الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في قداس الرسامة الكهنوتية للأب كريم كلش

 
 

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة الروحية التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في قداس الرسامة الكهنوتية للأب كريم كلش، بعنوان: "كما أرسلني أبي، أنا أرسلكم أيضاً... خذوا الروح القدس..."، وذلك في كنيسة مار اغناطيوس الأنطاكي، في الكرسي البطريركي، المتحف – بيروت، صباح يوم السبت 1 حزيران 2019:

    "كما أرسلني أبي، أنا أرسلكم أيضاً... خذوا الروح القدس..."

    كلمة ترحيب بالمشاركين والحضور...

    فرحة كبيرة تغمر قلوبنا جميعاً في هذا اليوم، هي فرحة المشاركة في الذبيحة الإلهية ورسامة الشمّاس كريم الذي نضع يميننا عليه ليكون كاهناً يخدم الرب يسوع والكنيسة المقدسة. ويشاركنا أصحاب السيادة الأساقفة والخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، وهذا العدد الكبير من المؤمنين الذين يمثّلون الكنيسة، هنا في لبنان، وفي قطنا بريف دمشق الرعية السابقة للشمّاس كريم.

    اجتمعنا كلّنا هنا أيّها الأحبّاء كي نفرح مع الشمّاس كريم، وكي نصلّي من أجله وندعو له بخدمة كهنوتية مثمرة ومباركة.

    ما معنى أن يتقدّم شابٌّ بعمر الشمّاس كريم إلى الكهنوت في غمرة عالمٍ تتقاذفه أمواج المادّية والإلحاد، عالمٍ يتجاهل البعد الروحي للإنسان، ويغري بأهوائه الخادعة ووعوده الخلابة شباب اليوم؟

    لبّى كريم نداء الرب يسوع إلى الكهنوت بكامل حرّيته، فتابع تنشئته في الإكليريكية وفي الجامعة. وسيم شمّاساً (إنجيلياً) في عيد القديس اسطفانوس رئيس الشمامسة وبكر الشهداء في الثامن من كانون الثاني الماضي. وإذ يتقدّم اليوم من سرّ الكهنوت، يعي تماماً أنّ هذه الدعوة هي تلبيةٌ لمشيئة الله، وهو يعرف متطلّباتها ومستعدٌّ لقبول الصعوبات ومواجهة التحدّيات. فالكهنوت موهبة مميّزة من الرب يسوع تطلب من الكاهن أن يكون الخادم والمقدِّس لشعب الله. الكاهن يسلّم مشيئته لمشيئة الرب الذي دعاه، ويتّكل على النعمة الإلهية التي تملأ نقائصه، والتي ستقوّيه لمتابعة المشوار برفقة معلّمه وصديقه الرب يسوع.

    كريم يعرف أنّ الكهنوت هو دعوة للخدمة والقداسة:

    أن يكون كاهناً هو أن يلبّي دعوةً خاصةً أي مميّزةً إكتشفها كريم في داخله، إذ أوحاها له الرب بطريقة لا يكنه سرّها سواه وحده. وراح كريم ينمّي هذه الدعوة بالصلاة والتأمّل والاختبارات المثمرة خلال سنوات تنشئته الإكليريكية.

   لقد عرف كريم واختبر بأنه يلبّي دعوةً، وليس مبتغىً لوظيفةٍ استهوته، ولا إنجازاً يحقّقه طموحه البشري، وهو يعلم بأنّ الكهنوت حسب قلب الرب، ليس الحصول على حق من حقوق الإنسان المدنية، ولا هو انتماءٌ إلى مؤسّسةٍ اجتماعيةٍ أو جمعيةٍ إنسانيةٍ أو حزبٍ سياسي.

    "ودعا الرب من أرادهم" (مرقس 3: 13): فسرّ الكهنوت دعوةٌ خاصّةٌ لمن ميّزهم وأحبّهم الرب، فأرادهم هو أن يسيروا على خطاه ويكملوا عمل فدائه الذي أتمّه بآلامه وموته على الصليب وقيامته من بين الأموات في اليوم الثالث، كما يقول لنا مرقس البشير. هذا العمل الفدائي الذي كمّله الرب بحلول روحه القدوس على التلاميذ، ونحن نعيش هذه الأيّام في غمرة عيد صعود الرب إلى السماء ومنتظرين عيد العنصرة، عيد حلول الروح القدس.

