الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في قداس عيد مار أفرام السرياني

 
   

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي الكلي الطوبى، خلال القداس الحبري الرسمي الذي أقامه غبطته بمناسبة عيد القديس مار أفرام السرياني ملفان الكنيسة الجامعة، وذلك في تمام الساعة الخامسة من مساء يوم السبت 8 آذار 2014، في كاتدرائية سيدة البشارة ـ المتحف ـ بيروت:

 

غبطة أخينا الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة الكلّي الطوبى

Son Excellence Mgr Gabriele CACCIA, Nonce Apostolique au Liban

أصحاب السيادة رؤساء الأساقفة والأساقفة ممثّلي أصحاب الغبطة البطاركة

قدس الآباء والأمّهات رؤساء ورئيسات الرهبانيات

حضرات الآباء الكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة الإكليريكيين، والمؤمنين المباركين،

أتوجّه أوّلاً باسمكم بكلمات شكر للرسميين الحاضرين معنا في هذا الإحتفال:

معالي الأستاذ نبيل دو فريج وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية الأكرم، ممثّل فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان، ودولة رئيس مجلس الوزراء الأستاذ تمّام سلام،

سعادة النائب آغوب بقرادونيان الأكرم، ممثّل دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه برّي،

أصحاب المعالي والسعادة الوزراء والنواب والسفراء والقيادات المدنية والعسكرية وممثّلي الأحزاب والفعاليات

 

"أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه" (لوقا 12: 31)

    يدعونا الرب يسوع أن نتحرّر من ربقة المادّة، لننطلق في عالم الروح، حيث يعدنا خالقنا ومدبّرنا بملكوت السعادة والبرارة، كالهدف الأسمى والغاية المثلى في حياتنا. وهذا هو معنى الصوم الذي هو مسيرة روحية نحو الملكوت، تحثّنا فيه الكنيسة كي ننقّي أفكارنا، ونلطّف أقوالنا، ونمارس أعمال المحبّة والرحمة، فنحيا حياة "البرّ والسلام والفرح في الروح القدس" (رو 14: 17).

    لقد جعل الرب يسوع الأولوية في حياة الإنسان أن يطلب ملكوت الله، وكأنّ به يقول لتلاميذه، ولنا نحن أيضاً معهم: كونوا منشغلين في حياتكم بأمور الله، والله نفسه سيتولّى أموركم. فإن كانت غاية حياتنا ملكوت الله وبرّه، فلا بدّ من أن نعيش القناعة في سعينا لتحقيق آمالنا وطموحاتنا المشروعة التي ترضي الله وتبني إنساننا وقريبنا: "وهذا كلّه يُعطى لنا ويُزاد" كما يقول الرب.

    "أطلبوا أوّلاً ملكوت الله وبرّه": أي أن تستمدّوا النعمة من لدن الله، فتتّحدوا معه وفيه، مجسّدين قوّة الإيمان في كلّ ثنايا حياتكم، ناثرين حولكم البسمة والرجاء، سيّما في زمن التحدّيات والآلام. وحسبما سمعنا في رسالة مار بولس إلى أهل تسالونيكي: "... أن تشجّعوا الخائفين، وتساعدوا الضعفاء، وتصبروا على جميع الناس... وألا تعيقوا عملَ الروح..." (1 تسالونيكي 5: 14 و19).

    وها إنّ أحد آباء الكنيسة يجود بالتعبير عن الملكوت داخل المؤمن، والذي لا يحتاج إلا إلى التسليم بمشيئة الله وعنايته، فيقول:"ܗܳܐܡܰܠܟܽܘܬܳܐܠܓ̣ܰܘܡܶܢܳܟܗ̱ܝܚܰܛܳܝܳܐ܆ܒܓ̣ܰܘܠܶܒܳܟ̣ܥܽܘܠܘܰܒܥܺܝܳܗ̇"،وترجمته: "ها هو الملكوت داخلك أيها الخاطئ، أدخل إلى قلبك واطلبه".

