الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لخطاب التأبين الذي ألقاه غبطة أبينا البطريرك خلال رتبة جناز ودفن المثلّث الرحمات المطران مار ثيوفيلوس جورج كسّاب في زيدل ـ حمص

 
 
   

    ننشر فيما يلي النص الكامل لخطاب التأبين الذي ألقاه غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي الكلي الطوبى، خلال رتبة جنّاز ودفن المثلّث الرحمات المطران مار ثيوفيلوس جورج كسّاب، والتي ترأسها غبطته، وذلك يوم الإثنين 28 تشرين الأوّل 2013، في كنيسة سيّدة النجاة للسريان الكاثوليك في زيدل ـ حمص ـ سوريا:

 

"نعمّاً يا عبداً صالحاً وأميناً، كنتَ في القليل أميناً، أنا أقيمكَ على الكثير، أدخل إلى فرح سيّدك"

إخوتي أصحاب السيادة والنيافة المطارنة الأحبار الأجلاء

الآباء الخوارنة والكهنة الأعزّاء

الإخوة الرهبان والراهبات والشمامسة

الفعاليات الرسمية السياسية والأمنية

أبناءنا وبناتنا المحبوبين بالرب فيرعية زيدل وأبرشية حمص وحماة والنبك وتوابعها للسريان الكاثوليك

أيها الحضور الكرام

    نلتقي اليوم ونجتمع في جوّ مملوء بالحزن والأسف، لنودّع أخاً وصديقاً حبيباً، دعاه ربّه وخالقه إلى الحياة الأبدية، نلقي عليه نظرة الوداع، ونشيّعه إلى مثواه الأخير. إنه المثلّث الرحمات المطران مار ثيوفيلوس جورج كسّاب، رئيس أساقفة حمص وحماة والنبك وتوابعها، الذي فقدناه بعد أن عانى الآلام والأوجاع التي أنهكت جسده حتى استسلم لها أخيراً. 

    في مَثَل الوزنات الذي سمعناه في الإنجيل المقدس، يشبّه الرب الفادي نموَّ ملكوت السماوات بالوزنات، أي المواهب، التي يستودعها ربّ العمل خدّامه على تنوُّع قناعاتهم والتميُّز في استعدادهم لقبول تلك المواهب واستثمارها. من هذا المثل، نفهم كم على التلميذ أن يسعى ويجدّ ليتجاوب مع دعوة الرب بروح الأمانة والتضحية والتفاني، في كلّ لحظة من حياته، وفي كلّ عملٍ يقوم به، ليحقّق ربحاً وفيراً لبنيان ملكوت الله، ملكوت السلام والعدل والخير للخليقة جمعاء. عندئذٍ يستحقّ الثناء والمكافأة: "نعمّاً يا عبداً صالحاً وأميناً، كنتَ في القليل أميناً، أنا أقيمك على الكثير، أدخل إلى فرح سيّدك".

    لقد منح الله كلّ واحدٍ من خدّامه مواهب ومسؤوليات، وأوكلنا إيّاها كي تثمر صلاحاً لخير الكنيسة والمجتمع. فنحن، وكلٌّ منّا في موقعه، مكرَّسين كنّا أو مؤمنين علمانيين، وكلاؤه تعالى على الخليقة، وهذه الوكالة تقتضي منّا الأمانة والاجتهاد. فما أعظم هذه الخدمة وما أشرفها! ليس فقط أن نكون خدّاماً للرب، بل وكلاء له، مؤتمَنين على خلاص النفوس.

    من بين الوكلاء المختارين، دعا الرب بامتياز خاص ومجّاني، المثلّث الرحمات مار ثيوفيلوس  جورج الذي جئنا الآن نودّعه ونصلّي من أجله. دعاه كي يسبّحه ويوزّع أسراره المقدّسة في هيكله، ويخدم شعبه المؤمن، أوّلاً كاهناً في بلدته الغالية زيدل، ثمّ أسقفاً على أبرشية حمص وحماه والنبك، يقدّس نفوس المؤمنين، يعلّم ويدبّر. لقد أودعه الرب وزنات عدّة استثمرها خيراً وبنياناً، وذلك بروح الفرح والبساطة. فعرفناه ذاك الوكيل الأمين الذي يعكس وجه الرب في أحلك الأيام وأثقلها وطأةً. وبقوّة ربّه، حوّل أبونا جورج وسيّدنا جورج، الحزن إلى فرح، والحرمان إلى نجاح، والألم إلى فداء. فحق فيه قول المزمور: "ܟܳܗܢܰܝ̈ܟ ܢܶܠܒܫܽܘܢ ܙܰܕܺܝܩܽܘܬܳܐ ܘܙܰܕ̈ܺܝܩܰܝܟ ܫܽܘܒܚܳܐ"، أي:"كهنتكَ يلبسون البرارة وأتقياؤك ينالون المجد".

