الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في القداس الإلهي الحبري الرسمي بمناسبة عيد مار أفرام السرياني

 
 

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال القداس الإلهي الحبري الرسمي الذي احتفل به غبطته بمناسبة عيد القديس مار أفرام السرياني ملفان الكنيسة الجامعة، وذلك مساء يوم السبت 4 آذار 2017، في كاتدرائية سيّدة البشارة – المتحف – بيروت:

 

    كلمة ترحيب بـــــ:

- صاحب الغبطة والنيافة الكردينال مار بشاره بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة

- سعادة السفير البابوي المطران كبريالي كاتشا،

- أصحاب السيادة رؤساء الأساقفة والأساقفة ممثلي أصحاب الغبطة البطاركة، قدس الآباء والأمهات رؤساء ورئيسات الرهبانيات، حضرات الآباء الكهنة والإخوة الرهبان والراهبات، والمؤمنين المباركين،

 

    أتوجّه أولاً باسمكم بكلمات شكر للرسميين الحاضرين معنا في هذا الاحتفال لكنيستنا السريانية في عيد شفيعها مار افرام السرياني.

 

- معالي الوزير ميشال فرعون ممثّل فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، ودولة رئيس مجلس النواب نبيه برّي، ودولة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري

- معالي الوزير بيار بو عاصي ممثّل سعادة الدكتور سمير جعجع رئيس حزب القوات اللبنانية والنائب ستريدا جعجع

    الوزراء والنواب والقيادات المدنية والعسكرية

" اطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه، وهذا كلّهُ يُزادُ لكم" (متى 6: 33)

 

    هذه الكلمات التي سمعناها منذ قليل في موعظة سمّيت "موعظة الجبل"، كما يوردها لنا الإنجيلي متى في الإصحاح السادس، هي أشبه ب "أيقونة" حكمية، أطلقها المعلّم الإلهي، كي يذكّرنا بأولى الأولويات في حياتنا، أي أن نرفع أعيننا وقلوبنا إلى العلى، طالبين قبل كل شيء أن ينتشر ملكوت الآب السماوي في العالم أجمع، وأن يتملّك برّه قلوبَ البشر. وهذا شرطٌ أساسي للنعم والخيرات الحقيقية. وكما يقول الرب في موعظة الجبل ذاتها: "حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك" (متى 6: 21)، نحن جميعنا مدعوون إلى أن نكنز لنا في السماء كنوزاً روحية لا تفنى، وهناك تكون سعادتُنا الحقيقية.

    إنها حكمةٌ تتخطّى الزمان والمكان، فالقلب يمكنه أن يضحي سبباً لسعادة الإنسان كما لشقائه. ولو أننا غالباً ما نريد أن نتجاهل عطش قلبنا إلى المطلق، إلى الحق والمحبّة، فنركض لاهثين وراء أكثر من سراب دنيوي، ونبحث عن كنوز زائلة تُغرينا فتكبّل حريتنا وتستحوذ على قلبنا، وتضيع الأولويات في حياتنا، فتصبح وكأنها شاشةٌ مشوّشة! بينما نشعر في قرارة نفوسنا، أنّ لا شيء ولا أحد يقدر أن يملأ فراغ نفسنا سواه تعالى، كما قال القديس أغسطينوس وهو من أشهر الآباء في الكنيسة: "خلقتَنا لك يا رب، وقلبنا لن يستريح حتى يستقرّ فيك!".

    وبالرغم من خطايا البشر، كبيرها وصغيرها، وما سبّبته وتسبّبه من آلام تفوق أحياناً ما تجلبه الكوارث الطبيعية، نشكره ونحمده تعالى لأنه أهدانا ولا يزال، إخوةً وأخواتٍ لنا في الإنسانية، سعوا في حياتهم إلى طلب ملكوت الله، ووجدوا في الرب يسوع كنزهم الأوحد، استقرّ قلبهم فيه فملأ قلبَهم حبّاً وسعادة. هم القديسات والقديسون الذين حلّقوا في سماء الروح، وأضحوا مشاعل تضيء ظلمة حياتنا، وتحثّنا على البحث عن الكنز الحقيقي الذي يسدّ جوعنا الروحي ويسعد قلوبنا، ألا وهو الحنين الخفيّ والمستمرّ إلى إله الخير والحق والمحبّة.

