الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
غبطة أبينا البطريرك يحتفل بعيد مار أفرام شفيع الطائفة

 
 
    اعتبر غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي أنّ من واجبنا جميعاً من مختلف الطوائف أن ندافع عن لبنان "وطناً حراً للجميع"، مثمّناً "نظامه الأكثر عدلاً وحرية وديمقراطية في هذا الشرق، فهو الوطن ـ الرسالة، وطن المشاركة التوافقية الحضارية".

 

          كلام أبينا البطريرك  جاء خلال الموعظة التي ألقاها صباح الأحد 13/3/2011، في القداس الإلهي الذي احتفل به بمناسبة عيد مار أفرام السرياني، يعاونه المطرانان أنطوان بيلوني ويوسف ملكي، والكهنة والشمامسة، بحضور السفير البابوي المونسنيور كبريالي كاتشا، في كاتدرائية سيدة البشارة، المتحف، بيروت. وحضر القداس الوزيرة منى عفيش ممثلةً فخامة رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان ودولة رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الحريري، وسعادة النائب آكوب بقرادونيان ممثلاً دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه بري، وحضرة الدكتور مصطفى أديب ممثلاً دولة رئيس الحكومة المكلّف نجيب ميقاتي، وعدد من النواب، والعميد فؤاد خوري ممثلاً قائد الجيش العماد جان قهوجي، وممثّلو الأحزاب وفعاليات الطائفة وجموع المؤمنين.

          بعد الإنجيل، ألقى غبطة أبينا البطريرك  موعظة بعنوان "حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك"، ذكّر فيها "بأولى الأولويات في حياتنا أن نكنز في السماء وهناك تكون سعادتنا الحقيقية". وتحدّث عن مار أفرام ابن نصيبين الشماس، رجل صلاة وتأمّل وعمل، ملفان أي معلّم الكنيسة الجامعة قاطبةً، والملقّب بقيثارة الروح القدس، لما نظمه من أشعار وأناشيد.

          ثم أكّد غبطته أنّ الكنيسة السريانية سعت دائماً أن تبقى "أمينةً لدعوتها كنيسةً رسوليةً، مستشهدةً ومعترفةً في سبيل الإنجيل"، مستذكراً شهداء مجزرة كاتدرائية سيدة النجاة في بغداد، منوّهاً بأنهم "لم يهربوا من أرض الرافدين، لأنهم ظلوا يؤمنون بقيامة العراق، مراهنين على غلبة الخير وداعين لعيش ثقافة المحبة".

          كما تناول أبينا البطريرك الوضع في لبنان معتبراً "أنه واجب علينا كما على غيرنا من مختلف الطوائف، كبيرة كانت أم صغيرة، أن ندافع عنه، وطناً حراً، وطناً للجميع، وطناً لجميع الطوائف وليس حكراً على طائفة أو دين. ولكوننا قد عانينا الأمرّين في مناطق أخرى من هذا الشرق، من أجل حريتنا الدينية وكرامتنا الإنسانية، نثمّن النظام القائم في لبنان، بالرغم من نقائصه ومحدوديته، ونعتبره النظام الأكثر عدلاً وحرية وديمقراطية. كما نقتنع بأنّ لبنان أولاً وأخيراً يُبنى بشعبه ويزدهر بأبنائه وبناته المؤمنين به، وطناً نهائياً للحرية، وللمشاركة التوافقية الحضارية. وهو الوطن ـ الرسالة للعالم أجمع"، سائلاً الله أن يحمي لبنان ويجمع أبناءه "بروح التوافق الحر الخلاق الذي يجهد فخامة رئيس البلاد إلى تحقيقه".

          وقبل منح البركة الختامية، ألقى السفير البابوي كلمة، حيّا فيها الكنيسة السريانية، مكبراً عيشها الشهادة والإستشهاد في سبيل الرب، مهنئاً إياها بانتخاب أربعة أساقفة جدد لها منذ أيام، ما يدلّ على حيويتها ونشاطها الخلاق.