     

    عرفتُ جورج كسّاب رفيقاً في إكليريكية سيّدة النجاة البطريركية في الشرفة ـ لبنان، ثمّ شمّاساً تلميذاً لي مدّة عامين، فكاهناً بوضع يد المثلّث الرحمات المطران يوسف أبيض عام 1974. وعرفتُه مطراناً عام 2000، بوضع يد المثلّث الرحمات البطريرك الكردينال مار اغناطيوس موسى الأوّل داود، ابنِ هذه الأبرشية، باسم مار ثيوفيلوس جورج، وكان عضواً فعّالاً في مجمع كنيستنا الأسقفي.

    ثابر ناشطاً في خدمته الكهنوتية في رعيته هذه، رعية زيدل، لمدّة تنيف على ستٍّ وعشرينَ سنةً متواصلةً، منصرفاً إلى العمل بحماسٍ وفرحٍ في خدمة النفوس، ممّا جعله محطّ تقدير أبناء الرعية وثنائهم، لما حقّقته هذه الرعية المباركة من تطوُّرٍ اجتماعي ورعوي وروحي، وما سجّله من مواقف، سيّما في حقل الوحدة والحوار. كما أنه أولى اهتماماً بالغاً بتطوير الكنيسة وبيت الكاهن، مضيفاً إليهما بناءً للمدرسة وآخر للنادي والنشاطات الإجتماعية. ولم يغفل عن إكرام أولئك الذين رحلوا عن هذه الفانية، فأقام لهم مدافن جاءت في غاية الجلال والمهابة. كلّ هذا جعل من يتردّد إليه يراه في ورشة عمل لا تهدأ ولا تستكين.

    ولم ينسَ أبداً أن يكرّس جزءاً غير يسيرٍ من وقته وعمله للعناية بالفتوّة والشبيبة، فأقام لهم الدورات والحلقات الدراسية واللقاءات للتعليم المسيحي بصورةٍ منتظمة، ليتعرّفوا على الرب يسوع ويحبّوه ويحملوا رسالته البنّاءة والخيّرة إلى رفاقهم. كما أسّس جوقة تراتيل كنسية يُشار إليها بالبنان.

    وبعد أن انتخب آباء السينودس السرياني المقدّس المطران موسى داود بطريركاً، عيّنه غبطته مدبّراً بطريركياً على أبرشية حمص، إلى أن انتخبه السينودس السرياني مطراناً رئيساً لأساقفة أبرشية حمص وحماة والنبك وتوابعها، وثبّت قداسة البابا يوحنّا بولس الثاني هذا الإنتخاب. فرُقِّي إلى الدرجة الأسقفية، في كاتدرائية الروح القدس في حمص، واتّخذ شعاراً أسقفياً هتاف مار بولس الرسول: "أنا قويٌّ بالمسيح الذي يقوّيني (2 قور 13: 24).

    خلال خدمته الأسقفية في هذه الأبرشية المباركة، بذل الغالي والنفيس ليجسّد شعاره بالقول والعمل. فاتّكل على الرب يسوع في كلّ شيء، مستمدّاً منه القوّة والعون اللازمين لإدارة أبرشيته بروحٍ أبويةٍ وغيرةٍ رسوليةٍ ونظرةٍ ثاقبةٍ نحو المستقبل. قام بأعمالٍ جليلة، ورفع مستوى الأبرشية من الناحية الروحية والإدارية والرعوية، وطوّر أوقافها حتى تؤمّن الأبرشية حاجاتها المادّية بذاتها دون مساعدات خارجية.

    اهتمّ بحياة الكهنة وخدمتِهم، ورعاهم رعاية الأب الحنون، ووفّر لهم التأمين الصحي، وأنشأ صندوق تقاعد الكهنة. جدّد الكنائس والرعايا، وخاصةً مبنى المطرانية في الحميدية ـ حمص، ورمّم كاتدرائية الروح القدس التي جاءت تحفة فنّية كنسية تراثية، قبل أن تنال منها يد الخراب والدمار التي تعبث بحمص وسوريا، فدُمِّر جزءٌ مهمٌّ منها ومن مبنى دار المطرانية ومن أوقاف الأبرشية.

