النص الكامل لموعظة المطران جرجس القس موسى:
أصحاب السيادة
إخوتي وأخواتي
"يا سمعان بن يونا أتحبني؟" (يو 21:15 )
ثلاث مرات يسال يسوع: "أتحبني . . أتحبني أكثر من هؤلاء". وسمعان الذي قلبه على كفّه وجوابه على شفتيه دوما يجيب معلمه بشيء من الغمّ : "نعم يا رب أنت تعلم أني أحبك كثيرا". بشيء من الغمّ، لأن يسوع يكرر السؤال ثلاثا، وكأنه لا يقتنع بجواب واحد. وسمعان أيضا يكرر الجواب نفسه وكأنه مكسور بالتكرار.
هل أراد يسوع أن يذكّر سمعان بتصريحاته السابقة في العشاء الأخير بأنه "وان تركوك كلهم أنا لا أتركك". بل أعلن "لو استوجب أن أموت معك لمتّ ولا أتخلى عنك"" (مر 14:29-31). ومع ذلك بعد سويعات "قبل أن يصيح الديك أنكره ثلاث مرات".
هل تذكر سمعان حلفانه ولعناته ونكرانه أمام الجارية، ثم بكاءه خارج الدار.. فخجل من ادعاءاته وحزن لتكرار يسوع السؤال كتأنيب؟ لقد اعتمد على قواه الذاتية وعاطفته مرة، فانهار وسقط وكاد يبقى خارج الدار، كما كاد يبقى من دون أن يغسل يسوع رجليه، فاحتاط هذه المرة: "أنت تعلم أني احبك. أنت تعلم كل شيء".
أركز على ثلاثة جوانب في هذه الحادثة التي يضعها يوحنا بعد القيامة، اذن يحمّلها بعدا كنسيا ورسوليا أكيدا.
1. ما هي طبيعة سؤال يسوع؟
يسوع يسال التلميذ عن الحب: هل تحبني؟الحب هو قياس التلمذة والعلاقة والإلتزام والأمانة. يسوع يبحث عن علاقة شخصية بين المعلم والتلميذ. وهذه العلاقة ليست مجرد علاقة إعجاب وتبعية، بل هي علاقة حميمة شبيهة بالبنوّة والصداقة، وهما الحالتان الأساسيتان اللتان تنطلق منهما الأمانة. قال يسوع لتلاميذه: "قد دعوتكم أصدقائي، لأني أطلعتكم على كل ما سمعته من أبي.. كما أحبني الآب كذلك أنا أحببتكم" (يو 15:15، 9). من الحب تأتي الأمانة. . حتى الموت: "ما من حب أعظم من هذا أن يبذل الإنسان نفسه في سبيل من يحب" (يو 15:13). كالمحب والحبيب يصبح التلميذ والمعلم حالة واحدة، كالكرمة والأغصان: "أنا الكرمة وانتم الأغصان". ومن هذه الوحدة تنبثق الحياة: "من ثبت فيّ وثبتّ فيه، فهذا يأتي بثمر كثير" (يو 15:5). هكذا الكاهن الذي هو تلميذ يسوع بامتياز، يبقى عقيما إن لم يستق حياته من المسيح.
في هذا الدير بالذات، قبل 63 عاما، ألقى يسوع سؤاله في قلب جرجس الصغير، كما ألقاه في قلب بيوس وإخوتي الكهنة الآخرين، كل في مكان وظرف هو وحده يتذكرهما: "أتحبني.. أتحبني أكثر من هؤلاء؟". وأجاب كل بطريقته الخاصة. في الدعوة لم يسألني: يا سمعان ما حسبك ونسبك. . ما هي طموحاتك في القيادة. . كي أقبلك تلميذا؟. وفي نهاية المطاف لن يسألني: يا سمعان ما رصيدك من المال. . كم كنيسة وديرا بنيت . . ولا حتى كم شهادة اقتنيت أو حركة تزعمت؟ وإنما سيسألني: يا بني هل حقا أحببتني أكثر من هؤلاء، هل أعددت لي الطريق كيوحنا المعمدان، أم أعددته لمجدك واسمك، واستنزلت نار السماء لرافضيك كابني زبدى؟
1. الربط بين الحب والمسؤولية
غريب أن يسأل يسوع عن الحب وعلى كل جواب يسلّم جزءا من المسؤولية في تدرج له معنى: "ارع حملاني..
ارع خرافي.. ارع نعاجي". بالسريانية التدرج أوضح ܐܡܪ̈ܝ..ܥܪ̈ܒܝ.. ܢܩܘ̈ܬܝ
(يو 21:15-17). فهذا الربط بين درجة الحب ودرجة المسؤولية شيء ملفت للنظر.
