دهن يسوع بالطيب في بيت عنيا
غبطة أبينا البطريرك
إخوتي أصحاب السيادة
أخواتي وأخوتي المباركين
مدخل: مسيرة الصوم كانت بمثابة حج الى هذا اليوم العظيم ... لا
لكي نتوقف عنده، بل لكي منه نعبر الى الفصح والقيامة. ولكن لا قيامة من دون موت، لا مجد من دون تألم. ولا عمق للأمانة في الحب إلا إذا اجتاز هذا الحب في نار المحنة والشك اجتياز الذهب في النار. هذا ما سنحاول التأمل فيه اليوم وأخذ العبر منه لإيماننا وأمانتنا للمسيح من خلال حدث نستقيه من الفصل 14 من انجيل مرقس: دهن يسوع بالطيب:
"وكان الفصح بعد يومين" (مر 14:1). الفصح حدث مركزي في الذاكرة اليهودية والكتابية. احتفال بذكرى التحرير من عبودية مصر (تث 16:3): "لتذكر يوم خروجك من أرض مصر".
وإذ يتجدد كل سنة فذلك لتجديد النداء الى التحرر المستمر من كل عبودية، خارجية وداخلية، مادية وروحية.
في سياق النص الإنجيلي يأتي فصح يسوع انتقالا من عهد قديم الى عهد جديد. ذاك بدماء تيوس وعجول وهذا بدم يسوع ذاته كذبيحة جديدة دائمة (عبر 9).
في بداية الفصل 14 نحن أمام مسيرة التآمر للتخلص من يسوع: "وكان عظماء الكهنة يبحثون كيف يمسكوه بحيلة فيقتلوه" (14: 2). من هم الباحثون عن قتل يسوع؟ - رؤساء الكهنة. كهنة هيكل الرب. علية القوم. الزعماء. رجال الدين الكبار، أعني الذين ينبغي أن يكونوا دعاة الحياة والرحمة، لا دعاة الحقد والموت والقتل. ولكن لماذا يبحث هؤلاء عن قتله؟ كل الإنجيل وكل المحاكمات الصورية اللاحقة تقول: لكي يتخلصوا منه. هل هو عائق في طريقهم؟ هل يهدد سلطتهم؟ هل ينافسهم في زعاماتهم؟ - لربما! ولكن بماذا؟ - لأنه يعلّم تعليما جديدا يفضح ازدواجيتهم ومراءاتهم: يقولون ما لا يفعلون، وهو يفعل قبل أن يقول. "قيل لكم ... أما أنا فأقول لكم...". لأنه يقدم وجها آخر لله، وجه الأب لا وجه الديّان، وجه الرحمة لا وجه الانتقام. لأنه يفضل أن يحب الناس الله فيحفظوا كلمته، لا أن يهابوه من جراء قمع الشريعة وسيفها. لأنه يعيد الله الى الإنسان والإنسان الى الله: "السبت جعل من أجل الإنسان، لا الإنسان من أجل السبت". لأنه يعمل على إعادة الهامشيين والعشّارين والزناة والخطأة والوثنيين الى الله "فيأتون من المشرق والمغرب ويتكئون في ملكوت الله". لأنه تهجم عليهم:"الويل لكم أيها الكتبة والفريسيون ...". كل هذا لا يروق لعظماء الكهنة والكتبة والفريسيين لأن تعليمهم سيسقط، وسلطتهم على الشعب ستهتزّ وجيوبهم ستفرغ ويخشون أن يتركوا خارج الملكوت.
فألبسوا القضية ثوبا سياسيا ليسهل عليهم اجتذاب المتطرفين واللعب بعواطف الناس: "ماذا نعمل؟ إنّ هذا الرجل يأتي بآيات كثيرة، فإذا تركناه وشأنه آمنوا به جميعا، فيأتي الرومانيون فيدمروا هيكلنا وأمتنا" (3:6؛12:12). ذات التهمة في كل العصور : التدخل الأجنبي. انظروا ماذا يفعل الحسد والغيرة وحب السيطرة: انه يصل حتى الإجرام.
بعد هذا المدخل يتقدم مرقس في تأمله بالآلام خطوة أخرى نحو الفصح في الآية 3-9 في حادثة بيت عنيا.