          وفي نهاية القداس تقبّل أبينا البطريرك  والسفير البابوي والأساقفة والكهنة تهاني الحضور جميعاً بهذه المناسبة.

وفيما يلي ننشر النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطته خلال القداس:

-       سعادة السفير البابوي المطران كبريالي كاتشا،

-       أصحاب السيادة رؤساء الأساقفة والأساقفة ممثلي أصحاب الغبطة البطاركة، قدس الآباء والأمهات رؤساء ورئيسات الرهبانيات، حضرات الآباء الكهنة والإخوة الرهبان والراهبات، والمؤمنين المباركين،

أتوجّه أولاً باسمكم بكلمات شكر للرسميين الحاضرين معنا في هذا الاحتفال:

-          معالي الوزيرة منى عفيش، ممثلة فخامة رئيس البلاد العماد ميشال سليمان، ودولة رئيس حكومة تصريف الأعمال سعد الدين الحريري 

-         وسعادة النائب آكوب بقرادونيان ممثلاً دولة رئيس مجلس النواب الأستاذ نبيه برّي

-         والدكتور مصطفى أديب ممثلاً دولة رئيس الحكومة المكلّف الأستاذ نجيب ميقاتي

-         حضرة العميد فؤاد خوري ممثلاً قائد الجيش العماد جان قهوجي

          الوزراء والنواب والقيادات المدنية والعسكرية

" حيث يكون كنزك، هناك يكون قلبك"  (متى 6: 21)

-         هذه الكلمات التي سمعناها منذ قليل في موعظة سمّيت "موعظة الجبل"، كما يوردها لنا الإنجيلي متى في الإصحاح السادس، هي أشبه بـ "ايقونة" حكمية، أطلقها المعلّم الإلهي، كي يذكّرنا بأولى الأولويات في حياتنا أن نكنز لنا في السماء، وهناك تكون سعادتُنا الحقيقية.

-         إنها حكمة  تتخطى الزمان والمكان. فالقلب نبض حياة الإنسان، ويكنّى بمركز العاطفة، يمكنه أن يضحي سبباً لسعادة الإنسان كما لشقائه. ولو أننا غالباً ما نريد أن نتجاهل عطش قلبنا إلى المطلق، إلى الحق والمحبة... نركض لاهثين وراء أكثر من سراب دنيوي، ونبحث عن كنوز زائلة تُغرينا فتكبّل حريتنا وتستحوذ على قلبنا، وتضيع الأولويات في حياتنا، فتضحي وكأنها شاشةٌ مشوّشة! بينما نشعر في قرارة نفوسنا، أنّ لا شيء ولا أحد يقدر أن يملأ فراغ نفسنا سواه تعالى، كما قال القديس أغسطينوس: "خلقتَنا لك يا رب، وقلبنا لن يستريح حتى يستقرّ فيك!".

-         وبالرغم من خطايا البشر، كبيرها وصغيرها، وما سبّبته وتسبّبه من آلام تفوق أحياناً ما تجلبه الكوارث الطبيعية، التي صرنا اليوم نسمع عنها ونشاهدها على قنوات التلفزة إثرَ حدوثها، نشكره ونحمده تعالى لأنه أهدانا وما يزال، أخواتٍ وإخوةً لنا في الإنسانية، عرفوا أن يتّخذوه كنزهم الأوحد، فاستقرّ واستراح فيه قلبهم. هم القديسات والقديسون الذين حلّقوا في سماء الروح، وأضحوا مشاعل تضيء ظلمة حياتنا، وتحثّنا على البحث عن الكنز الحقيقي الذي يسدّ جوعنا الروحي ويسعد قلوبنا، ألا وهو الحنين الخفيّ والمستمر إلى إله الخير والحق والمحبة.

