الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في رتبة الغسل وقداس خميس الأسرار

 
   

    ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان في رتبة الغسل وقداس خميس الأسرار، يوم الخميس 5 نيسان 2012، في كاتدرائية سيدة البشارة ـ المتحف ـ بيروت:

 

    نحتفل اليوم مع الكنيسة المقدسة بخميس الأسرار أو خميس الفصح. في هذا اليوم نعيش ذكرى العشاء الأخير الذي تناوله الرب يسوع مع تلاميذه. وقبل العشاء، أعطاهم المثال الأسمى للتواضع والوداعة بغسل أقدامهم. ثم رسم سر الإفخارستيا "خذوا كلوا ... خذوا اشربوا"، وسر الكهنوت "إصنعوا هذا لذكري".

1.    "أعطيتكم هذا مثالاً حتى كما صنعتُ بكم تصنعون أنتم أيضاً"

        عالج الرب يسوع داء الكبرياء بدواء تواضعه، ولم يكن في تواضعه أيَّ ضعفٍ أو تذلُّل. بهذا التواضع العجيب، أعطانا مثالاً إذ شدّ مئزرةً على حقويه وشرع يغسل أقدام تلاميذه كأيّ خادم يقوم بواجبٍ اعتيادي تجاه سيده. كانت هذه العادة متّبعةً في تلك الأيام وفي تلك المجتمعات، خاصةً عندما يأتي ضيفٌ عزيز، يقوم الخادم أو ربّ البيت بغسل قدميه. كذلك عندما تجتمع العائلة مساءً، يغسل أحدهم أقدام الآخرين. ولكنّ التلاميذ، لكبريائهم وسعيهم للمراكز الأولى، لم يتذكّروا كلمات المعلّم الذي قال: "تعلّموا منّي لأني وديعٌ ومتواضع القلب"، و"ما جئتُ لأُخدَم بل لأخدُم".

        أدهش تواضُع الرب هذا آباءنا السريان، فوضعوا ليتورجية خاصة لرتبة غسل الأرجل، يذكّروننا بتفاصيلها الرائعة ومن بينها الحوار المؤثّر الذي دار بين الرب يسوع ومار بطرس رئيس الإثني عشر. هذه الرتبة الجميلة والعميقة بروحانيتها درسٌ لنا في التواضع وتجنّب الكبرياء. وهنا لا يسعنا إلا أن نتذكّر كم لرذيلة الكبرياء من آثار سلبية على علاقاتنا، الواحد مع الآخر، حتى بين الأصدقاء وبين أعضاء العائلة الواحدة. وكم نعاني من الكبرياء والعناد، عندما نقرأ ونسمع ما يدور في مجتمعاتنا وفي بلدنا ومؤسساتنا كافةً!

        وهنا يجدر بنا أن نتأمّل في قولٍ لأحد آباء الكنيسة: "إنّ الكبرياء دون سائر الرذائل أخرجنا من الفردوس، وإنّ التواضع دون سائر الفضائل يعيدنا إلى الفردوس".

 

2.   "خذوا كلوا هذا هو جسدي ... اشربوا منها كلّكم فهذا هو دمي"

        في كلمات يسوع وهو يكسر الخبز ويبارك الخمر، تأسّس سر الإفخارستيا، أي سر الشكر، وهو معجزة الحب الإلهي. كما يُدعى هذا السر، قمة الأسرار الإلهية. لذلك نحن في طقسنا السرياني نفضّل أن ندعو القداس ܩܽܘܪܒܳܢܳܐ، أي القربان، حيث الرب يسوع هو الكاهن الأعظم، وفي الوقت ذاته هو القربان المقدس، أي الضحية على مذبح الحب الإلهي.

        في العشاء الأخير، ليلة الآلام والصلب، أكمل الرب يسوع الناموس. فأكل الفصح اليهودي مع تلاميذه، ومنحهم فصحاً جديداً بجسده ودمه. وهكذا ألغى الذبائح الحيوانية، ورسم الذبيحة السرية غير الدموية التي نجد لها رمزاً عندما قدّم ملكيصادق ملك ساليم الخبز والخمر. فالمسيح هو فصحنا الجديد، به تبرّرنا وتقدّسنا، وبه نلنا التبني للآب السماوي.

 

        ـ معاني قداس الأحد ومشاركة الجماعة فيه

 

3.   "إصنعوا هذا لذكري"

        لم يكتفِ الرب يسوع بمنح تلاميذه سر الإفخارستيا في ذاك خميس الأسرار، بل رسمهم أيضاً كهنةً لعهده الجديد، بقوله لهم "اصنعوا هذا لذكري كلما أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس".

