الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان خلال رتبة صلاة الجناز لراحة نفس المثلّث الرحمات البطريرك الكاردينال مار اغناطيوس موسى الأول داود

 
 
 

ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان خلال رتبة صلاة الجناز لراحة نفس المثلّث الرحمات البطريرك الكاردينال مار اغناطيوس موسى الأول داود، في كاتدرائية سيدة البشارة ـ المتحف ـ بيروت، بعد ظهر الإثنين 16 نيسان 2012:


الموعظة في صلاة جناز

المثلث الرحمات الكردينال مار اغناطيوس موسى الأول داود

بطريرك السريان الأنطاكي الأسبق، ورئيس مجمع الكنائس الشرقية السابق

كاتدرائية سيدة البشارة ـ بيروت، الإثنين 16 نيسان 2012

 

-         كلمة ترحيب وشكر للحضور...

-         أصحاب الغبطة البطاركة الكاثوليك

-         أصحاب النيافة ممثلو أصحاب القداسة والغبطة البطاركة الأرثوذكس

-         معالي الوزير نقولا فتّوش ممثّل فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ودولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ نجيب ميقاتي

-         سعادة النائب هاكوب بقرادونيان ممثّل دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري

-         أصحاب النيافة والسيادة رؤساء الأساقفة والأساقفة

-         الرؤساء العامون والرئيسات العامات

-         الآباء الكهنة والرهبان والراهبات

-         أهل المثلّث الرحمات

-         أيها الإخوة والأخوات المبارَكون بالرب

يقول المثلث الرحمات في مقدمة الكتاب الذي أصدره عام 2004 بمناسبة يوبيله الكهنوتي الذهبي، وعنوانه "يا سمعان بنَ يونا، أتحبّني..؟":

"... فلاحظتُ بدهشةٍ أنّ يسوع لا يسأل سمعان عمّا قال وفعل وأنجز، بل يسأله سؤالاً واحداً وهو: يا سمعان بنَ يونا، أتحبّني؟". ويتابع الكردينال:

"... ليست الحياة في نظر يسوع سوى قصة حب، وليست الدعوة سوى مغامرة حب" (ص 12)

حوارٌ مؤثّرٌ للغاية دار بين المعلّم والتلميذ رئيس الإثني عشر، كما يسرده لنا الإنجيلي يوحنا، أثناء ظهور الفادي المنبعث من بين الأموات لسبعة من تلاميذه على بحيرة طبريا... كان سمعان بنَ يونا صاحب المبادرات بين رفاقه، ذا شخصيةٍ محبوبةٍ لعفويّتها وصدقها وجرأتها، وما فتئ المعلّم الإلهي يصقل شخصية هذا التلميذ بحب وصبر، كي يعدّه لتحمّل مسؤولياته المستقبلية. ولكن الضعف البشري جعله ينكر معلّمه ثلاث مرّات ليلة الصلب، مناقضاً ما كان يعلنه بحماس عن استعداده للدفاع عنه ومرافقته حتى الموت!. لذا أراد يسوع أن يختبر أمانة صديقه، فسأله ثلاثاً: "يا سمعان بنَ يونا، أتحبّني؟"، وكأنه أراد أن يتأكّد من ندامة التلميذ على تلك الخيانة المذلّة. وجاءت الدموع في عينَي ذاك الرجل الأبيّ، برهاناً ساطعاً على ندامته العميقة وعلى أمانته للعهد. لذا استحقّ أن يستلم دفّة القيادة من فم المعلّم الذي أكّد له مراراً أن: "إرعَ خرافي". وانطلق يبشّر بالخلاص، ويكرز بإنجيل السلام حتى الاستشهاد.

قصة الحب هذه بين يسوع الفادي وسمعان بطرس، كان لها الأثر العميق في نفس راحلنا الكبير. منها استشفّ الأجوبةَ الشافيةَ للأسئلة اللامتناهية التي كان يطرحها على ذاته طوال تجربته الحياتية. لقد رأى فيها صورةً لعلاقته الحميمة مع الرب، منذ أن لبّى في سنّ الصبا، نداء الخدمة الكهنوتية، وانطلق من بلدة مسكنة في محافظة حمص في سوريا، إلى المعهد الإكليريكي في القدس، حيث أكمل دروسه الثانوية. بعدها أتمّ دروسه الفلسفية واللاهوتية في إكليريكية دير الشرفة الكبرى، سائراً على خطى الرب، دون تردّد أو التفاتة إلى الوراء، متدرّجاً في خدمته للكنيسة مدّةً تزيد على 57 عاماً، كاهناً عام 1954، وأسقفاً عام 1977، وبطريركاً عام 1998، ثم رئيساً لمجمع الكنائس الشرقية في روما، وكردينالاً في خدمة الكنيسة الجامعة عام 2001.

