الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل لموعظة غبطة أبينا البطريرك في قداس الرسامة الأسقفية للأسقف مار نثنائيل نزار سمعان – قره قوش (بخديدا)، العراق

 
 

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة الروحية التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في قداس الرسامة الأسقفية للأسقف مار نثنائيل نزار سمعان، بعنوان: "... إن كنّا نتعب ونجاهد، فذلك لأنّنا جعلنا رجاءنا في الله الحي" (1 طيم :4)، وذلك في كنيسة الطاهرة الكبرى – قره قوش (بخديدا)، العراق، صباح يوم الجمعة 7 حزيران 2019:

 

"... إن كنّا نتعب ونجاهد، فذلك لأنّنا جعلنا رجاءنا في الله الحي" (1 طيم :4)

    كلمات الترحيب...

    جئنا نحتفل اليوم، أيّها الأحباء، بقداس السيامة الأسقفية لأخينا مار نثنائيل نزار، الذي انتخبه "السينودس" أي مجمع أساقفة كنيستنا السريانية، وثبّت انتخابه قداسة الحبر الأعظم البابا فرنسيس، ليخدم أبرشية الموصل وكركوك وكوردستان بصفة أسقفٍ مساعدٍ مع حقّ الخلافة، لسيادة أخينا الجليل مار يوحنّا بطرس موشي، راعي الأبرشية.

    كلّنا نعلم، أيّها الأحبّاء، النكبة المروّعة التي حلّت بأبرشيتكم العزيزة في السنوات الأخيرة. هجماتٌ إرهابيةٌ خلّفت القتل والدمار والتهجير، واقتلعت عشرات الألوف من المؤمنين الأبرياء من أرضٍ سُقيت بعرق الأجداد، مع أخينا المطران مار يوحنّا بطرس ولفيف الكهنة والرهبان والراهبات، ممّا دفع الكثير من العائلات إلى التهجير والتشتّت في أكثر من بلد وقارّة. ولقد أضحت هذه الأبرشية الغالية والأكبر عدداً في كنيستنا السريانية، مثالاً للشهادة البطولية والعنفوان والصمود، في وجه قوى الشر التي أرادت قتل الرجاء في نفوسكم المؤمنة. لقد حملتم الصليب على مثال المخلّص معلّمنا الإلهي، وحافظتم على إيمانكم وتراثكم ورجائكم الذي نال إعجاب العالم المخلِص شرقاً وغرباً. والأسقف المنتخَب الجديد، سيشارككم الرجاء، فوق كلّ رجاء، لكي تجدّدوا ثقتكم واتّكالكم التامّ على الذي وعد أن يبقى مع كنيسته طول الأيّام، وهو الذي طمأن تلاميذه الخائفين: "ثقوا، إني غلبتُ العالم!".

    لقد استجاب الأسقف الجديد مار نثنائيل نزار إلى صوت آباء السينودس، فقرّر أن يودّع رعيته في المملكة المتّحدة، حيث خدم جماعةً مؤمنةً أحبّها وأحبّته، وحيث اكتسب خبرةً كنسيةً ورعويةً وسّعت آفاقه ليطّلع على شؤون الكنيسة الجامعة. لقد لبّى دعوة الرب والكنيسة ليقبل المسؤولية الملقاة عليه، وينطلق لخدمة إخوته وأخواته من كهنة ومكرَّسين ومؤمنين، رغم الصعاب والتحدّيات، لأنه عارفٌ بحبّ يسوع الذي يقوّي ضعفه، وواثقٌ بالنعمة التي تملأ نقائصه.  ولديه القناعة التامّة بأنه مدعوٌّ ليعود إلى أبرشيته الأصلية التي تحتاج إلى تقواه وعلمه وخبرته، كخادمٍ للجميع باسم يسوع الذي جاء لا ليُخدَم بل ليَخدُم. ولكي تثمر هذه الخدمة الثمار التي يرجوها الجميع، عليه أن يبقى دوماً في اتّحادٍ مع يسوع الفادي، الذي يدعوه كي يتحلّى بالوداعة والتواضع وبذل الذات.

    عليه أن يصغي إلى إخوته الكهنة، ويشعر معهم ويوليهم ثقته، ويعرف كيف يفوّضهم ويشجّعهم لكي يشاركوه في الرسالة، نجاحاتها وإخفاقاتها، شؤونها وشجونها.كما عليه أن يتذكّر أنّ رسالته ستثمر أفضل ما يكون، بالتعاون الصادق مع إخوته الكهنة، في وحدة الروح والهدف. إنها دعوة الجميع، إكليروساً ومؤمنين إلى القداسة، حسب الوزنات المعطاة لهم، في بناء الوحدة الكنسية، تجاوباً مع مشيئة الرب يسوع، الذي أوصى تلاميذه أن يبنوا الوحدة في المحبّة.

    والأسقف الجديد مؤتَمَنٌ على إخوته وأخواته، يرافقهم ويشجّعهم، فيضحي مثال الأب الروحي للجميع والأخ والصديق الصدوق لمن هو مدعوٌّ لمشاركته أعباء المسؤوليات وهمومها، وذلك حسب قلب الرب: "الوديع والمتواضع القلب". وهنا تكمن الحكمة في نجاح الخدمة الأسقفية بأن ينشد الأسقف الجديد النصح والاسترشاد من أساقفة كنيستنا الذين سبقوه، وغيرهم من الأساقفة الشرقيين، ويتمرّس بالصبر والتواضع، إذيستشير ويقنع ثمّ يقرّر!

