرى وهو في عمق الأرض، فهي الجذور التي تتعانق كيما تعطي الحياة لكامل الشجرة.

    كلنا مسؤولون عن حمل الأمانة لحضارة شرقنا العريقة. لنتذكّر: نحن الذين علّمنا الحرف للبشرية، لا نزال نرزح تحت وطأة الأمية المتفشّية، وقد سبقنا الآخرون بأشواط في ميدان الرقي والتقنية والثقافة الشاملة!. نحن من أطلق نور الإيمان خلاصاً للإنسان، الإنسان كله، ما زلنا مقيّدين ذواتنا وغيرنا باعتقادات هي أقرب من التقاليد الجامدة. هلا كفانا البكاء على الأطلال؟ ألم يحن الوقت كي نتحسّس المشكلات التي تعاني منها شعوبنا سيّما أجيالنا الصاعدة وقد أضحت الغالبية بين شرائح شعبنا؟  نحن مدعوون في عالم يتغيّر ويتطوّر بسرعة هائلة أكثر من أيّ يومٍ مضى، لنقدّم الجواب على تساؤلات شبيبتنا القلقة، ونتفهّم تطلعاتهم وآمالهم بالمصداقية التي يستحقّونها، متذكّرين أننا دُعينا لخدمتهم ومرافقتهم في مسيرة حياتهم!

    وختاماً، نوجّه شكرنا الجزيل لسورية العزيزة رئيساً وشعباً وحكومةً التي استضافت منتدى الحوار هذا، داعين إليه تعالى، أن يحفظ مسيرة هذه البلاد الوطنية، وقناعاتها الأبية في الدفاع عن الحقوق المشروعة لشعبنا بالرغم من كل التحديات والعراقيل. وشكراً لإصغائكم.


 

إضغط للطباعة