    في إنجيل يوحنّا نسمع يسوع يقول: "لستم أنتم الذين اخترتموني، بل أنا اخترتكم وأقمتكم لتنطلقوا وتأتوا بثمارٍ وتدوم ثماركم..." (يوحنا 15: 16). شاء يسوع وانتقى تلاميذه، فلبّوا دعوته. ونحن نعلم أنّ هذه الدعوة ليست مجرّد رغبةٍ بشريةٍ لاعتلاء منصبٍ ما في المجتمع أو لمنفعةٍ شخصيةٍ، كما نستدلّ من طلبٍ لأحدهم جاء في إنجيل لوقا: "يا سيّد، أتبعك إلى حيث تمضي...". وكان جواب يسوع واضحاً، إذ كان عارفاً برغبة ذاك الشخص وهدفه في ابتغاء منفعة: "... ليس لابن الإنسان حجرٌ يسند إليه رأسه...!" (لوقا 9: 57).

    في مسيرة حياة كريم، سيواجه تجارب وتحدّيات كبيرة، فالطريق ليس دوماً محاطاً بالورود والأزهار، إذ أنّ طريق اتّباع يسوع قد يكون عسيراً. هناك تجارب كثيرة تراود الكاهن اليوم، من شعور بالوحدانية، وضعف بشري، وشعور ببعض الفشل والخيبة، ومن نتاقضات في الجماعة المسيحية، حتّى من بين الكهنة ذاتهم. إذاً الدعوة الكهنوتية ليست مشواراً أو نزهة، لكنّها مسيرة نحو الكمال وتتميم مشيئة الرب في حياة الكاهن.

    على مثال معلّمه الإلهي، التزم كريم أن يخدم الجميع بالمحبّة الخالصة والتواضع والوداعة. والشمّاس كريم يدرك بأنّ دعوته الكهنوتية هي عطية من الرب، وعليه أن يستجيب لها كلّياً برضىً تامٍّ وقرارٍ مطلق، أي دون أيّ تحفُّظ أو شرط. وهو يعرف بأنّ هذه الدعوة تتطلّب منه استسلاماً تامّاً لمشيئة المعلّم الإلهي الذي دعاه، متّكلاً على النعمة كي يقوى على التجارب والمصاعب التي ستعترض مسيرة حياته، ويجد في التحدّيات فرصاً للسموّ في هذه الدعوة والتفاني غير المشروط تشبُّهاً بمعلّمه، إذ يتكلّم باسمه ويعمل على نشر ملكوته، لأنه عالمٌ أنّ المسيح هو الذي يحيا فيه، على ما يؤكّد مار بولس رسول الأمم.

    الدعوة الكهنوتية، هي دعوة للخدمة، وكريم بتلبيته هذه الدعوة للكهنوت الخِدَمي، يعرف بأنّ عليه أن يبذل كلّ طاقاته وبسخاءٍ وتجرّدٍ، لكي يخدم الجماعة المؤمنة التي ستوكل إليه، أينما رأى رئيسه الكنسي. وليتذكّر دوماً كلام يسوع الذي جاء لا ليُخدم بل ليخدم.

    وعلى مثال معلّمه، سيخدم الجميع بالمحبّة الخالصة وبتواضعٍ ووداعةٍ، ومن دون تمييز،  كي يربح جميعهم للرب، ويقودهم إلى الخلاص. عليه أن يستعدّ للإصغاء إلى من يحتاج إرشاداً أو نصيحةً، أن يرأف بالضعفاء، ويقوّم بصبرٍ وحنانٍ اعوجاج مَن يبتعد عن الإيمان ومن يُحيد عن طريق الحق والمحبّة.

