الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في قداس عيد مار أفرام السرياني

 
 
   

    ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي الكلي الطوبى، خلال القداس الذي احتفل به غبطته صباح يوم الأحد 24 شباط 2013 في كاتدرائية سيدة البشارة ـ بيروت ـ المتحف:

 

    أصحاب السيادة رؤساء الأساقفة والأساقفة ممثلي أصحاب الغبطة البطاركة

    قدس الآباء والأمهات رؤساء ورئيسات الرهبانيات

    حضرات الآباء الكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة الإكليريكيين، والمؤمنين المباركين،

    أتوجّه أولاً باسمكم بكلمات شكر للرسميين الحاضرين معنا في هذا الاحتفال:

    معالي الأستاذ فريج صابونجيان وزير الصناعة الأكرم، ممثّل فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، وصاحبي الدولة رئيس المجلس النيابي الأستاذ نبيه بري، ورئيس مجلس الوزراء الأستاذ نجيب ميقاتي

    أصحاب المعالي والسعادة الوزراء والنواب والسفراء والقيادات المدنية والعسكرية وممثلي الأحزاب والفعاليات

لأنّ كلّ من يرفع نفسه يتّضع، ومن يضع نفسه يرتفع (لوقا 18: 14)

    يدعونا الرب يسوع، من خلال المثل الذي سمعناه من إنجيل لوقا، إلى التواضع القائم على التسليم الكلّي للرب ولمشيئته الإلهية، والاعتراف بأنّ ما لدينا من نِعَم، لا فضل لنا فيه، إنما نلناه بعطية من لدن الله القدوس. فتتجدّد حياتنا وتتكلّل بخدمة إخوتنا بدافع المحبة، ليتمجّد الله من خلالنا، ويرفعنا إلى مراقي الفرح الدائم، فحيا معه دوماً، إذ أنّ "ثواب التواضع مخافة الرب، وهو غنى ومجد وحياة" (أمثال 22: 4).

    لقد نهج الرب يسوع خلال تدبيره العلني بالجسد نهج التواضع، فهو قال عن ذاته "تعالوا إليّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا أريحكم، احملوا نيري عليكم وتعلّموا مني، لأني وديعٌ ومتواضع القلب، فتجدوا راحةً لنفوسكم، لأنّ نيري هيّن وحملي خفيف" (متى 11: 28 ـ 29).

    جاء يسوع ليخلّصنا متّخذاً طبعنا البشري ما عدا الخطيئة، متجرّداً من ذاته الإلهية، آخذاً صورة العبد، فوضع نفسه وأطاع حتى الموت، موت الصليب، ليفتدي البشرية بأسرها، على ما قرأنا في رسالة القديس بولس رسول الأمم إلى مؤمني كنيسة فيلبي (2: 6 ـ 8). ففي يسوع، لا تتجلى القدرة الإلهية فقط، إنما المحبة الإلهية أيضاً. فكما أنه بدون القدرة الإلهية لما كان هناك وجود، فكذلك أيضاً لولا أعجوبة المحبة الإلهية لمَا نلنا الخلاص.

    في مثل الفريسي والعشّار الذي ضربه الرب يسوع، نجد الفرق بين الثقة بالذات والثقة بالرب. فالفريسي يتغنّى بقواه الذاتية ويفتخر بأعماله، أما العشّار، فيتقرّب من الرب بتواضع وانسحاق قلب وتوبة صادقة سائلاً إياه الرحمة، واضعاً ملء ثقته ورجائه بربه الذي لا يهمل الانسان المتواضع ولا يتركه. لذا يمنح الرب يسوع العشّار نعمة التبرير، أما الفريسي فيرسله فارغ اليدين.

    يضع القديس بولس التواضع إلى جنب الإيمان في قائمة ثمار الروح (غلاطية 5: 22 ـ 23)، فهاتان الفضيلتان مرتبطتان إحداهما بالأخرى، وكلاهما تعبّران عن الاستعداد للانفتاح نحو الله والخضوع الكلّي لنعمته وكلمته بثقة تامة ورجاء وطيد.

    إنّ "كلمة الله" صار بشراً، ليقود الإنسان إلى أوج التواضع، الذي يقوم على خدمة الله من خلال خدمة البشر بمحبة وطواعية في سبيل مجد الله. والله لا يحلّ إلا في المتواضعين والودعاء، حسبما تعلّمنا طلبة (باعوث) مار يعقوب في الطقس الكنسي السرياني: "ܒܡܰܢ ܠܰܡ ܐܶܥܡܰܪ ܐܶܠܳܐ ܒܢܺܝ̈ܚܶܐ ܘܰܒܡܰܟܺܝ̈ܟ̣ܶܐ"، "بمن أحلّ إذاً إلا بالودعاء والمتواضعين".