    وعلى أثر شغور الكرسي البطريركي السرياني الأنطاكي باستقالة غبطة البطريرك مار اغناطيوس بطرس الثامن عبد الأحد، اختاره قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر وعيّنه مدبّراً رسولياً للأبرشية البطريركية في لبنان، وعضواً في اللجنة الأسقفية الثلاثية لإدارة الكرسي البطريركي الشاغر. فقام بهذه الخدمة الرسولية خير قيام، إلى جانب مسؤولياته في أبرشية حمص.

    انتُخب وشارك في أعمال لجان سينودسية عديدة، كانت آخرها عضويته ومشاركته الفاعلة في السينودس الدائم لكنيستنا السريانية منذ حزيران من العام 2009.

 

    أيها المبارَكون

    عرفنا المثلّث الرحمات كما عرفتموه أنتم، رجلاً تنبض فيه الإنسانية مبدأً وسلوكاً. عرفنا فيه، قبل كلّ شيء، الإنسان الصادق مع الغير والصدوق مع نفسه. اختبرنا فيه الإنسان المنفتح على القريب والبعيد، الذي يبني جسور الألفة والمودّة بين جميع من التقى بهم.

    وعرفناه رجل الله ورجل الكنيسة، يصغي ويتفهّم ويشجّع. ولأنه كان مختبراً الضعف البشري، عرف كيف يجمع بين الرؤية الواضحة والحزم والحنان. فما ردَّ قاصداً، ولا أهانَ مقصّراً، ولا تردّد في مساعدة محتاج أو مظلوم. وكان مقتنعاً بأنّ الحوار الصادق بين الأفراد والرعاة الروحيين في كنائسنا هو السبيل الأنجع لإحياء الثقة والمشاركة الفاعلة، كما أنّ الإنفتاح والمصارحة مع احترام خصوصية المعتقدات والمذاهب، كفيلان بتمتين أواصر الثقة لعيشٍ مشترك بنّاء بين المسيحيين والمسلمين. فكم نحتاج إلى أمثاله في زمنٍ كادت فيه المبادئ تتحوّل إلى مجرّد شعارات رنّانة! 

    في نص رسالة القدّيس بولس الرسول إلى تلميذه تيموتاوس، يوصي الرسول تلميذه أن يكون أميناً لدعوة الرب السامية، أي أن يكون رسولاً وخادماً للرعية، أميناً للرب الذي دعاه، وأميناً للكنيسة التي احتضنَتْه ورعَتْه. وهكذا يعطي ذاته مثالاً حيّاً للتلميذ الأمين: "قد جاهدْتُ الجهاد الحسن، أكملْتُ السعيَ، حفظْتُ الإيمان، وأخيراً قد وُضِعَ لي إكليلُ البِرِّ، الذي يهبه لي في ذلك اليوم، الربُّ الديّانُ العادلُ، وليس لي فقط، بل لجميع الذين يحبّون ظهوره أيضاً" (2 تيم 4: 7ـ8).

    لقد قاسى رسول الأمم الكثير من التضحيات والآلام والصعوبات لنشر بشرى الخلاص والشهادة لإنجيل المحبة والسلام. وظلّ مستعدّاً على الدوام ليلاقي وجهَ معلّمه الإلهي الذي استحوذ عليه بكلّيّته عندما أضاء له بنوره على طريق دمشق، فجعله رسولاً عظيماً لا تزال الكنيسة تتأمّل بسيرته وتتغذّى من مَعين تعاليمه السامية.

 

    خلال كلّ سني خدمته الحافلة بالعطاء، كان المثلّث الرحمات رجلاً مليئاً بالحيوية والنشاط، ينشر الرجاء ويدعو الجميع إلى الثبات، إكليروساً كانوا أم علمانيين، وبخاصة في الفترة الأخيرة حيث تمرّ سوريا الحبيبة بأزمةٍ أليمةٍ وحربٍ ضروس تفتك بالبشر والحجر.

    فها نحن نرى هذا البلد الآمن الذي كان ينعم مواطنوه بعيشٍ كريم وحياةٍ هانئة، أضحى بركاناً متفجّراً دماراً ودموعاً ودماء. وقد خلّف المآسي والآلام والإنهيار الاقتصادي والاجتماعي، ممّا لم يُعرَف في تاريخ البشرية لعقود طويلة!.

