الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
كلمة أبينا البطريرك يوسف الثالث يونان في افتتاح المؤتمر التاسع عشر للبطاركة الكاثوليك في الشرق الأوسط

 
 

إخوتي  أصحاب النيافة والغبطة  البطاركة الكلي الطوبى،

والسادة الأحبار الأساقفة الأجلاّء،

أحبّائي الكهنة والراهبات والرهبان والمؤمنين العلمانيّين المباركين باسم الرب.

نرحب بكم أجمل ترحيب باسم كنيستنا السريانيّة الكاثوليكيّة، ونحن نفتتح في هذا المساء المؤتمر التاسع عشر لبطاركة الشّرق الأوسط الكاثوليك.

إنّ أفكارنا متّجهة نحو الأب الأقدس بندكتوس السادس عشر، الحاضر بيننا روحيًّا والممثّل بنيافة الكردينال ستانيسلاو ريلكو رئيس المجلس الحبري للعلمانيّين. إنّنا ما زلنا نتذكّر بعذوبة وامتنانٍ لقاءنا، نحن البطاركة الشرقيّين الكاثوليك، مع قداسته في 19 الشهر المنصرم. لقد أصغى أسقف كنيسة روما التي «ترأس بالمحبة»، كما يعلّمنا مار اغناطيوس النوراني الأنطاكي، إلى كلّ منّا بإمعان واهتمام، ونحن نبثه آمالنا وشجوننا، ونفاتحه عن صعوبات خدمتنا البطريركيّة والتحدّيات التي تجابهها. كما تعزينا وإيّاه بنفحات الرجاء المسيحي الذي كما يقول لنا بولس رسول الأمم هو فوق كلّ رجاء، لأنّه نابع من دعوتنا إلى عيش سرّ فدائنا الذي أتمّه الإبن الكلمة في وحدة الآب والروح القدس، نتبعه على درب آلامه وموته  فنتمجد معه في قيامته.

ونحن، إذ نستلهم كلمات الحبر الأعظم الأبويّة المشجّعة، نذكر والفرح يملأ قلوبنا، النبأ الذي فاتحنا به قداسته في ذلك اللقاء عينه، عن قراره بعقد سينودس خاص بمسيحيّي الشّرق الأوسط، تحت عنوان اختاره هو: «الكنيسة الكاثوليكيّة في الشّرق الأوسط، شراكة وشهادة». لقد شرح لنا قداسته أنّ من أهداف هذا السينودس أن يعرّف العالم، سيّما المسيحي منه، بدروب الشهادة التي سلكها المسيحيّون في بلادنا المشرقيّة، وأن يشجّعنا وجماعاتنا المسيحيّة كي نظلّ متجذّرين في أرض أجدادنا، في شراكة القلب والنفس مع جميع المؤمنين المعمّدين، ليس فقط أمانةً وحفاظاً على الوجود والهوية والتراث، بل وأيضاً كي نتابع باختيارنا حياة الشهادة والاستشهاد، وقد تميّز بهما عبر قرون عديدة حضورالمسيحيّين في المشرق، اكليروساً وراهبات ورهباناً وعلمانيّين ملتزمين.

إنّ الموضوع العام لمؤتمرنا هذا العام هو «رسالة العلمانيّين في الشّرق الأوسط» وذلك إحياءً للذكرى العشرين على صدور الإرشاد الرسولي الذي وجّهه مثلث الرحمات البابا يوحنا بولس الثاني، وعنوانه «العلمانيّون المؤمنون بالمسيح». إنّنا نودّ أن نؤكّد للعلمانيّين أبناء كنائسنا وبناتها، بأنّنا نحبّهم ونقدّرهم ونفخر بهم، مثمّنين مشاركتهم وإيانا في حمل البشرى السارّة لإخوتهم وأخواتهم حيثما كانوا في خضم الحياة اليوميّة. وكرعاة مؤتمنين على خير القطيع جئنا نحثهم على «...سماع صوت المسيح الذي يدعوهم للعمل في كرمه، وللمشاركة الحيّة والواعية والمسؤولة في رسالة الكنيسة، في هذه الحقبة الرائعة والخطيرة من تاريخ الإنسانيّة»  (الإرشاد الرسولي عدد 3).

إنّ العلمانيّين الذين يشاركوننا بمعموديّتهم في صفات المسيح الفادي النبوية والكهنوتيّة والملوكيّة، يشكّلون الجزء الأكبر في الكنيسة وهم  «سفراء المسيح» الأكثر تفاعلاً في المجتمع، وعليهم تقع المسؤوليّة الأولى في نقل بُشرى الخلاص وتقديم التبرير لإيمانهم لكلّ سائل ومتشكّك. إنّهم معرّضون على مدار الساعة والأيام لتجارب الحياة وتحدّياتها، يسعون لعيش دعوتهم المسيحيّة بصدق وأصالة، كي يجسّدوا تعاليم الإنجيل في عالم تتجاذبه تيارات العلمنة والماديّة، مع اللامبالاة المتفشية في العلن وفي الخفاء.