لقد عرفنا فيه:

ـ الإنسان

ـ رجل الله الكاهن والحبر والبطريرك

   ـ الكردينال، رسول الشرق إلى الكنيسة الجامعة

 

عرفناه كما الكثيرون بينكم، رجلاً تنبض فيه الإنسانية مبدأً وسلوكاً. عرفنا فيه قبل كل شيء الإنسان الصادق مع الغير والصدوق مع نفسه. اختبرنا فيه الإنسان المنفتح على القريب والبعيد، الذي يبني جسور الألفة والمودّة بين جميع من التقى بهم.

وعرفناه رجل الله ورجل الكنيسة، يصغي ويتفهّم ويشجّع. ولأنه يثق بالإنسان، سخّر علمه وضلوعه في القانون من أجل إحقاق العدل الممزوج بالرأفة. ولأنه كان مختبراً الضعف البشري وقابليّة العطب في الإنسان، عرف كيف يجمع بين الرؤية الواضحة والحزم والحنان. فما ردَّ قاصداً ولا أهانَ مقصّراً ولا تردّد في مدّ يد العون لمحتاج أو لمظلوم. وقد أعطانا مثالاً بتجرّده وزهده بحطام الدنيا، وقبل الحديث والكتابة عن جسور تُبنى للحوار، كان راحلنا الكبير مقتنعاً بأنّ الحوار الصادق بين الأفراد والرعاة الروحيين في كنائسنا هو السبيل الأنجع لإحياء الثقة والمشاركة الفاعلة. كما أن الإنفتاح والمصارحة مع احترام خصوصية المعتقدات والمذاهب، كفيلان بتمتين أواصر الثقة لعيش مشترك بنّاء بين المسيحيين والمسلمين. فكم نحتاج إلى أمثاله في زمن المبادئ التي تكاد تتحوّل إلى مجرّد شعارات رنّانة!

ولأنه كان مقتنعاً بأننا "أسرى محبة المسيح" (2 كور 5:14)، محبة تحثّنا ولا تقبل الأعذار ولا التأجيل، ولأنّ الحصادَ كثيرٌ ويحتاجُ إلى فعَلَةٍ صالحين ونشطين، سار البطريرك موسى على خطى أسلافه العظام، في لبنان وماردين وحلب والموصل، ومنهم الشهيد والمعترف، ومنهم العالِم اللامع والمدبّر الحكيم، آباء ورؤساء ورعاة، زيّنوا في زمانهم كنيستهم السريانية العريقة، الشاهدة والشهيدة، لتضحي عروساً تليق بمخلّصها المنبعث من القبر بعد آلام وموت، بل جوهرةً صغيرةً ترصّع تاج الكنيسة الجامعة.  

وبالرغم من الفترة الوجيزة التي قضاها بطريركاً، إذ لم تدم سوى سنتين ونيّف، سعى غبطته بعزم وصدق لعيش شعاره: أبٌ يحنو ويتفهّم، ورأسٌ يفكّر ويدبّر، وراعٍ يسهر ويوجّه. وممّا يثير الإعجاب أنه استطاع أن يحقّق خلالها إنجازاتٍ عديدةً على المستوى التنظيمي والإداري والراعوي. في عهده شكّل السينودس الأسقفي اللجانَ وأقرّ شرع الكنيسة الخاص، كما نظّم الدائرة البطريركية وشؤون الأبرشية البطريركية في لبنان، وقام بالزيارات للرعايا وألّف اللجان المختصة في الحقلين الكنسي والمدني، واهتم بحياة الكهنة وخدمتهم الكهنوتية. وشملت زياراته العديد من الأبرشيات حيث وُجدت كنيستنا السريانية من بلاد ما بين النهرين إلى المتوسط، كما تفقّد شؤون كنائسنا في بلاد الانتشار. وكان له الفضل بتجديد الرهبنة الأفرامية الرجالية، ليعيش الإخوةُ دعوةَ التكرّس الرهباني على درب المشورات الإنجيلية، وتساهمَ رهبنتهم مع شقيقتها الرهبنة الأفرامية النسائية، في إحياء روحانيتنا الخاصة بشرقنا مع رسالة المحبة وأعمال الرحمة.

كما تميّز عهد بطريركنا الراحل بتفعيل الحوار المسكوني بين الكنيستين السريانيتين الشقيقتين، الأرثوذكسية والكاثوليكية، عبر تأسيس لجنة حبرية مشتركة فتحت آفاقاً جديدةً من التعاطي الأخوي والتعاون الراعوي والليتورجي، وبنوع خاص تقوية العلاقات الأخوية بين البطريرك الراحل وأخيه قداسة البطريرك مار اغناطيوس زكا الأول عيواص.