    عبرَ مسافات شاسعة من الزمن، نعود إلى القرن الرابع الميلادي، لنكتشف وجهاً مشرقاً في تاريخ كنيستنا المشرقية وفي مسيرة البشرية الروحية. إنه مار أفرام، الذي تعيّد له كنيستنا السريانية في السبت الأول من الصوم الكبير. فهي تتذكّر حياة الزهد لهذا القديس الناسك في الروح والمتقشّف في الجسد. أحد الآباء المشرقيين الذي عاش في شمال ما بين النهرين، ومعه ننشد هذه الأبيات الرائعة في الصوم: "ܟܶܦܢܶܬ ܟܡܳܐ ܙܰܒܢܺܝ̈ܢ ܕܰܟܝܳܢܝ̱ ܬܳܒܰܥ ܗ̱ܘܳܐ܆ ܘܶܐܬܟܠܺܝܬ ܘܠܳܐ ܐܶܟ̣ܠܶܬ܆ ܕܶܐܫܬܘܶܐ ܠܗܰܘ ܛܽܘܒܳܐ ܕܰܢܛܺܝܪ ܠܨܰܝܳܡ̈ܶܐ"، وترجمته: "صمتُ مراراً لأنّ كياني طالبني، فامتنعتُ عن الطعام، كي استحق الطوبى التي حُفظت للصائمين".

    مار أفرام السرياني ابن نصيبين عرف التهجير أقّله مرتين في حياته. سُلخ عن أرض آبائه وتهجّر غرباً إلى مدينة الرها، هرباً من الأعداء الذين احتلّوا مدينته. وهذا النزوح القسري لأفرام في القرن الرابع، يذكّرنا اليوم بشعبنا المسيحي وقد ذاق على مرّ العصور مرارة الطرد والتهجير. وأكبر شاهدٍ على ذلك هو حضور أولادنا من النازحين من العراق وسوريا بيننا: كدليل واضح للمعاناة التي ألمّت بكنيستنا السريانية. في صيف عام 2014، فرض الإرهابيون التكفيريون على المسيحيين وبعضٍ من المكوّنات الصغيرة، الإقتلاع من أرض الآباء والأجداد في الموصل وسهل نينوى، العراق. ومنذ ستّة أعوام، ومن جرّاء حروب عبثية في سوريا، لا يزال المسيحيون والكثير من الأبرياء يُطرَدون من بيوتهم وأرضهم، لا سيّما من مناطق في شمال شرق سوريا. هؤلاء وأولئك جميعهم يعانون الأمرّين وأفق المستقبل مظلم ومخيف! يتيهون سائحين في أراضٍ غريبة، ينشدون وطناً يؤمّن لهم ولأولادهم الحرّية الدينية والكرامة الإنسانية. كل ذلك يجري على الملأ، والمجتمع الدولي لا يزال عاجزاً عن إنهاء هذه الحروب والصراعات المسلَّحة لإسبابٍ وغاياتٍ بعيدةٍ كلّ البعد عن قيم الشرائع والمواثيق الدولية، وبخاصة الشرعة العالمية لحقوق الإنسان.

    أفرام، الشمّاس، أي الخادم، خادم البيعة والمجتمع: كرّس نفسه لخدمة الجماعة الكنسية الناشئة في نصيبين والرها، متجاوباً وإرشاد الرعاة، فشارك في الصلوات والرتب الطقسية وقمّتها ذبيحة القداس الإفخارستية، واختار حياة الزهد المكرَّسة بروحانية المشورات الإنجيلية، مقرونةً برسالة الشهادة لأولوية الروح في مجتمعه المضطرب، فسار على خطى معلّمه الإلهي، رجل صلاة وعمل، شاعرَ الروح المتأمّل والمُنشد.