 

    أيها الأحباء

    نتأمّل هذا الصباح منارتين أضاءتا سماء الكنيسة وأرضنا: المنارة الأولى لمعت قديماً في القرن الرابع، وبالتحديد في شخص القديس العظيم مار أفرام السرياني، ملفان الكنيسة الجامعة، الراهب الشماس، من روّاد الكتّاب والشعراء في المسيحية. ولفصاحة لسانه وبلاغة أدبه وطهارة سيرة حياته، لُقِّب بألقابٍ عدّة في الشرق والغرب، منها "كنّارة الروح القدس" و"شمس السريان".

    أفرام، ابن نصيبين وتلميذ أسقفها الشهير مار يعقوب، لم يشأ أن يُرسَم كاهناً لشدّة تواضعه، بل مكث شماساً، أي خادماً بالقول والفعل حتى وفاته.

    قام بتأسيس مدرسة لاهوتية في نصيبين، ذاع صيتها. ثم انتقل مرغَماً مهجَّراً إلى مدينة الرها حيث أسّس أيضاً مدرسة لاهوتية، وتوفّي هناك.

    مارس أعمال الرحمة والمحبة، متفانياً في خدمة الفقراء والمرضى، وشارك الضعفاء والمهجَّرين والنازحين معاناتهم وآلامهم. وكم يذكّرنا حاضرنا وما يحدث اليوم في الجزيرة وسائر المناطق السورية بزمن هذا الشماس الوديع المتفاني.

    برع القديس أفرام السرياني بتفسير الكتاب المقدس وعقائد الإيمان القويم، حيث أبدع أجمل ما كُتب في شرح وإيضاح المعاني الروحية لكلمة الله، حتى قيل: إذا فُقدَت نُسَحُ الكتاب المقدس كلُّها، لأمكن جمعُها من مؤلّفات مار أفرام. كتب جميع مؤلفاته باللغة السريانية، وتُرجمت إلى مختلف لغات العالم، وتُعدُّ من روائع الأدب المسيحي، وتمتاز بالرقة وبجمال التفكير والتعبير، وما زالت تُتلى حتى اليوم كجزءٍ من ليتورجيات الكنائس السريانية المختلفة. كتب الكثير في مدح السيدة العذراء، وأغنى المكتبة المسيحية بكتاباته المنظومة شعراً ونثراً، ميامر ومداريش.

    أما المنارة الثانية، وهي تلك التي ملأت أجواء لبنان الحبيب بالبركة والوداعة، قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، الذي أضحى لنا المثال، مقدّماً للعالم كلّه أمثولةً عظيمةً عن أنّ الإيمانَ فعلُ حبٍّ كبير للمسيح وكنيسته، وفعلُ تسليمٍ مطلق لإرادة الله، وفعلُ تواضعٍ وتجرّدٍ عميق من الذات، وهو المتسامي فضيلةً وعلماً. 

    إنّ الأب الأقدس، بإعلانه استقالته، بلغ الذروة في مفهوم المسؤولية وفي الشجاعة على ممارستها. فقد قال: "إنّ قراري ذو أهمية كبيرة لحياة الكنيسة... لأنّ إدارة سفينة القديس بطرس وإعلان الإنجيل يقتضيان حيويّة الجسد والروح. هذه القدرة تناقصت فيّ، في هذه الأيّام الأخيرة، بحيث أنّي أعتبر نفسي غيرَ قادرٍ على حُسن القيام بالخدمة التي أوكلت إليّ".

    ويرتقي قداسته إلى ذروة التواضع في المسؤولية، إذ ينهي إعلانه هذا "بشكر الكرادلة على كلّ المحبة والعمل، وقد حملوا بهما معه ثقل خدمته، وبالتماس المغفرة عن كلّ نواقصه".

 

    أيها الأحباء

    تعيش منطقتنا الشرق أوسطية هذه الأيام حالةً من عدم الاستقرار والقلق، إذ تعاني دولٌ عدّة فيها من حروب وصراعات ونزاعات تهدّد وجودها ومستقبل مواطنيها.