    وبشكلٍ خاص عليه، وهو الكاهن الشابّ، أن يولي الشباب عنايةً خاصّةً، بمرافقتهم وإرشادهم وتذكيرهم بأن يظلّوا مؤمنين أنّ يسوع هو المعلّم وهو الصديق، وأنّ لهم دوراً فاعلاً في حياة الكنيسة اليوم، فهي الأمّ التي تثق بهم، وتبثّ فيهم الرجاء الذي يحملونه للعالم، ولغدٍ مشرق.

    الدعوة الكهنوتية هي دعوة للقداسة، وتتمّ هذه الدعوة للقداسة بالعمل الدؤوب على تقديس الجماعة المسيحية، أينما دُعي كريم لخدمتها، فقداسته نابعة وناتجة من مقدار ما يسعى لتقديس المؤمنين: بإعلان بشرى الخلاص السارّة، أي كلام الله، وبمنحه إيّاهم الأسرار المقدسة، وبمرافقتهم كي يتّحدوا في الفرح والرجاء بمخلّصنا الذي فدى عروسه الكنيسة وقدّسها.

    وكريم يعرف أنّ سرّ الكهنوت عظيم، إذ إنه يخوّله الاحتفال بسرّ القربان المقدس، الإفخارستيا، أي الذبيحة الإلهية، وفيها يتحوّل الخبز والخمر إلى جسد الفادي ودمه بكلمات الكاهن ذاته، ويصغي إلى ضعف الإخوة والأخوات من رعيته، ويمنح الغفران للتائبين في سرّ التوبة. هذه الموهبة العظيمة التي ينالها الكاهن توجب عليه أن ينمّيها، فهناك معاناة يومية، إنما يغلب الكاهنُ المعاناةَ بالظفر، وبالإتّكال على النعمة الإلهية والثقة التامّة بالرب يسوع الذي، عندما نبقى متّحدين به، لسنا نحن الذين نحيا بل المسيح هو الذي يحيا فينا، بحسب مار بولس. إنّها أعظم نعمةٍ يمنحها الرب للكاهن، سلطانٌ غير مدرَك وعجيب يفوق عظمة الملائكة على حدّ تعبير قدّيسنا مار أفرام السرياني ملفان الكنيسة الجامعة!.

    يتقدّم كريم لاقتبال سرّ الكهنوت متّكلاً كلّياً على النعمة الإلهية. لذا يحتاج إلى صلواتنا وإلى تشجيعنا وإلى طلب بركة الرب وفيض عطاياه وخيراته.

    عظيمٌ هو الكهنوت الذي دعاك الرب إليه، يا كريم! ولكنَّ عظمة دعوتك تكمن في التواضع المثالي الذي ستعيشه في حياتك وفي ممارسة خدمتك، فكن سخيّاً في تجرّدك وعطائك، لأنّك عارفٌ بأنّ مكافأتك هي في السماء.

    نهنّئ أبونا كريم بهذه الرسامة، ونؤكّد له على الإستمرار بالصلاة من أجله كي يكون ذاك الكاهن الذي هو على صورة الرب يسوع الراعي الصالح. ونهنّئ والده ووالدته وشقيقتيه وأهله الحاضرين معنا والقادمين من رعيته السابقة في قطنا، هذه الرعية المباركة التي زرناها منذ أشهر وفرحنا بلقاء كاهنها ومؤمنيها.

    نهنّئ كنيستنا السريانية برسامة كاهن جديد، ونهنّئ جميع الكهنة لأنه أصبح لديهم كاهن وأخ جديد شاب، هو أصغرهم سنّاً، ولكنّه يقدر أن يبثّ فيهم الحماس والغيرة على الكنيسة بحميّته وبشبابه.

    نهنّئ الجميع إكليروساً ومؤمنين، شاكرين كلّ الذين هيّأوا هذا الإحتفال من كهنة وشمامسة وجوق وكشّاف وحركات رسولية، طالبين من الرب يسوع، بشفاعة أمّنا مريم العذراء سلطانة الرسل وأمّ الكهنة، أن يبارك الكاهن الجديد كريم بالبركات التي يحتاجها، كي يكون مثالاً لإخوته وأخواته في الكنيسة، آمين.

 

إضغط للطباعة