-         عبرَ مسافات شاسعة من الزمن، نعود إلى القرن الرابع الميلادي، لنكتشف وجهاً مشرقاً في تاريخ كنيستنا المشرقية وفي مسيرة البشرية الروحية. إنه مار أفرام، أحد الآباء المشرقيين الذي عاش في شمال ما بين النهرين، غيرَ بعيد في الزمان والمكان، عن أفواج عديدة من المتعبّدين الزاهدين في حطام هذه الفانية، أمثال مار مارون ومار سمعان العامودي، اللذين فاحت قداستهما في ربوع أنطاكية سوريا.

من هو مار أفرام؟

-         هو ابن نصيبين، تدرّب على راعيها القديس مار يعقوب النصيبيني،  مؤسّس مدرستها الشهيرة حيث درّس أفرام نفسه، واشتهر بغزارة مؤلفاته، سيّما الشعرية والإنشادية منها. مهجّر الرها هرباً من الأعداء الذين احتلوا مدينته.

-         أفرام، الشماس، أي الخادم، خادم البيعة والمجتمع. كرّس نفسه لخدمة الجماعة الكنسية الناشئة، متجاوباً وإرشاد ثلاثة من أساقفة نصيبين: يعقوب وبابو وابراهيم، فشارك في الصلوات والرتب الطقسية وقمّتها ذبيحة القداس الإفخارستية، واختار حياة الزهد المكرّسة بروحانية المشورات الإنجيلية، مقرونةً برسالة الشهادة لأولوية الروح في مجتمعه المضطرب، فسار على خطى معلّمه الإلهي، رجل صلاة وتأمّل وعمل.

-         ويحق لكنيستنا السريانية بجناحيها الكاثوليكي والأرثوذكسي أن تفاخر بمار أفرام السرياني، وقد اتّخذتْه بحق شفيعاً لها. كما تكرّم هذا الملفان معلّم الإيمان جميع الكنائس الشرقية الشقيقة، وما زالت تغرف الصلوات والأناشيد من الإرث الروحي والطقسي الذي خلّفه هذا القديس المتميّز. وفي مقدّمة هذه الكنائس: السريانية المارونية، والكلدانية، والسريانية الملنكارية والملبارية (في الهند)، والكنائس الأرمنية والقبطية واللاتينية ومعظم الكنائس ذات الطقس البيزنطي...

-         هذا القديس من شرقنا، رفعه البابا بندكتوس الخامس عشر في عام 1920 إلى رتبة ملفان الكنيسة الجامعة قاطبةً، أي في كنائس المشرق والمغرب.

( و "مَلفُنـُا" كلمة سريانية تعني معلّم أو كما نقول اليوم دكتور). ونعتبر ملافنة البيعة، منهلاً منه نستقي المعارف الروحية وشرح أسرار الخلاص.

-         أفرام الشاعر، وقد لُقّب بـ "قيثارة الروح القدس". لقد طبع أفرام عصره ببصمات مواهبه الرائعة، فخلّد لنا تراثاً شعرياً، لاهوتياً وكتابياً مميّزاً، يُعدّ مفخرةً لكنائسنا السريانية ولمشرقنا الآرامي إلى يومنا هذا. فكان مبدعاً بشاعريته المميّزة بالبساطة والعفوية والخيال. لقد أتحفنا بـ"الميامر" أي القصائد وبـ "المداريش" أي الأناشيد، والشروحات الكتابية والطقسية التي أضحت إرثاً حضارياً للعديد من الشعوب ذات الجذور الساميّة.

-         أفرام، الشادي المريمي، المولّه بدور والدة الله في التدبير الخلاصي. إنّ انجذابه إلى التبحّر في سرّ مريم، حواء الثانية، التي قبلت في أحشائها الطاهرة، كلمة الله، الكنز الخفي منذ بدء الكون، أطلق فيه مواهب إنشادية ما زالت كنائسنا ترنّمها بإعجاب واعتزاز. فهو أوّل مَن أنشد: "بثولتُا يِلدَت دومُرُا"  أي "البتول التي ولدت عجباً...". ويزداد افتخارنا بشادي القرن الرابع، ابن نصيبين، عندما نراه يخرق الأعراف فيُؤلّف جوقة للصبايا لينشدن الترانيم الشعبية العذبة، تسبيحاً لله وتكريماً لوالدته الطوباوية. لذا يحق لنا القول إنّ مار أفرام قد دخل التاريخ، لإعطائه المرأة كرامةً إنسانية ودوراً مهماً، ستُحرم منه الكنيسة كما المجتمع فيما بعد وللأسف لفترة طويلة.