    الأسقف الجديد  مؤتَمَنٌ أيضاً على الإيمان الذي نقله إلينا آباؤنا القديسون، فيقدّس ويعلّم ويدبّر المؤمنين. بمنحه الأسرار الخلاصية بالتقوى حسب تراث كنيستنا السريانية العريق منذ عهد الرسل، يروي عطش التائقين إلى القداسة. وبحثّه على القيم الإنجيلية والأخلاق المسيحية، بالأسلوب الشيّق والمفرح، يشارك في تربية الصغار والشباب، وفي الدفاع عن العائلة التي هي الخليّة الأولى للكنيسة "عروس المسيح". وبتدبيره شؤون الأبرشية بالمشورة والنزاهة والتجرّد، يحافظ على الإرث الذي خلّفه الأقدمون، لرفع شأن الأبرشية، سيّما في المشاريع الرعوية والتربوية والاجتماعية.

    وهو مؤتَمَنٌ على تراث كنيستنا العريق، إذ إنه مدعوٌّ للتمسّك بالروحانية المشرقية وبتراثنا السرياني الذي ساهم مساهمةً فعّالةً في الحضارة الإنسانية.  كما عليه أن يغذّي مشاعر الافتخار في نفوس المؤمنين، مذكّراً إيّاهم بأنهم الأحفاد والحفيدات لأجيالٍ من الشهداء والمعترفين، الذين تحمّلوا أنواع الاضطهاد والضَّيم، حبّاً بمخلّصهم وأمانةً لإنجيل المحبّة والسلام. كما أنه مؤتَمَنٌ على نشر حضارة المحبّة، وعلى أولوية الحوار الحياتي الصادق بين جميع فئات المجتمع الذي ينتمي إليه، دون تمييزٍ بسبب الدين أو الطائفة أو اللون أو العرق... ليُضحي رائد الحوار البنّاء، وفاعلاً حقيقياً للسلام.

    إزاء ما نشهد من مآسٍ ونكباتٍ حلّت بشعبنا وشرّدت جماعاتنا الكنسية في بلاد المشرق، يحقّ لنا أن نتساءل: ألا تكفي عذاباتنا؟ ومتى ينتهي درب آلامنا؟ وهل هي مشيئة عظماء هذا العالم أن يغيّبوا باستئثارهم وأطماعهم شمس الشروق الدافئة في غروب بلادهم الباردة...؟ وإننا واثقون بأنّ مار نثنائيل نزار مطّلعٌ على الأوضاع الراهنة في الشرق، وما عاناه ويعانيه أبناء كنيستنا كما إخوتنا في الكنائس الشقيقة، من جراء الأزمات والنزاعات المخيفة التي نكبت بلداننا المشرقية، لا سيّما العراق وسوريا. وهو يتألّم مثلنا إذ يشهد ازدياد هجرة المسيحيين من هذين البلدين، ويقلق لأنّ عدد الباقين في الوطن يتضاءل باستمرار، لأنّ حضورنا المسيحي في أرضنا وبلادنا يجابه الظلم والتهميش منذ أكثر من عقدين. لذلك نأتمنه رسالةَ الدفاع، مع جميع المسؤولين النزيهين، كنسيين كانوا أو مدنيين، عن الحقوق المدنية والحرّيات الدينية لجميع المواطنين. وليكن الصوت الصارخ الشجاع لإله المحبّة والحقّ والفرح والسلام في هذه البقعة من العالم حيث وُلِدْنا، وحيث أرادنا الله أن نكون.

    الكلّ يعلم بأنّنا، نحن السريان، إنطلاقاً من هذا المشرق المعذَّب عبرَ تاريخه القديم والحديث والمعاصر، أنرنا العالم بالعلم والمعرفة، ونثرنا مواهبنا شعراً وفكراً وترجمة. ولقد جاءت شهادتنا لإنجيل المحبّة والسلام، معمَّدةً بالدم ومكلَّلةً بغار الإستشهاد. ألا يحق لنا أن نتساءل: أين الضمير العالمي؟ أين أصحاب النوايا الصالحة؟ أين دعاة الحفاظ على حقوق الإنسان والمتبجّحون بالدفاع عن قضايا الشعوب المستضعَفة؟ ألم يحن الوقت بعدَ ما نقرأ ونسمع ونشاهد من الفظائع التي تُرتَكب باسم الدين، أن نقف معاً لنرفض تسييسه، ونمدّن خطابه، ولا نميّز بين مذهبٍ وعرقٍ ولونٍ، نفوساً ونصوصاً؟

    إلى العذراء مريم أمّنا السماوية شفيعة هذه الكنيسة الطاهرة الكبرى، نضرع كي تشفع فينا لدى ابنها، إلهنا ومخلّصنا ومثالنا في الخدمة الأسقفية، فيقوم الأسقف الجديد مار نثنائيل نزار بمسؤوليات خدمته الأسقفية بكلّ أمانةٍ، حسب روح الإنجيل وتعليم الكنيسة، ويُضحي الأب والأخ والصديق لجميع من يقصده. آمين.

 

إضغط للطباعة