 

    أيّها المبارَكون،

    نجتمع اليوم في هذه الكاتدرائية المباركة المكرَّسة على اسم أمّنا العذراء مريم سيّدة البشارة، لنحتفل بعيد قدّيسٍ عظيمٍ، هو مار أفرام السرياني، ملفان أي معلّم الكنيسة الجامعة في شرقها وغربها. وقد أراد لتواضعه أن يبقى شمّاساً أي خادماً، عاش سماءه على الأرض، وضحّى بكل شيءٍ لنيل ملكوت الله، وقد طلبه بإلحاحٍ، بل لم يطلب سواه. ثمّ تبعه واقتفى إثره عددٌ لا يُحصى من النسّاك والزهّاد في مختلف أرجاء بلادنا المشرقية، جبالاً وأوديةً وبوادٍ.

    نحيي اليوم ذكرى هذا الملفان، شفيع كنيستنا السريانية، ابن نصيبين، شمّاس الرها. وقد سمّاه وأعلنه ملفاناً للكنيسة في العالم أجمع،في براءة بابوية عام 1920، البابا بنديكتوس الخامس عشر، وذلك على طلبٍ من سلفنا الأسبق البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني رحماني.  

    لقد عُرف أفرام اللاهوتي، بغزارة علمه، وتعمّقه في شرح الكتاب المقدّس، وتميّز بتأمّلاته الرائعة ببساطتها. كما أنّه اشتهر كشاعرٍ في قصائده المسمّاة "ميامر" و "مداريش"، ومنشدٍ متولّهٍ بحبّ ربّه يسوع وأمّه السماوية مريم العذراء. فأضحت كتاباته شعراً ونثراً مراجع في عقائد الإيمان، حتى أنّ تقليد الآباء منذ قديم الأجيال لقّبه بـ "كنّارة الروح القدس".

    تشارِكُنا في التراث السرياني الذي يمثّله مار أفرام بغناه وجماله، جميع الكنائس الشقيقة ذات الجذور الأنطاكية، من شرقية وغربية: وهي السريانية الأرثوذكسية، والسريانية المارونية، والكلدانية، وكنيسة المشرق الآشورية، والكنائس السريانية الملنكارية والملبارية في الهند، وقاسمها المشترك ينابيع التراث السرياني العريق. يكفي هذه الكنائس الأخيرة فخراً أنّها ما زالت تستعمل اللغة السريانية في صلواتها، وأنّ أكبر وأهمّ معهدٍ عالٍ للدراسات السريانية موجودٌ اليوم في كيرالا ـ الهند، تحت اسم "معهد مار أفرام للبحوث المسكونية (سيري)".

    وُجد السريان في الشرق الأوسط منذ القِدَم، وأغنوه بحضارتهم العريقة، وبلغتهم التي تكلّمها الرب يسوع والعذراء مريم والرسل الأوّلون. في لبناننا مثلاً، كم وكم من أسماء الأماكن الجغرافية، ساحلاً وجبلاً وسهلاً ذات أصلٍ سرياني ، وكم من اللهجات المحلّية تذكّرنا باللغة السريانية الجميلة!

 

    "إقبل الصليب ولا تصلب أحداً"،

    هذه العبارة للقدّيس مار اسحق السرياني تلخّص معاناتنا نحن المسيحيين المشرقيين في هذا الشرق، وتعلن عن مسيرتنا الممزوجة بالدموع والدماء. ومنذ فجر المسيحية وإلى يومنا هذا، دُعينا لنقدّم الشهادة لإنجيل المحبّة والسلام، حتى الإستشهاد في سبيل معلّمنا وربّنا يسوع المسيح، الذي جاء يعلّم ويعمل الخير، داعياً ذوي الإرادة الصالحة إلى الإرتقاء فوق الذات للإتّحاد بالله بعبادة الروح والحق. فمن أورشليم الكنيسة الأمّ، ومن أنطاكية سوريا "مدينة الله العظمى" كما سمّاها يوستينوس، ومن لبنان والعراق، انطلق تلاميذ المعلّم الإلهي حتى أقاصي ما سمّي الشرق القديم، أي حتّى سواحل الهند والصين، ينشرون بشرى الخلاص السارّة. هذه هي مسيرة المسيحيين في بلادنا المشرقية عبر تاريخهم الحضاري الشاهد والشهيد. لقد قَبِلْنا الصليب وعانقناه، وتعهّدنا أن نرفعه عالياً، لا للتحدّي ولا للتخويف، بل رفعناه آيةً للحبّ اللامتناهي، وللسلام بين جميع الشعوب.