    هذا القديس من شرقنا، رفعه البابا بنديكتوس الخامس عشر عام 1920 إلى رتبة ملفان الكنيسة الجامعة قاطبةً، أي معلّماً مسكونياً في كنائس الشرق والغرب. ويُعتبر ملافنة البيعة، منهلاً صافياً منه تُستقى المعارف الروحية وشرح الكتاب المقدس وتفعيل أسرار الخلاص.

    أفرام الشاعر، وقد لُقِّب ب "قيثارة الروح القدس": لقد طبع أفرام عصره ببصمات مواهبه الرائعة، فخلّد لنا تراثاً شعرياً، لاهوتياً وكتابياً مميّزاً، يعدّ مفخرةً لكنائسنا السريانية ولمشرقنا الآرامي إلى يومنا هذا، وبه تفاخر كنيستنا السريانية والكنائس الشرقية ذات التراث السرياني، كالمارونية والكلدانية والملنكارية في الهند. فكان مبدعاً بشاعريته المميّزة بالبساطة والعفوية والخيال. لقد أتحفنا بــــ "الميامر" أي القصائد، وبـــ "المداريش" أي الأناشيد، والشروحات الكتابية والطقسية التي أضحت إرثاً حضارياً للعديد من الشعوب ذات الجذور الساميّة.

    أفرام، الشادي المريمي، الذي تولّه بشخص العذراء مريم والدة الله، وبدورها الفريد في تدبير الخلاص. إنّ انجذابه إلى التبحّر في سرّ مريم، حواء الثانية، التي قبلت في أحشائها الطاهرة، كلمة الله، الكنز الخفي منذ بدء الكون، أطلق فيه مواهب إنشادية لا تزال كنائسنا ترنّمها بإعجاب واعتزاز.  فهو أوّل مَن أنشد: "بثولتُا يِلدَت دومُرُا"  أي "البتول ولدت عجباً..".  ويزداد افتخارنا بشادي القرن الرابع، ابن نصيبين، عندما نراه يخرق الأعراف فيُؤلّف جوقة للفتيات لينشدنَ الترانيم الشعبية العذبة، تسبيحاً لله وتكريماً لوالدته الطوباوية. لذا يحق لنا القول إنّ مار أفرام قد دخل التاريخ، لإعطائه المرأة الكرامةَ الإنسانية التي تستحقها ودورها المميّز في صلوات الكنيسة.

    أفرام الشاهد لمعلّمه المخلّص الإلهي، فهو لم يكتف بعيش التكرّس للملكوت، مختلياً إلى الصلاة والصوم وممارسات التقشّف فحسب، ولم تهدف مؤلّفاته الغزيرة شعراً وشرحاً وتعليماً، إلى التباهي بغزارة علمه وتفوّقه، بل نعرف من تلاميذه العديدين أنه عاش أيضاً شهادة الإيمان بتبنّي قضايا شعبه العادلة والمصيرية. لقد قرنَ القول بالفعل، وجمع بين التقوى والتدرّج في سلّم الفضائل وبين العمل الرسولي الملتزم. اختار الزهد والتكرّس، كي يستمدَّ النعمة والقوّة من علُ، ويشارك في معاناة أهل زمانه، فتحمّل أنواع الإضطهاد حتى الإنسلاخ عن الأرض. وبتغرّبه هذا، يعطينا المثل في التضحية والبذل من أجل القريب، ونعني بالقريب هذا "الآخر- الغريب "، أي الذي قد لا تجمعنا وإيّاه صلة قربى أو رابطة طائفة ودين. 