وهنا أعود الى المفهوم الذي يعطيه الكتاب المقدس للرعاية. الراعي والرعية اليوم مفهومان غير مستحبين لأنهما يؤخذان بمعنى سلبي وسلطوي. الراعي يرعى غنمه ولا يطلب رأي القطيع، يقوده ولا يتناقش معه. فصار البعض يرفض اليوم استعمال كلمة الراعي والرعية حتى في الصلوات الطقسية. ولكن علاقة الراعي بخرافه في الإنجيل تختلف تماما. لنعد الى الفصل 10 من يوحنا:
- الراعي الصالح تعرف الخراف صوته وتتبعه، ويدعو كل واحد منها باسمه.
- الراعي الصالح يبذل نفسه دون الخراف ويعرض نفسه لمواجهة الذئب كي يدافع عن أمانها.
- الراعي الصالح يعرف خرافه وخرافه تعرفه.. والمعرفة في الكتاب المقدس هي فعل حب وحنان وعلاقة شخصية.
هذه هي العلاقة التي تنير الكاهن في خدمته الراعوية. يصبح حالة واحدة من الحب والبذل، وليس التسلط والإستغلال.
حتى لو شردت غنمة أو تمرّد خروف. لنسمع حزقيال النبي كيف يخاطب الرعاة الذين لا يفون بالأمانة لرعيتهم:
"ويل للرعاة الذين يرعون أنفسهم! إنكم تأكلون الألبان وتلبسون الصوف وتذبحون السمين.. الضعاف لم تقووها والمريضة لم تداووها والمكسورة لم تجبروها والشاردة لم تردوها والضالة لم تبحثوا عنها، وإنما تسلطتم عليها بقسوة وقهر..فأصبحت مشتتة. لذلك أيها الرعاة من أيديكم أطالب بخرافي" (حز 34:209).
كلام قاس أليس كذلك؟ يتطلب مني أن أضع راسي بين كفيّ وأتأمل كيف عشت العلاقة بين المسيح والرعية، بين الحب والمسؤولية خلال خمسين سنة من رسالتي الكهنوتية!
1. العلاقة بين الرسالة والصليب
"لما كنت شابا كنت تشدّ زنارك وتذهب حيث تشاء. واذا شخت آخر يشدّ لك الزنار ويذهب بك حيث لا تشاء" (يو 21:18). يا له من تعبير بسيط وبليغ عن قوة الشباب وقيمة الحرية، وعن وهن الشيخوخة وتسليم المقاليد! نبدأ الكهنوت بطاقات ومشاريع وبشعور أننا القادة. ونأخذ بالعمل.. وننجح أحيانا، وأحيانا أخرى نواجه واقعا غير الذي توقعناه.. وتمر الأيام، ونبقى نتأرجح بين النجاحات والإخفاقات. والناجح حقا يكون من احتفظ بالرجاء متوازنا ضمن واقعية الحياة ومفاجآتها. . ولكن من دون أن يفقد بعد حياة الصلاة والتزود المستمر بالوقود من منابع الفكر والروحانية. سنبقى دوما، شئنا ام أبينا، رهن ما نقرا، إذا قرانا، وما نصلي، إذا صلينا. لا رهن ما نسمع من الناس في إطنابنا أو ذمّنا.
من يقيّم حياتناحقا بعد كذا وكذا من السنين والعمل في الكهنوت؟أتريدون الصدق؟ الرب وحده. مع شيء من إحساس الضمير وحسّ الناس. ولكن.. ليست القضية في التقييم وكأنها نقطة الوصول والمكافأة. يقولون إن لعبة الشعلة أو الراية كانت تقتضي أن يحملها عدّاء ويعدو ليوصلها ويسلمها الى آخر.. وهذا الآخر الى آخر.. وهكذا حتى الهدف. هكذا الكهنوت. زرعوا فأكلنا.. نزرع فيأكلون. فلست أنا ولا أبونا بيوس، ولا أي واحد منّا، كهنة وأساقفة، النموذج الأخير.. بل نحن حلقة في سلسلة، وسنبلة في حقل أوسع، عدّاؤن يليهم عدّاؤن.. والويل لنا إذا ظننا أننا أغلقنا التاريخ في يوبيلنا، أو تقاعدنا، أو حتى يوم وفاتنا. ليعد كل منا إلى ألبومه الشخصي: فتى يبتسم للحياة.. يستهويه مثل كاهن.. يقطع فجأة ويترك أبويه لتلبية النداء.. بعد غربلة مستمرة، يقترب الدور. ثم ها هو راكعا أمام الأسقف.. وتبتدىء الحياة.. فيزجّ بنفسه في الماء عريانا مثل بطرس. ثم يأتي يوم تسليم الشعلة أو الراية. . كي يستمر المسيح يكرز به إلى آخر الزمن والى آخر العالم على يد تلاميذ جدد. وتبقى القضية بأي روح أسلّم الشعلة أو الراية.