كذلك تجدّد في عهده التواصل مع الكنيسة الشقيقة للسريان الملنكار الكاثوليك في كيرالا ـ الهند، فاتحاً معها صفحةً تاريخية من العلاقات الأخوية، وسيعمل فيما بعد وهو كردينال مسؤول في الكرسي الرسولي، على ترقيتها إلى كنيسة خاصة، ذات رئاسة أسقفية عليا.

 

في ختام سنة يوبيل الألفين، ناداه الروح ليتوجّه إلى روما. وكما في حياة بطرس أوّل الرسل، كان عليه أن يختبر التمزّق في داخله ليصل الى اتخاذ القرار. كان مقتنعاً أنّ تعيينه من قبل البابا يمثّل إرادة إلهية، ولكن ماذا والآمال المعقودة عليه في كنيسته ووطنه..! والمشاريع التي بدأها وما زالت تنتظر..! ماذا وأكثر من ماذا..؟ وفي غمرة ذاك التمزّق والتردّد الطبيعيين، نتخيّله يسمع صوت المعلّم معاتباً كما لسمعان المتردّد في الذهاب إلى روما: "كوو فاديس"، إلى أين أنت ذاهب؟.

دعوته للخدمة في الكنيسة الجامعة بالقرب من خليفة بطرس، عمّقت تأمّله في "قصة الحب" التي نشأت بين معلّم يريد التزاماً كلّياً بلا منطقية الحب، وبينه، أي التلميذ المتسربل الضعف، والذي يتلعثم وتدمع عيناه..! ففي مرحلة من دروب الحياة تُعتبر بين الأواخر، سلّم الكردينال داود ذاتَه بأسرها للمخلّص الذي امتحن حبه، فدعاه كي يبتعد فيتخلى عن كل مكوّنات شخصيته المشرقية، وهو الذي تدفئه حرارة التواصل الاجتماعي، ويتهلّل بلقاء الأهل والأصدقاء، مثلَ مَن عشق حياة القرية البسيطة، بأهلها وترابها وهوائها ومائها ..!

        نفحة من روحانية المشرق أطلّت على مجمع الكنائس الشرقية في روما، في مطلع الألفية الثالثة، عندما استلم الكردينال داود مسؤولياتِه التي دامت قرابة سبع سنين. وبالرغم من قلّة خبرته بأساليب الدوائر الفاتيكانية وخفاياها الدبلوماسية، كان حضورُه المشرقي مميَّزاً، إذ دافع عن حقوق الكنائس الشرقية، وعرّف بغنى تراث الشرق الليتورجي وروحانيته العميقة. وما زالت كنائس شرقية عديدة تلهج بشكره إلى اليوم...

        "اذكروا مرشديكم الذين خاطبوكم بكلام الله، واعتبروا بحياتهم وموتهم واقتدوا بإيمانهم" (عبر 13: 7). أجل أيها الأحباء، نحن وإياكم نفخر بل نعتز أن يكون البطريرك الكردينال داود من كبار مرشدينا في زمننا هذا، مرشدين متميّزين  بإيمانهم القويم، وبالحكمة في أقوالهم وبالنزاهة في أفعالهم، وهم المثال لنا حتى في رقادهم على رجاء القيامة.

وهنا أتذكّر معكم المشهد الأخير لظهور المخلّص المنتصر على الموت لتلاميذه على بحيرة طبريا، إذ يتوجّه إلى سمعان بطرس قائلاً: "كنتَ وأنتَ شاب تشدُّ حزامك بيديك... فإذا صرتَ شيخاً مددتَ يديك يشدُّ غيرك لك حزامك ويأخذك إلى حيث لا تريد!".

راحلنا الكبير، البطريرك الكردينال داود، أبونا ومرشدنا، وإن شُلَّ جسمه وانعقد لسانه في أيامه الأربعين الأخيرة على هذه الفانية، فقد كان عارفاً إلى أين ينطلق.

كان لقاؤه بمخلّصه يوم سبت النور، إذ انطفأ نور سراج دربه الأرضي، ليضيء ويشعّ بالنور المنبعث من القبر الفارغ، لأنّ الرب قام من بين الأموات.

 فيسوع الرب والمعلّم والصديق، كان على موعدٍ معه، فلاقاه معانقاً، مطمئناً: "كنتُ دوماً واثقاً بأنّك تحبني يا موسى بن داود أكثر من هؤلاء".

كان هذا اللقاء يوم سبت النور، إذ انطفأ نور سراج دربه الأرضي، ليضيء ويشعّ بالنور المنبعث من قبر المخلّص الفارغ، لأنّ الرب قام من بين الأموات.

لراحلنا الكبير الرحمة ولنا جميعاً العزاء. وليكن ذكره مؤبّداً. 

 

 

 

 

إضغط للطباعة