       

 

        يقول الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني:

        "لقد وُلدنا من الإفخارستيا ـ سر القربان المقدس. إذا أمكنَنا القولَ أنّ الكنيسة جمعاء تحيا من القربان المقدس... نقول الشيء ذاته عن الكهنوت الخدمي: إنه قد وُلد من سر القربان المقدس، وهو يحيا ويعمل ويُثمر من سر القربان المقدس. ليس من قربان مقدس من دون الكهنوت، وبدوره لا يُمكن أن يوجد الكهنوت من دون سر القربان المقدس" (رسالة إلى الكهنة، عيد خميس الفصح 2004).

        امتثالاً لأمر الرب يسوع، اعتبرت الكنيسة أنّ خميس الأسرار هو ولادة الكهنوت. فالكاهن المكرَّس لخدمة شعب الله يقدّس المؤمنين باحتفاله بالأسرار، سيّما سر ذبيحة القداس، التي بها تتّحد الجماعة المؤمنة بفاديها، كما تتّحد فيما بينها في شركة المحبة. إنّ الكاهن مدعوٌّ لتدبير شؤون رعيته بجمعهم في عائلة واحدة مؤمنة. لذا اعتاد المسيحيون على احترام سر الكهنوت، واعتدنا أن نسمّي الكاهن "أبونا"، أي الأب الروحي الذي يذكّرنا بدعوتنا إلى القداسة. فلا بدّ من أن يضحي الكاهن باتحاده بالمسيح مسيحاً آخر، فيحقّ له أن يردّد مع مار بولس الرسول: "لست أنا الذي أحيا، بل المسيح يحيا فيَّ".

        الكنيسة، أنتم المؤمنون ونحن الإكليروس، ترجو أن يشعّ الكهنة نوراً وصلاحاً، فيحتفلوا بالقداس بخشوع ورهبة، مبتعدين عن الرتابة، أي الروتين. نريدهم وهم يدعون لرفع أيدينا نحو العلى، أن يصبحوا قرباناً وجمرة نار تطهّرهم كما تطهّر نفوس المؤمنين المشتركين معهم حول مائدة المذبح.

        وفي طقس أحد تقديس البيعة ابتهالٌ رائعٌ يدعو الكهنة إلى تنقية ذواتهم ليصيروا أهلاً للخدمة:

      ܩܪܺܝ ܠܟܳܗܢ̈ܶܐ ܕܥܳܐܠܺܝܢ ܠܓ̣ܰܘ ܒܶܝܬ ܩܕܽܘܫ ܩܽܘܕܫܺܝ̈ܢ܆ ܘܗܳܟ̣ܰܢ ܐܶܡܰܪ ܠܗܽܘܢ. ܐܰܫܺܝܓ̣ܘ ܐܺܝܕ̈ܰܝܟܽܘܢ ܘܕܰܟܰܘ ܠܶܒܰܝ̈ܟܽܘܢ ܠܡܰܕܒܚܳܐ ܥܳܐܠܺܝܬܽܘܢ. ܗܰܠܶܠܘܝܰܗ ܘܢܽܘܪܳܐ ܡܫܰܡܫܺܝܬܽܘܢ.

وترجمتها: أدعُ الكهنة الداخلين إلى قدس الأقداس، ومُرهم هكذا: اغسلوا أيديكم وطهّروا قلوبكم لأنكم تدخلون المذبح، هللويا وتخدمون النار.

 

 

        أيها المبارَكون

        نسأل الله أن يؤهّلنا لنبتعد عن روح الكبرياء، وأن نحبّ بعضنا بعضاً، لأنّ ثمار المحبة هي التواضع والوداعة. كما نسأله كي يحفظ هؤلاء الأبناء الأعزاء الذين قمنا بغسل أقدامهم، ويؤهّلهم ليسلكوا السبل المستقيمة، مهنّئين إياهم بالنعمة التي نالوها من الرب يسوع.

        وفي هذه الأيام المباركة، نصلي من أجل أن يحلّ الله أمنه وسلامه في العالم بأسره، وبخاصة في مشرقنا الغالي.

        نذكر خاصةً أبناءنا وبناتنا في سوريا الذين يمرّون بمحنةٍ صعبة، ونضرع إلى الرب يسوع أن ينهي درب آلامهم ويُبلغهم إلى فرح القيامة معه، وأن يعيد سوريا إلى ازدهارها، وشعبها إلى الوحدة والألفة.

        فلنصلِّ من أجل إخوة وأخوات لنا في لبنان وسائر البلاد الشرق أوسطية كما في بلدان الانتشار، كي يستطيعوا العيش بالكرامة الإنسانية، متمتّعين بالحقوق وقائمين بالواجبات كما سائر المواطنين دون تمييز.

        هذا ما نطلبه من الرب بكل إيمان وثقة ورجاء، بشفاعة أمنا السماوية مريم العذراء، سيدة النجاة، وجميع القديسين والقديسات. آمين.

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

إضغط للطباعة