"أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره" (متى 6: 33)
يدعونا الرب يسوع في موعظته الشهيرة على الجبل حسب الإنجيلي متى، أن نتحرّر من ربقة المادّة، وننطلق في عالم الروح، حيث يعدنا خالقنا ومدبّرنا بالسعادة والبرارة، وهو يحثّنا على السعي نحو الملكوت هدفاً أسمى وغايةً مثلى من حياتنا. وهذا هو معنى الصوم الذي هو مسيرة روحية نحو الملكوت، تحثّنا فيه الكنيسة كي ننقّي أفكارنا ونلطّف أقوالنا ونمارس أعمال المحبة والرحمة، فنحيا حياة "البر والسلام والفرح في الروح القدس" (رو 14: 17).
لقد جعل الرب يسوع الأولوية في حياة الإنسان أن يطلب ملكوت الله، وكأنّ به يقول لتلاميذه، ولنا نحن أيضاً معهم: كونوا منشغلين في حياتكم بأمور الله، والله نفسه سيتولى أموركم. فإن كانت غاية حياتنا ملكوت الله وبره، فلا بدّ من أن نعيش القناعة في سعينا للطعام والكساء.
"أطلبوا أولاً ملكوت الله وبره": أي أن نبقى دوماً متّحدين مع الرب، وأن نسعى لخدمة كنيسته، مجسّدين الإيمان في كل ثنايا حياتنا، ناثرين حولنا البسمة والرجاء، سيّما في زمن التحدّيات والآلام.
وها إنّ أحد آباء الكنيسة يجود بالتعبير عن الملكوت الموجود داخل المؤمن، والذي لا يحتاج إلا إلى التسليم بمشيئة الله وعنايته، فيقول:"ܗܳܐܡܰܠܟܽܘܬܳܐܠܓ̣ܰܘܡܶܢܳܟ̣ܗ̱ܝܚܰܛܳܝܳܐ܆ܒܓ̣ܰܘܠܶܒܳܟ̣ܥܽܘܠܘܰܒܥܺܝܳܗ̇"، وترجمته: "ها هو الملكوت داخلك أيها الخاطئ، أدخل إلى قلبك واطلبه".
أيها المبارَكون
نجتمع اليوم في هذه الكاتدرائية المباركة المكرّسة على اسم أمنا العذراء مريم سيدة البشارة، لنحتفل بذكرى طيبة عطرة، بل عيد لقديس عظيم وصدّيق بار ملفان الكنيسة الجامعة مار أفرام، هذا الشماس، أي الخادم، الذي عاش سماءه على الأرض، وضحّى بكل شيءٍ لنيل ملكوت الله، وقد طلبه بإلحاحٍ، بل لم يطلب سواه.
عندما نتأمّل حياة هذا القديس، نعود بالذاكرة إلى القرن الرابع الميلادي، ونجد الكنيسة تسعى جاهدةً لتخطّي مآسي الاضطهادات في القرون الثلاثة الأولى، بعد أن قدّمت من الشهداء ما لا يحصيه عدٌّ. نرى كنيسة الله تتنفّس الصعداء، فتسرّع الخطى في تشديد عزائم أبنائها وبناتها وجمعهم في عائلة روحية: هي البيعة المنظورة المتحدة مع الكنيسة الممجَّدة في السماء. في هذه الأجواء وُلد مار أفرام في نصيبين، وترعرع ونمت شخصيته، وتتلمذ على يد أسقف مدينته القديس يعقوب النصيبيني، فوشّحه بالإسكيم الرهباني، ورسمه شماساً. واصطحبه إلى مجمع نيقية المسكوني الأول عام 325، حيث دافع عن الكنيسة وصان إيمانها، وقد التقى كبار لاهوتيّيها وآبائها وملافنتها يومذاك.
بعدئذٍ عيّنه القديس يعقوب معلّماً في مدرسة نصيبين، ثم سلّمه إدارتها. وعندما احتلّ الفرس المدينة وأخضعوها لحكمهم سنة 363، غادرها مار أفرام إلى الرها حيث أسّس مدرسةً لاهوتية، واهتم بتنشئة المؤمنين ليكونوا شهوداً للمسيح، وفي الوقت عينه راح يعبد الله كناسكٍ زاهد.