    ومن هذا المنبر المقدّس، نعلي الصوت متوجّهين إلى كلّ مسؤولٍ عمّا يحصل على أرض هذا الوطن إلى أيّ جهةٍ انتمى، أن يعود إلى ضميره ويفعِّل حسّه الوطني، فيغلّب المصلحة العامّة على المآرب الخاصة الرخيصة. فتتضافر الجهود، ويتعاون الجميع لإعادة سوريا الحبيبة، إلى سابق عهدها، يسودها الأمان والسلام، ويميّزها الإستقرار الإجتماعي والسياسي. فليثمّن جميعنا نعمة العيش معاً لكلّ فئات الوطن.

    حرامٌ ما يجري من أعمال عنف ومن تشويهٍ عبثي مجرم للتاريخ القديم والحديث. بالله عليكم، إتّقوا الله، واسعوا إلى خلاص وطنكم، فهو الملجأ والمأوى الذي لا مناص منه.

    ونحن نؤكّد لكم، أيّها الإخوة والأخوات والأبناء والبنات الأعزّاء، أنّ أفكارنا وقلوبنا وعواطفنا معكم، نشدّ على أياديكم، ونصلّي من أجل سلامتكم، ومن أجل ثباتكم، بالرغم من هول الأخطار التي تحيط بكم، والتحدّيات التي تجابهونها، ضارعين إلى الله أن يكلأكم بعين رعايته، ويصونكم من كلّ ضيق وخطر وشدّة. ونصلّي من أجل أهلنا وأبنائنا في أبرشياتنا الأربع في سوريا، من دمشق إلى حمص وحلب فالجزيرة، ونخصّ أهلنا في صدد والحفر الحبيبتين، الذين يعانون اليوم من الظلم الذي طالهم، سائلين الباري عزّ وجلّ أن يفرّج كربهم، ويحميهم من كل سوء، فيجتازوا بإيمانٍ ورجاءٍ هذه المحنة العصيبة.

 

    أيها الأحبّاء

    عندما نصلّي الصلاة الربانية، نقول "لتكن مشيئتك يا ربُّ كما في السماء كذلك على الأرض". نعم نحن نسلّم بمشئية الله ونقبلها، وإن كان الألم يعصر قلبنا وقلوب المحبّين لغياب هذا الوجه المشرق في كنيستنا السريانية.

    يقول سليمان الحكيم في أمثاله: "المحبّة أقوى من الموت"، و"مياهٌ كثيرةٌ لا تستطيع أن تطفئ نار المحبة". لنتوجّه إلى أبينا وسيّدنا وصديقنا الغالي تيوفيلوس جورج بهذه العبارات: "في غيابك هذا أبعدْتَ الأفراح عن صفوفنا، زرعْتَ الكآبة في نفوسنا، ملأتَ الحزن في قلوبنا، أضفْتَ إلى أتعابنا البشرية تعب الذكرى المؤلمة. لكنّنا شعب إيمان وشعب رجاء، لذلك عندما نفقد عزيزاً، نجدّد فعل إيماننا وثقتنا بالمعلّم الإلهي القائل "أنا معكم كلّ الأيّام وحتى انقضاء الدهر". ولأنّ مسيرتنا الأرضية، مهما طالت أو قصرت، عليها أن تتكلّل بنور القيامة، وتكون انعكاساً لمحبة الله للبشر، فنحن قادرون بنعمته تعالى على تحمُّل فراق الأحبّاء مهما كان قاسياً علينا!

 

    يا ربّ، أنتَ الذي نقلتَ حبركَ مار ثيوفيلوس جورج كسّاب، إجعل الجنّة مأواه، وملكوت السماء مثواه، ومع الأبرار والصالحين سكناه، ليكون حبراً يصلّي من أجل هذه الكنيسة، يصلّي من أجل هذه الأبرشية، يصلّي من أجل هؤلاء المحبّين والمحبوبين، يصلّي من أجل المؤمنين، يصلّي من أجل العالم، كلّ العالم، وخاصّةً من أجل سوريا الحبيبة، لتستعيدَ عافيتها وأمنها وسلامها وازدهارها.

    فلنتابع هذه الرتبة المقدسة، موجّهين أنظارنا نحو مذبح الرب، متذكّرين أنّنا جميعاً أهل السماء، وأنّ حياتنا على هذه الفانية ما هي إلا مسيرة نحو الأبدية. ولنصلِّ بروح الإيمان والرجاء من أجل راحة الفقيد الغالي، ومن أجل تعزية كنيستنا السريانية، أساقفةً وكهنةً وشمامسةً ورهباناً وراهباتٍ ومؤمنين، ومن أجل ذويه الحاضرين بيننا، وأولئك المنتشرين في بلاد المهجر. رحمه الله، وليكن ذكره مؤبّداً.

 

إضغط للطباعة