"سمعان، لما كنت شابا كنت تشدّ زنارك وتذهب حيث تشاء، وإذا كبرت آخر يشدّ لك الزنار ويذهب بك حيث لا تشاء".. ويعلّق زميله يوحنا: "قال ذلك مشيرا الى الميتة التي يمجد بها الله. ثم قال له: "اتبعني".
يقول التقليد أن سمعان – بطرس مات شهيدا مصلوبا رأسه إلى تحت ورجلاه إلى فوق. شهيدا على كل حال. مصلوبا في كل حال. لا يمكن فكّ الإرتباط بين الرسالة والصليب، الكهنوت ليس عرس يوم الرسامة فقط، الرسالة الكهنوتية ليست سفرة سياحية. ولا نمارسها في أوقات فراغنا فقط وعلى مزاجنا!
عندما أشار يسوع لبطرس بأية ميتة سيمجد الله، قال له: "اتبعني": انه نداء ثان للدعوة. يتجدد في كل مراحل حياتنا. وكان يسوع قد أعطى خارطة الطريق لمن يريد اتّباعه لئلا يتفاجأ بعدئذ "من أراد أن يتبعني، فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويأتي ورائي" (مر 16:24).
فهم بطرس ذلك بعد أن "ضربوهم بالعصي" بسبب كرازتهم كما يشهد كتاب أعمال الرسل: "أما هم فانصرفوا فرحين بأنهم وجدوا أهلا لأن يهانوا من أجل اسم يسوع" (أع 5:41).
· شكرا للرب على كل التعزيات والنجاحات التي عشناها في كهنوتنا طوال 50 سنة. وشكرا لآلاف الوجوه، الذين، في أبرشيتنا العزيزة وفي كنيسة العراق، من أساقفة وكهنة وعلمانيين، ومنهم أنتم أعزاءنا الحاضرين الذين تحيطونا بمحبتكم اليوم، مع الآلاف الأخرى من الأبناء والأحباء المنتشرين في بقاع الدنيا، شكرا لكم جميعا إذ كنتم نورا كبيرا لنا في إيمانكم، وقدوة لنا في أمانتكم، وساهمتم بكثير في أن نعيش كهنوتنا سعادة وفرحا.
شكرا لكم من الأعماق يا أصحاب السيادة ويا أعزاءنا الكهنة والأخوات الراهبات وشعب الله المبارك الآتين من الموصل وقره قوش وبرطلة وبعشيقة وكركوك وعينكاوة وزاخو وبغداد وسائر المدن والبلدات العراقية لمشاركتكم إيانا في قداس الشكر اليوم. وشكرا لرئيس الدير الأب شربيل عيسو على استضافته لنا في هذا الصرح الروحي الحبيب. وكم كنا نتمنى أن يشاركنا أخونا الثالث الأب فرنسيس جحولا فيزهو بابتسامته بيننا ويجعل من الدير في مثل هذه المناسبة مهرجانا غامرا بالبهجة والزينة.
وفيما أهنىء أخي الأب بيوس عفاص بهذا اليوبيل المبارك، وأتمنى له العمر المديد ليبقى على عنفوانه وعطائه وشجاعته، اسمحوا لي أن أختم موجها كلمة تهنئة وشكر خاص لأقرب الرسل إليّ، كهنة أبرشيتنا الموصلية العزيزة، وفي مقدمتهم أخي الجليل مار يوحنا بطرس موشي، الذين واكبتموني عن كثب بصلاتكم وتعاونكم وشراكتكم في الرسالة الواحدة خلال زهاء اثنتي عشرة سنة كمطران لهذه الأبرشية المباركة، كبرى أبرشياتنا السريانية وأهمها. ويبقى شكري وتهنئتي الأخيرة، أنا والأب بيوس، لذوينا، أبناء وبنات إخوتنا وأخواتنا وعوائلهم، وكل آل عفاص والقس موسى، في الوطن وفي المهجر. كما أهنىء زميلنا المتبقي الثالث المطران حنا زورا في كندا. آميـــــــــــــــن
|