لم تكن الرهبانية لدى مار أفرام صلاةً وعبادةً ونسكاً فحسب، وإنما فوق ذلك كله كان دأبه نشر البشارة بالمسيح، قولاً وعملاً، فهو يمتلئ من مواهب الروح ليفيضها أمام المؤمنين كافةً. وكان أول من أسّس جوقة ترتيل من العذارى، مما يدلّ على سعة أفقه وفهمه العميق للكتاب المقدس، واحترامه للمرأة التي أعطاها مكانتها المرموقة بالتساوي مع الرجل.وعندما عمّ الجوع نتيجة الحروب، نجده يجمع الصدقات والمعونات من الأغنياء لمساندة الفقراء. وإذ تفشّى وباء الطاعون، بادر إلى إنشاء ملجئٍ وشرع يعتني بالمرضى، حتى أصيب هو نفسه بهذا الوباء ورقد بالرب.
هذا هو مار أفرام، إنه "شمس السريان وكنّارة الروح القدس"، كما دعاه القديس يوحنا الذهبي الفم. وها هي الكنيسة تترنّم بالألوف المؤلّفة من الأناشيد والأشعار والمؤلفات التي دبّحها مار أفرام الملفان في صلواتها وأناشيدها ليل نهار، هذا فضلاً عن تفسيره الكتاب المقدس، حتى قال أحدهم: "لو فُقدت نسخة الكتاب المقدس بالسريانية، لاستطعنا جمعها ثانيةً من مؤلفات مار أفرام".
بهذا الاندفاع الرسولي، من حقنا أن نعتبر مار أفرام رائداً للبشارة المتجدّدة قولاً وكتابةً وعملاً، ونحن نتطلّع إلى السينودس الأسقفي العام الذي سيُعقد في روما خلال شهر تشرين الأول القادم وموضوعه "الكرازة الجديدة".
أيها الأحباء
في هذه الأيام الصعبة، تعيش منطقتنا الشرق أوسطية حالة غليانٍ وعدم استقرار، فها هي النزاعات والصراعات تعمّ في غير مكان. وهنا يحق لنا، كرعاة روحيين، أن نتساءل عن صدى أصوات مجموعاتٍ وأحزابٍ تدّعي أنها تنشد إقامة نُظمٍ مدنية في بلاد هذه المنطقة، وهي تتجاهل شرعة حقوق الإنسان التي سنّتها منظّمة الأمم المتحدة، سيّما فيما يختصّ بالحريات الدينية، بما فيها حرية المعتقد والضمير لجميع المواطنين، أغلبيةً كانوا أم أقلية.
وفي الوقت عينه، نستغرب موقف بعض الدول المسمّاة "ديمقراطية" لدى بحثها موضوع بلدان منطقتنا في تغييب حقوق الإنسان المدنية المرتبطة جوهرياً بالحرية الدينية. فلا نسمع هذه الدول تطالب بحزمٍ بفصل الدين عن الدولة في معرض دفاعها عن حقوق الأكثريات العددية، متناسيةً التمييز الواضح بين الديانات والأعراق في الدساتير التي تُصاغ في بعض بلدان المنطقة، لأننا نعتبر أنّ الحرية الدينية للإنسان هي الأهم في تكوينه الشخصي ونشأته الثقافية وممارسته المجتمعية. لذا نحثّ الجميع ونذكّرهم بواجب الدفاع عن الإنسان، كل إنسان وكل الإنسان في مشرقنا العزيز، ونسأل الله أن ينشر بشرى الرجاء والتسامح، ويُحلّ الأمن والسلام في كل البلدان.
نتوجّه خاصةً إلى أبنائنا وبناتنا في سوريا الحبيبة التي تعيش محنةً مؤلمة وظروفاً صعبة لم تعهد مثلها في الماضي القريب. إننا نعبّر عن ألمنا الشديد لما يجري فيها من إراقة دماء في أعمال عنفٍ طال أمدها وطاولت آثارها الأبرياء والمستضعَفين، سيّما وقد قرأنا اليوم في المواقع الإلكترونية عن الاعتداء على رهبان ديرنا، دير مار موشى الحبشي في النبك بحمص.