    كم كنّا نأمل ونصلّي بأن تتضمّن موعظتنا لهذا العام الشكر لربّنا على خلاص بلداننا العربية من معاناتها، بإشراق شمس ربيعها الحقيقي، إلاّ أنّ مشيئة الرب غير المدرَكة: هيأن نحمل صليبنا معه في مسيرةٍ طالت وتكاد لا تنتهي!

 

    من أرض لبنان حيث الصراعات المحلّية والإقليمية ما زالت تهدّد مصيره، وتكاد تقضي على فسحة الأمل بنهضته، نصلّي كي ينير الله جميع المسؤولين ليتّفقوا بنزاهة على خدمة الشعب اللبناني "المصلوب". لقد رحّبنا جميعنا بالجهود الخيّرة التي تكلّلت أخيراً، وبعد انتظارٍ مضنٍ، بتشكيل الحكومة. وجميعنا ينتظر أن تكون هذه الحكومة فاعلةً ومسؤولةً أمام الشعب ومؤسّساته المدنية، بعيداً عن الحسابات والتحزّبات والتجاذبات، مذهبيةً كانت أم سياسية. لقد تعب هذا الشعب وطالت معاناته، أذلّه الفساد وأفقرته البطالة، وكاد يفقد الثقة بالقيّمين على خدمته وتدبير شؤونه الحياتية والإجتماعية.  

    وهنا لا بدّ لنا أن نشارك غبطة أخينا البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي ومجمع كنيسته همومهم، فنؤيّد من دون تحفُّظٍ "المذكّرةَ الوطنية" التي أصدروها في مطلع شهر شباط المنصرم، المرتكزة على "العيش المشترك والوفاق الوطني والصيغة". وهي الصيغة المثلى التي تحافظ على لبنان، وتعكس حضارته في محيطه ورسالته في العالم.

 

    من هذه الكاتدرائية، وفي هذا اليوم المبارك، نتوجّه بقلب الراعي الأب، إلى أبنائنا وبناتنا في سوريا التي تئنّ منذ أعوامٍ ثلاثةٍ، نتيجة حربٍ خلّفت عشرات الآلاف من القتلى، وأعداداً أكبر من الجرحى، وهجّرت الملايين قسراً، وأضحى عدد النازحين فيها وخارجها يتصدّر قائمة اللاجئين المنكوبين في العالم! بلدٌ عُرِفَ إلى سنواتٍ قليلةٍ، بالرغم من النقائص والأخطاء، أرضَ أمانٍ وتعدّديةٍ واعتدال، أضحى اليوم مسرحاً مخيفاً للقتال والدمار، يدير إخراجَه الكارثي شحنٌ طائفي خارجي غير مسبوق. نصرخ ونقولها بالفم الملآن في وجه العالم الذي يدّعي الحضارة ويستأثر بشرف الدفاع عن الحرية والديمقراطية: كفاكم استهتاراً بعقول البشر! إنّ تواطؤَكم المقيت مع الذين يدّعون الشعارات الثورية سيقود لا محالة إلى شمولياتٍ دينيةٍ مخيفة... كفاكم لعباً ماكييفالياً بمصير الملايين من الأبرياء، أطفالاً ونساءً، شباباً وشيوخاً! أوَلا يحقّ لنا أن نتساءل كيف يمكن أن يُختطَف مطارنتنا وكهنتنا وراهباتنا، فيما تبقون غير مبالين..؟ بل تحثّون على المزيد من التسليح، كي يعمّ الخراب، وتكثر ضحايا القتل والتشريد، وتُنحَر حمامة السلام! أين مصداقيتكم وأنتم تصرّون على إطلاق الدعوات المُغرضة والمضلّلة، رافعين شعارات "ربيع" طال انتظاره...