وخلافاً لما قد يظنّه البعض، فإنّ شرقنا الأوسط، ليس محصّناً إزاء هذه التيارات، فنراها تتغلغل في كيانه تحت غطاء العصرنة. يكفي لنا أن نتذكّر الدور الذي تلعبه العولمة والوسائل المعلوماتيّة الحديثة التي اخترقت الأبعاد والحواجز، فجعلت من عالمنا شبه قرية صغيرة. إنّ القِيَم الروحيّة التي نبشّر بها، ونربّي أجيالنا على اعتبارها أولويّة في حياتهم، تجابه في يومنا الحاضر وفي كلّ مناطق العالم، تحدّيات جمّة، ليس أقلّها العداء الصريح والتجاهل المقصود من جهّة، وإلى إبعاد فكرة الله واستبدال الخالق بالمخلوق، واعتبار الأرض أمًّا حنوناً من جهّة ثانية!

من هنا، نفهم أن للعلمانيّين الملتزمين والناضجين في الإيمان الذي استقوه من الكتاب المقدس ومن تعليم الكنيسة وإرشاداتها، رسالة لا غنى عنها، كي يجهدوا في نقل بُشرى الخلاص إلى عالم يظلّ متعطشاً الى ينابيع الحياة والنعمة التي تدفّقت من الربّ فادينا على الصليب. ومن ثمّ وجب علينا أن نتذكّر مسؤوليّاتنا الكنسيّة تجاههم جميعاً، على غرار الراعي الصالح الذي يسير أمام القطيع يفتح له الدرب ويحميه من كلّ سوء ثمّ يجمعه في الحظيرة الواحدة. إنهم يتشوّقون إلى سماع كلمات التوجيه والتشجيع والتقدير، إذ يقومون بواجباتهم المدنيّة والاجتماعيّة في عالم معقّد، باذلين بسخاء ومتفانين بروح الخدمة التي لا تميّز. يجدر بنا الاعتزاز وبهم المديح فلا نبخل به، عندما نراهم مثلاً يكتشفون الوسائل الفُضلى في نقل البُشرى السارّة عن طريق وسائل الإعلام والمؤسّسات التربويّة ويبرعون فيها، أو يتفانون في خدمة الوطن والإنسان في ميدان العمل السياسي بنزاهة وشفافيّة. وعلى الحقيقة أن تُقال: إنّ الكثيرين من العلمانيّين قد تحمّلوا من أجل معلّمهم الإلهي ما تحمّلوا بصبر وشجاعة، وقد قاسوا من الإضطهاد بأنواعه البشعة أحياناً، ومن الإهمال والتهميش أحياناً كثيرة! ولنا من كنيسة العراق الجريحة البرهان الساطع عن الشهادة البطوليّة، وحاجتها الملحّة اليوم إلى لمّ الصفوف، في وِحدة مسيحيّة تعلو على القوميات المجزِّئة والمصالح الضيّقة.

ولا بدّ لنا من أن نجابه، ولو على مضض، ظاهرة الهجرة والتغرّب، التي أضحت في الأعوام الأخيرة ظاهرةً عامّة مقلقة بل مخيفة. ومع إيماننا بقيم الحرية التي قد تشجّع البعض على الاغتراب، لا نكلّ عن حثّ المؤمنين على التمسّك بأرض الوطن، معتبرين أن حضورنا في المشرق واجبٌ وحقّ، إذ  ينبثق بوضوح من دعوتنا المسيحيّة إلى توسيع الآفاق ومدّ الجسور مع العائلات الدينيّة التي تشكّل أغلبيّة في مشرقنا.

رسالتنا تدعونا اليوم أكثر ممّا مضى، إكليروساً كنّا أم علمانيّين، أن نعيش في هذا المشرق العزيز حيث أرادتنا العناية الإلهيّة، فنقاسم إخوتنا وأخواتنا آلامهم وآمالهم، نجاحاتهم وإخفاقاتهم. إنّها رسالة شهادة وليس مشاهدة، تتفاعل وتكتمل التزاماً منّا، وليس لزاماً علينا كما في غياهب الماضي.. بها نشهد للحقّ بمحبّة، ومن خلالها نحيا المحبّة بروح الحقّ، فنساعد الأكثريّة التي لا تدين بإيماننا كي يكتشفوا وجه الله المحبّ والمتسامح. وهو سبحانه وتعالى، لا يحتاج منّا عوناً ولا حماية من آخر، أو دفاعاً من أحد. دعوتنا أن نضحّي كالخميرة في عجين هذا الشّرق المضطرب، أن نذوب فيه كي نطعّمه بالروح الذي يحرّر الإنسان ويقرّبه من مبدعه، هو الأب لجميع البشر. إليه نضرع بثقة وإيمان، آمين.

 

إضغط للطباعة