من هنا ندعو أصحاب الضمائر الحية من المواطنين والمواطنات، إلى أية فئةٍ انتموا، وبخاصة المسؤولين، أن يحكّموا ضميرهم الوطني ويشبكوا أيديهم ويتلاقوا بالألفة والتعاون والتعاضد لإعادة وطنهم إلى أمنه وسلامه واستقراره، بعيداً عن العنف والحقد والبغض، إنما بروح التسامح والمحبة الصادقة.
كما نصلّي من أجل السلام والأمان في العراق، حيث يعيش قسمٌ كبير من أبنائنا وبناتنا، وقد قدّم كثيرون منهم ذواتهم على مذبح الشهادة. فيتابعوا مسيرتهم بالشراكة مع إخوتهم في الوطن، وهم نسيجٌ أصيلٌ في أساس تكوين هذا البلد الحبيب، ونحثّ الجميع على السعي الدؤوب لنهضة وطنهم واستقراره.
أما وطننا لبنان، هذا الوطن ـ الرسالة، مركز الإشعاع ومهد الحضارة، فإننا نحثّ أبناءه وبناته على اختلاف انتماءاتهم الدينية والسياسية والاجتماعية والثقافية، أن يجدّدوا ولاءهم المطلق لوطنهم الذي يحتاج إلى كلٍ منهم، فيعملوا على توحيد الجهود لما فيه خير الوطن ونموّه. كما نطلب من المسؤولين فيه، على اختلاف رتبهم ومهامهم، أن يسعوا بكل ما أوتوا من قوة وعزم إلى خدمة لبنان بصدق ونزاهة وبروح الشراكة، وهذا إلزامٌ نابعٌ من طبيعة مسؤوليتهم التي تحتّم عليهم أن يدركوا أنهم مدعوون لخدمة بلدهم، وأنه لا يحق لأيٍّ منهم، ولأيّ سببٍ كان، أن يشلّ عمل إحدى مؤسسات الدولة أو مرافقها، لأنّ مصلحة الوطن فوق كل اعتبار ولا تقبل بالمساومة.
ولا يفوتنا أن نذكّر أننا نحن السريان قدّمنا ماضياً، ونقدّم حاضراً الغالي والنفيس في سبيل الحفاظ على وطننا لبنان وازدهاره، وكنا ولا نزال وسنبقى مؤسسين وفاعلين وعاملين في خدمته، بشهدائنا وأدبائنا ومفكّرينا وروّادنا في جميع مرافق الحياة المدنية. ويحقّ لنا أن نعلي الصوت مجاهرين بمطلبنا العادل، داعين إلى إحقاق الحق بتأمين التمثيل المنصف لنا بما يتوافق مع تاريخنا وحضورنا، أسوةً بشركائنا في الوطن، سواء في المجلس النيابي أو سائر مرافق الدولة.
فما أسعدنا اليوم، أحبائي، ونحن نكرّم ملفاننا مار أفرام، ونتأمّل سيرته بإمعانٍ، أن نذكر قول مار اسحق أحد ملافنة الكنيسة: "شهيةٌ جداً أخبار القديسين في مسامع الودعاء"، فكيف بأخبار قديسنا وشفيع كنيستنا وفخرنا مار أفرام السرياني؟!
لا ننسى أن نشكر جميع الذين تعبوا في تنظيم هذا الاحتفال من الكهنة والمجلس الاستشاري والحركات والشمامسة والجوقة، وندعو لهم بالخير والنجاح على الدوام.
ختاماً، نتوجّه بالمعايدة إليكم جميعاً، وإلى أبنائنا وبناتنا السريان في لبنان وفي شرقنا الغالي وبلاد الانتشار. نهنئ خاصةً أبناءنا الرهبان الأفراميين وبناتنا الراهبات الأفراميات، وكل من يحمل اسم أفرام، ونهنئكم جميعاً. وليكن صومنا مقبولاً بشفاعة القديسة مريم العذراء سيدة البشارة ومار أفرام وجميع القديسين والقديسات، وليبارككم الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين.
|