    كنّا، منذ البداية، ولا نزال ندعو مع إخوتنا الرعاة الروحيين، جميع مكوّنات الشعب السوري، ألا يبخلوا بأيّ جهدٍ للتلاقي دون شروط على طاولة الحوار والمصالحة، واضعين نصب أعينهم المشروع الوحيد وهو إنقاذ وطنهم من هوّة التقاتل البغيض، فيجترحون بصدق وأمانة أعجوبة الحرّية والعدالة وكرامة الإنسان، كلّ إنسان، لأيّ دينٍ، أو مذهبٍ أو قوميةٍ أو حزبٍ انتمى. وسنظلّ نشارك قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس وجميع ذوي الإرادات الصالحة، في دعوة كلّ من لهم دورٌ من دولٍ ومنظّماتٍ، إلى تحكيم الضمير، ونبذ العنف، وتوحيد الرأي، لإنهاء الصراع في سوريا، بالحوار والمصالحة والتآخي، لأنّنا نؤمن بأصالة شعبها.

 

    أمّا العراق، الذي طالت معاناته وآلام مواطنيه، فإنّنا نتوجّه إلى جميع مكوّناته، ونحثّهم على توحيد جهودهم في سبيل نبذ التفرّق، مذهبياً كان أو سياسياً، ليلتقوا على حبّ وطنهم وخير شعبه. ندعو جميع المواطنين في بلاد الرافدين، أن يسعوا مع المخلصين من المسؤولين، لتحقيق المصالحة النزيهة بين جميع الفئات، نابذين العنف والإنتقام، فيستعيد المواطنونثقتهم بذاتهم وحكّامهم ووطنهم. كما نحثّ من اضطرّ على الهجرة أن يعود إلى أرض الأجداد، متحدّياً الأخطار كافةً، فيساهم في مشروع نهضة الوطن وبنائه.

       

    ونصلي مع أبناء كنيستنا في مصر، سائلين أن تحمل إليهم الإنتخابات القادمة الأمن والسلام، وأن تنتهي موجة العنف التي أصابتها نتيجة الأحداث الأخيرة، فتعود مصر مزدهرةً، يعيش مواطنوها معاً مهما اختلفت انتماءاتهم وتوجّهاتهم.

       

    ولا ننسى أن نحيّي أبناءنا فيالأراضي المقدّسة، ونحن نتهيّأ معهم للمشاركة في استقبال قداسة البابا فرنسيس في زيارة الحجّ التي سيقوم بها إلى ديارهم خلال شهر أيّار القادم، راجين أن تساهم هذه الزيارة البابوية بالإسراع في تحقيق الحق والعدل للشعب الفلسطيني. كما نحيّي أبناءنا في الأردن وتركيا وسائر بلاد الشرق.

       

    ونتوجّه بالمحبّة والبركة إلى أبناء كنيستنا وبناتهافي عالم الإنتشار، ونحثّهم كي يحافظوا على وديعة الإيمان، ويعتزّوا بتقليد الآباء والأجداد العريق، ويوثقوا ارتباطهم بوطنهم الأمّ، ويفعّلوا محبّتهم لإخوتهم وأخواتهم المعذَّبين في بلاد نشأتهم المشرقية.

 

    وخير ما نختم به، ونحن نعيش زمن الصوم والإستعداد لاستقبال عيد قيامة الرب يسوع، قولٌ للقدّيس أفرام السرياني، يدعونا فيه إلى طلب مراحم الرب وغفرانه وتمجيده:

    ܒܨܰܦܪܳܐ ܡܩܰܕ̈ܡܳܢ ܒܶܪ̈ܝܳܬܳܐ: ܘܢܳܩ̈ܫܳܢ ܒܬܰܪܥܳܟ ܚܰܢܳܢܳܐ. ܕܬܶܬܶܠ ܠܗܶܝܢ ܡܶܢ ܒܶܝܬ ܓܰܙܳܟ: ܚܢܳܢܳܐ ܘܪ̈ܰܚܡܶܐ ܘܫܽܘܒܩܳܢܳܐ܀

    وترجمته: "في الصباح تتقدّم البرايا قارعةً بابك أيّها الحنون، ملتمسةً أن تمنحها الحنان والرحمة والمغفرة من كنزك الثمين.

 

    يا إلهاً واحداً في سرّ ثالوثه الأقدس، أهّلنا أن نشهد لمحبّتك، ونطلب رحمتك وحنانك، واثقين من فيض كرمك وجودك، رافعين لك دوماً نشيد المجد والشكر والتسبيح، فننال بركاتك الفائضة كلّ حين. آمين.                                                

    عيد مبارك عليكم جميعاً.

 

 

إضغط للطباعة