    إننا، ومن هذا المكان المقدس، نؤكّد شجبنا وإدانتنا لاستعمال العنف والسلاح بحجّة نشر الديمقراطية وأفكار الإصلاح. إنّ مفهوم الديمقراطية، أي ممارسة الشعب حقَّه في تنظيم حياته المدنية، يعني مسيرةً حضاريةً هدفها حياة الإنسان وليس موته. فلا سبيل لنشر الديمقراطية الحقّة إلا بالحوار، وانتهاج لغة العقل بالاحترام المتبادل والمساواة الحقة في المواطنة بين الجميع في البلد الواحد، بغضّ النظر عن العدد أو العرق أو الدين.

    وهنا نتوجّه خصوصاً بأفكارنا إلى سوريا الجريحة، وقلوبنا تتفطّر حزناً على ما أصاب هذا البلد من خراب ودمار وعبث بمقدّراته، بعد أن شهد في العقد الأخير إنجازاً في التطوّر والحداثة. وها هو اليوم ينزف ويئنّ تحت وطأة نزاعٍ وحربٍ تودي يومياً بحياة العشرات من الأبرياء، هذا فضلاً عمّا تُلحقه من أضرارٍ فادحة باقتصاد البلاد ومؤسسات الدولة والمجتمع الأهلي.

    لا يسعنا إلا أن نجدّد تضامننا ومشاركتنا الصلاة الحارة من أجل جميع المواطنين في سوريا، وبخاصة أبنائنا وبناتنا في أبرشياتنا السريانية الأربع في دمشق وحمص وحلب والجزيرة، رعاةً روحيين وإكليروساً ومؤمنين. كما نهيب بجميع الأطراف المتنازعين، أن يحكّموا ضميرهم الأخلاقي وحسّهم الوطني، فلا يتأثّروا بأيّ ضغطٍ أو إملاء من أيّ جهةٍ أتى، بل يعتمدوا جميعاً لغة الحوار والتفاهم والمصالحة، نابذين لغة السلاح والعنف والتطرّف التي لن تؤدّي إلا إلى المزيد من القتل والدمار وتفتيت الوطن.                      

    رحم الله الشهداء، ومنح الجرحى والمصابين نعمة الشفاء، وسكب على القلوب المفجوعة بلسم الصبر والعزاء.

    ولا ننسى أن نحيّي العائلات والأفراد الذين اضطرّوا إلى النزوح والهجرة وترك ديارهم وممتلكاتهم، ومنهم من التجأ إلى لبنان، ونحن نحاول مساعدتهم في تأمين الخدمات الأساسية لهم، ليعيشوا بكرامة خلال هذه الأزمة ـ المأساة التي يمرّون بها. وبكلّ أسى، نشهد أنّ هؤلاء النازحين السوريين ينضمّون إلى إخوتهم العراقيين، إذ أضحوا مهجَّرين بيننا، ونأمل أن يستقبل لبنان، هذا البلد المضياف، جميع اللاجئين إليه بصدرٍ رحب ومحبةٍ أخوية.

    ولا يغيب عن بالنا العراق، بلاد الرافدين، البلد الأمّ لعددٍ كبيرٍ من المواطنين المعذَّبين، الذي لا يزال يعاني ويتألّم، ونحثّ جميع مكوّناته على التعاضد وشبك الأيدي للنهوض به وإحلال الأمن والسلام في ربوعه. ونوجّه محبتنا وصلاتنا بشكلٍ خاص إلى أبناء أبرشياتنا هناك، ونشجّعهم على مواصلة الشهادة للرب في هذا البلد العزيز.

    أما لبنان، وطننا الحبيب، فهو لا يزال يعاني الآثارَ السلبيةَ للإنقساماتِ والتشنّجات، وسط ما يحيط به وما يتهدّده من أخطار، نتيجة حالة الغليان التي تعيشها المنطقة.

    ندعو جميع القيّمين على شؤون المواطنين إلى الحوار والتكاتف والتعاون لإيصال البلاد إلى برّ الأمان، فلا يلغي أحدٌ الآخر، بل يغلّب الكلّ المصلحة العامة على المصالح الخاصة، مخلصين الولاءَ للوطن دون سواه. فله وحده الانتماء، ولا هدف سوى تطوّرِه وازدهارِه ورقيِّ مواطنيه، سيّما على المستوى المعيشي الاقتصادي والاجتماعي. وننوّه إلى أنّ النظامَ اللبنانيَّ المتوافَقَ عليه من الجميع، والذي يؤمّن التوازنَ بين مختلف مكوّنات الوطن، هو الأنسبُ في المنطقة التي لم تصل بعد إلى تطبيق النظام المدني الذي يفصل بين الدين والدولة.