    على مثال شفيعنا مار أفرام، سعتْ كنيستنا السريانية أينما وُجدت، شرق دجلة وغرب الفرات، في مشرقنا المتوسّط كما في بلاد الانتشار، ورغم التشتّت والإضطهاد والتهحير، سعتْ كي تبقى أمينةً لدعوتها، كنيسةً رسولية، ناشرةً حضارتها ذات الجذور الآرامية الأصيلة لمشرقنا، معترفةً وشاهدة ومستشهدةً حبّاً لمعلّمها الإلهي وكارزةً حيّةً لإنجيل المحبّة والسلام.

    في نظرةٍ عامةٍ وجولة أفق حول بلدان شرقنا الرازحة تحت وطأة الحروب والنزاعات، تتآكلها المصالح والصراعات، نرى كم يشبه يومُنا الحاضر الأمسَ القريب والبعيد. فمن العراق إلى سوريا، ومن الأراضي المقدّسة إلى مصر، بلادنا المشرقية تنزف دماً ودماراً وتنهارُ خراباً. تدمع عيوننا وتتفطّر قلوبنا عندما نعاين، رغم أنّنا في الألفية الثالثة، مجموعات إرهابية تكفّر، تذبح وتقتل المواطنين الأبرياء لمجرّد أنّهم مختلفون عنها ديناً أو طائفةً، وتعيث الفساد من حولها فاتكةً بالبشر والحجر. ولكن رغم الآلام التي تحلّ بنا، نحن على ثقةٍ بأنّ الله "يوجِد من المحنة خلاصاً"، فهو الراعي الصالح الذي يسهر على القطيع، ويشجّعه للإنطلاق في جدّة الحياة بإيمانٍ ثابتٍ لا تزعزعه الأنواء ولا تنال منه الشدائد.

    ونحن في هذا الوطن المحبوب والمميّز لبنان، نعتبر أنه واجب علينا كما على غيرنا من مختلف الطوائف، كبيرة كانت أم صغيرة، أن ندافع عنه، وطناً حرّاً، وطناً للجميع، وطناً لجميع الطوائف وليس حكراً على طائفة أو دين. ولكوننا قد عانينا الأمرّين في مناطق أخرى من هذا الشرق، من أجل حرّيتنا الدينية وكرامتنا الإنسانية، سنظلّ نثمّن النظام القائم في لبنان، بالرغم من نقائصه ومحدوديته، ونعتبره النظام الأكثر عدلاً وحريةً وديمقراطية في منطقة الشرق الأوسط. كما أننا مقتنعون مع جميع الأوفياء، بأنّ لبنان أولاً وأخيراً يُبنى بشعبه ويزدهر بأبنائه وبناته المؤمنين به، وطناً نهائياً للحرّية، وللمشاركة التوافقية الحضارية، وهو الوطن – الرسالة  للعالم أجمع. ومن هنا تأتي مطالبتنا المستمرّة بإنصاف شعبنا السرياني في قانون الإنتخابات النيابية، ورفع الإقصاء والتهميش بتسميتنا بأقلّيات ونحن مكوِّنٌ مؤسِّسٌ للجمهورية اللبنانية. وهذا ما اتّفقنا عليه مع قداسة أخينا البطريرك مار اغناطيوس أفرام  الثاني في الوثيقة التاريخية الموقَّعة فيما بيننا.

    لنضرع اليه تعالى، كي يحمي لبنان من كلّ مكروه ويجمع أبناءه وبناته بروح التوافق الحرّ الخلاق، ويبارك البادرات الوطنية التي يسعى إلى تحقيقها فخامة رئيس البلاد العماد ميشال عون، مع الحكومة والنزيهين من ممثّلي الشعب والمسؤولين، بشفاعة الطوباوية مريم العذراء سيدة لبنان وسلطانة السلام، ومار أفرام السرياني الملفان، وجميع القديسين والشهداء الأبرار، آمين.

 

 

إضغط للطباعة