· دهن يسوع بالطيب في بيت عنيا (مر 14: 3- 9)
في بيت عنيا، وكانت بيت عنيا دار استراحة يسوع على
مشارف القدس عند لعازر وأختيه، واليوم عند سمعان الأبرص، يسوع مدعو للطعام. امرأة لا يذكر مرقس اسمها لئلا يغطي اسمها على فعلها، تقترب، تكسر قارورة طيب ثمين وتسكبها على رأس يسوع. الحاضرون يعترضون. هذا إسراف لا مبرر له. أعطوا ثمن الطيب للفقراء. لا تلوموها، يقول يسوع، الفقراء عندكم في كل حين، أنا لست عندكم دائما.
ماذا يريد الإنجيلي نقله إلينا بتدوين خبر هذه الحادثة؟
1. الحدث: قارورة طيب ثمين جدا تفيضه امرأة إكراما ليسوع. ما هي المشكلة؟ لنقرأ الخبر في لوقا 7: 36- 50: يسوع على مائدة فريسي اسمه سمعان. امرأة خاطئة تأتي بقارورة طيب وتسكبها مع دموعها على قدمي يسوع وتقبلهما. ويضيف لوقا مع يوحنا بأنها "تمسحهما بشعرها" باكية من دون كلام. دموعها لغتها. فيدمدم صاحب الدعوة: أنبي وخاطئة تلمس قدميه؟! يسوع يرفع ذهن المضيف الى فوق ويذكره بواجبات الضيافة كيف نسيها في مراقبته المرأة: "يا سمعان دخلت بيتك فما سكبت ماء على قدميّ. وهذه بدموعها بلّّت قدمي. أنت ما قبّلتني، وهي لم تكفّ عن تقبيل قدميّ. ما دهنت راسي بزيت، وهي بطيب دهنت قدميّ". لنلاحظ المقارنة بين الرأس والقدمين. علامات الضيافة يا سمعان، وأنا ضيفك، لم تقم بها، وهي الغريبة أدّت ما كان ناقصا لديك.
ويقرا لوقا الحدث على أنه فعل توبة كبير ناجم عن فعل حب كبير، فكيف لا يلين قلب الله ويغفر لها – ولكل خاطىء وخاطئة من بعدها- حتى لو كانت خطاياها كثيرة! ومرقس بقوله: "وكسرت القارورة وأفاضت الطيب الثمين" يقراه على انه علامة العطاء الكامل، وليس الإسراف. علامة كسر حياتها السالفة لتبتدىء حياة جديدة. الألتقاء بيسوع يجدد الذات دائما.
2. وحدهم البخلاء ومحبو المال والغيّارون من نجاح الآخرين يتهمون الأسخياء والمضحّين والباذلين ذواتهم بالتبذير والمبالغة. كم نسمع عن أشخاص أعطوا ذواتهم لخدمة الغير، أو كرسوا حياتهم للرب: الرب لم يطلب كل ذلك! وكأني بأحدهم يقول للأم: لك الحق في الراحة والنوم، فلا يحسن أن تقومي عشر مرات في الليل للعناية بطفلك. أو أن يقال للراهبة المكرسة للعجزة أو الأيتام: دعيهم وشأنهم. أو للكاهن: يكفيك أن تقدس صباح الأحد وتعود الى راحتك ما تبقى من الأسبوع.
إقحام فكرة إعطاء ثمن الطيب للفقراء هنا ما هي إلا للتقليل من أهمية الفعل ذاته ولشجب عمل المرأة لتبرير الذات. كم نبقى ننتقد ونسوّد صفحة الآخرين لا لشيء سوى لإبعاد المسؤولية عن أكتافنا وإعطاء الشرعية لكسلنا بلوم الآخرين.
3. يسوع، كعادته يعيد الأمور الى نصابها، الى جوهرها، فيعيد قبل كل شيء الإعتبار الى عمل المرأة: " لقد عملت عملا حسنا، لماذا تزعجونها؟". بل يربط هذا العمل بالطيب الذي يطيّب به الجسد للدفن، إشارة الى استباقها تطييب جسد يسوع المائت. تماما كما سيفعل يسوع بكسر الخبز وإراقة الخمر في العشاء الأخير إشارة الى بذله ذاته كاملة استباقا للصليب ولموته الفدائي.
يسوع بامتداحه كسرها القارورة وإفاضتها الطيب عليه يمتدح عطاءها وبذلها.. وكلاهما من فضائل المرأة. يسوع لا يعيد الإعتبار الى عمل المرأة فحسب، بل الى المرأة ذاتها كقيمة وكشخص، بل كمبشرة: "حيثما تعلن البشارة في العالم كله يبشر بهذا العطاء". وحده العطاء والبذل يبني المسيحية. "دم الشهداء بذار المسيحيين" : انظروا تاريخ الكنيسة. لقد نسي التاريخ أسماء كثير من اللاهوتيين والزعماء الكنسيين، ولكن سيبقى يذكر أسماء بطرس الذي صلب معكوسا لاسم يسوع، وبولس الذي بذل دمه لاسم المسيح.. سيبقى يذكر فرنسيس الأسيزي والأم تيريزا والأب يعقوب الكبوشي وغيرهم ممن بذلوا من دون حساب.