    ولا بدّ لنا من التأكيد، كما فعلنا مراراً وتكراراً، بأننا نحن طائفة السريان الكاثوليك، طائفة مؤسِّسة من طوائف لبنان، بموجب القرار 60 ل ر الصادر في 13 آذار 1936. ومنذ الإستقلال، وحتىيومنا هذا، أي خلال سبعين سنةً، حُرم السريان الكاثوليك من أن يُمثَّلوا بنائبٍ أو وزير. بالإضافة إلى الغبن الكبير الذي لحق بهم في تبوُّء مركزٍ مسؤول في الإدارة اللبنانية، كما لم تُتَح لهم الفرصة للمشاركة في طاولات الحوار الوطني، كلّ هذا بحجّة أنّ طائفتنا هي واحدة من طوائف تمّ التعارف على تسميتها بـ "أقليات".

    إنّ الدستور اللبناني ينصّ على المناصفة بين المسيحيين والمسلمين، نسبياً بين الطوائف. لذا، ليس من العدل أن نُسمّى أقليات. كما نشير إلى أنّ وجود السريان الكاثوليك قديم وعريق وأصيل ومتجذّر في لبنان، منذ نشأتهم وحتى يومنا هذا، وخير شاهدٍ على ذلك أنّ حضورنا فيه يعود إلى ثلاثة قرون، كما أنّ كرسينا البطريركي انتقل إليه منذ أكثر من مئتين وثلاثين عاماً. ولا حاجة إلى ذكر مشاهير السريان الكاثوليكالذين أغنوا الوطنَ بالعلم والفكر السياسي والدبلوماسية والاقتصاد والأعمال. فالطائفة السريانية الكاثوليكية تزخر بالطاقات، على مستوى الثقافة والقانون والاقتصاد والعلوم على أنواعها، وقد قدّمت للبنان ولا تزال تقدّم الغالي والنفيس، كما ضحّت من أجل وجوده وحريته بأرواح عددٍ وفيرٍ من أبنائها سفكوا دماءهم على مذبح الوطن.

    اليوم، وفي غمرة النقاشات الدائرة بصورةٍ علنية حول اعتماد قانونٍ انتخابي يؤمّن صحّة التمثيل، من غير المقبول تجاهُل حقوق طائفة السريان الكاثوليك البتّة. أمّا القول بإعطاء مقعدٍ للسريان، فهذا مخالفٌ لأحكام الدستور اللبناني، إذ لا وجودَ لما يُسمّى "سريان" في النظام اللبناني، إنما هناك طائفتان: سريان كاثوليك وسريان أرثوذكس.

    ونحن إذ لا نبغي امتيازاً على غيرنا، نطالب بإنصافنا وإزالة الغبن اللاحق بنا، عبر منح طائفتنا السريانية الكاثوليكية مقعداً نيابياً حيث يتركّز أكبر تجمّع لأبنائها في بيروت، وتحديداً هنا في منطقة الأشرفية.

    من هنا، نتوجّه بشكلٍ خاص إلى فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، حامي الدستور، من خلال ممثّله بيننا معالي الوزير فريج صابونجيان، واضعين هذه الأمانة بين يديه:

نطالب بمنح السريان الكاثوليك حقَّهم بمقعد نيابي، ولنا ملء الثقة بأنّ فخامته، وهو المؤتمن على دستور البلاد، ومعه جميع المسؤولين في الحكومة والمجلس النيابي، لن يتأخّروا أبداً في إحقاق الحق.

    ختاماً، لا يغيب عن بالنا في هذه المناسبة، أن نتوجّه بالمعايدة إلى أبنائنا وبناتنا في بلاد الشرق وعالم الانتشار في أوروبا وأميركا وأستراليا، شاكرين جميع الذين تعبوا في إعداد هذا الاحتفال وتنظيمه، وبخاصة الكهنة والشمامسة والمجلس الاستشاري والأخويات والحركات الشبابية والجوقة، خاصّين بالشكر كلّ الوسائل الإعلامية، سيّما تلفزيون تيلي لوميار ـ نورسات الذي ينقل وقائع القداس مباشرةً على الهواء.

    نكرّر التهنئة للجميع، وبخاصة لكلّ من يحمل اسم أفرام، وليكن صومكم مقبولاً ببركة الثالوث الأقدس، الآب والابن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

 

إضغط للطباعة