-         أفرام الشاهد، فهو لم يكتفِ بعيش التكرّس للملكوت، مختلياً إلى الصلاة والصوم وممارسات التقشّف فحسب، ولم تهدف مؤلفاته الغزيرة شعراً وشرحاً وتعليماً، إلى التباهي بغزارة علمه وتفوّقه، بل نعرف من تلاميذه العديدين أنه عاش أيضاً شهادة الإيمان بتبنّي قضايا شعبه العادلة والمصيرية. لقد قرن القول بالفعل، وجمع بين التقوى والتدرّج في سلّم الفضائل وبين العمل الرسولي الملتزم. لقد اختار الزهد والتكرّس، كي يستمدّ النعمة والقوّة من علُ، ويشارك في معاناة أهل زمانه، فتحمّل أنواع الإضطهاد، حتى تهجيره قسراً من مدينة نصيبين إلى الرها. وبتغرّبه هذا، يعطينا المثل في التضحية والبذل من أجل القريب، ونعني بالقريب هذا "الآخر"، الذي قد لا تجمعنا وإياه صلة قربى أو رابطة طائفة ودين.

-         على مثال شفيعنا مار أفرام، سعتْ كنيستنا السريانية أينما وُجدت، شرق دجلة وغرب الفرات، في مشرقنا المتوسط كما في بلاد الانتشار، ورغم التشتّت والاضطهاد والتهجير قسراً وطوعاً، سعتْ أن تبقى أمينةً لدعوتها كنيسةً رسولية، ناشرةً حضارتها ذات الجذور الآرامية، مستشهدةً ومعترفةً في سبيل إنجيل المحبة والسلام. ولنا أكبر شاهدٍ على قولنا، كاتدرائيتنا في بغداد، "سيدة النجاة" التي قدّمت العشرات ممّن استشهدوا لا لشيء سوى تعلّقهم  بالرب الفادي، الذي سبقهم على درب الآلام والموت حتى القيامة المجيدة. إنهم لم يهربوا من أرض الرافدين، لأنهم ظلّوا يؤمنون بقيامة هذا الوطن الغالي، مراهنين على غلبة الخير، وداعين لعيش ثقافة المحبة. لنبقَ، أيها الأحباء، دوماً فخورين بشهيداتنا وشهدائنا في العراق.

-         ونحن في هذا الوطن الغالي والمميّز لبنان، نعتبر أنه واجبٌ علينا كما على غيرنا من مختلف الطوائف، كبيرة كانت أم صغيرة، أن ندافع عنه، وطناً حراً، وطناً للجميع، وطناً لجميع الطوائف وليس حكراً على طائفة أو دين. ولكوننا قد عانينا الأمرّين في مناطق أخرى من هذا الشرق، من أجل حريتنا الدينية وكرامتنا الإنسانية، نثمّن النظام القائم في لبنان، بالرغم من نقائصه ومحدوديته، ونعتبره النظام الأكثر عدلاً وحريةً وديمقراطية. كما نقتنع بأنّ لبنان أولاً وأخيراً يُبنى بشعبه ويزدهر بأبنائه وبناته المؤمنين به، وطناً نهائياً للحرية، وللمشاركة التوافقية الحضارية. وهو الوطن ـ الرسالة للعالم أجمع.

-         لنضرع إليه تعالى، كي يحمي لبنان من كل مكروه، ويجمع أبناءه وبناته بروح التوافق الحر الخلاق، الذي يجهد فخامة رئيس البلاد إلى تحقيقه، بشفاعة الطوباوية مريم، ومار أفرام السرياني الملفان، وجميع شهيداتنا وشهدائنا، آمين.

 

إضغط للطباعة