4. "كان يمكن أن يباع الطيب ويعطى ثمنه للفقراء". من هم المحتجون؟ مرقس لا يشخّص. يوحنا يذكر أن أحدهم كان يهوذا ويضيف: "لأنه كان سارقا، ويختلس ما في الصندوق" (يو 12: 4- 5)، لا اهتماما بالفقراء! المختلسون، المراوغون، الطماعون، لإبعاد الشبهة، يغلفون دوما أفعالهم بأقنعة الفضيلة والدين والبكاء على الفقراء: "يأتونكم بلباس الحملان...من ثمارهم تعرفونهم" (متى 7: 15). "أريد رحمة لا ذبيحة": هذا هو جواب يسوع لمن يدّعي الأمانة لله ويتنكر للإنسان، الذي باسم الفقير يسلب الغير ويتاجر باسمه. أيها الدين ويا أيتها الشريعة كم يرتكب باسمكما من مظالم وتغييب للآخر وتكفير وتدمير وحتى قتل!
5. " الفقراء عندكم دائما. ومتى شئتم أمكنكم أن تحسنوا إليهم". يسوع لا يتنكر للفقراء هو الذي عاش فقيرا لا حجر له يضع رأسه عليه. بل انشأ صندوقا خاصا في يد تلاميذه لحاجات الفقراء. في بداية الكنيسة كانت مساعدة الفقراء فعلا بارزا في رسالتها. والى اليوم يبقى الفقراء والمرضى والصغار ميزان رسالة الكنيسة ونجاحها. يقول سفر تث: " الفقراء لن يزولوا من هذه الأرض. لذا أعطيك هذا الأمر: افتح يدك لأخيك" (15-11) ولأشعيا كلمات رائعة عن معنى الصوم الذي لا قيمة له إلا إذا انفتح الى الجائع والفقير: "أليس الصوم الذي فضّلته هو هذا : حلّ قيود الشر وفكّ ربط النير وإطلاق المسحوقين أحرارا؟ أليس هو أن تكسر للجائع خبزك وأن تدخل البائسين المطرودين بيتك وإذا رأيت العريان أن تكسوه وأن لا تتوارى عن لحمك؟" (58: 6- 7 ). هل نقرا مثل هذه الأقوال ونحن نفكر أو نتعامل مع المهجرين واللاجئين الى بلادنا أو مناطقنا في أوقات الحرب والشدة والضيق؟
6. "الفقراء عندكم دائما.. أما أنا فلست عندكم دائما".. وقارورة الطيب الخالص الثمين التي كسرتها وإفاضتها على رأس يسوع بالرغم من المعترضين وامتداح يسوع لها ودفاعه عنها... نفهم ذلك بمعنى أن يسوع هو أثمن من كل شيء، ومن كل احد. من يختاره ويتبعه يختاره فوق الكل ويتبعه مهما كان الثمن حتى النهاية... من خلاله نحب الفقير ونفكر بالآخر.. نراه في الآخر ونرى الآخر فيه:
"ما تفعلونه لأحد إخوتي هؤلاء الصغار، لي تفعلونه". الأمانة له هي أمانة الحياة برمتها .
وهذه الأمانة ليست انجازا نهائيا نحصل عليه مرة واحدة وانتهى. بل هي نداء مستمر يأخذ مساحة حياتنا كلها.. يمر بمحنة الشك.. التردد.. الخوف.. الإعتداد بالنفس والضعف.
في هذا الباب، من المفيد أن نختم بمثال بطرس الذي، في اعتداده بنفسه، عاهد الرب إن جميع رفاقه عثروا، هو لن يعثر ويبقى لمعلمه أمينا، ومع ذلك نام في بستان الزيتون وترك معلمه لوحده في نزاعه، وأمام جارية أنكر ثلاثا وبحلفان أنه لا يعرف من هو هذا الرجل. في ضعفه نعس وأنكر وكذب. ولكن عندما التقت عيناه بعيني يسوع خجل من نفسه فخرج باكيا نادما، ومن عيني يسوع استرجع النور وبنى ثقته من جديد، بل بنى حياته من جديد. أليس هو صورة لنا في ضعفنا؟ يا ليته يكون مثالا لنا في أمانتنا للمسيح؟ آميـن.
|