كلّ طرق القصر فُتحت أمام المواطنين الذين توافدوا منذ الصباح الباكر، ومرّوا بإجراءات أمنية نفّذها الحرس الجمهوري بدقّة غير مسبوقة في خطة تحفظ أمن البابا من دون أن تزعج الناس. كان المواطنون أوّل مستقبلي البابا من مستديرة الصيّاد، الى مفترق القصر الجمهوري وصولاً الى مدخله الرئيسي، حيث ملأوا جوانب الطريق رافعين الأعلام البابوية واللبنانية تحت أقواس النصر. وما إن استقلّ قداسة البابا سيارته "بابا موبيلي" وسار بينهم، حتى تحوّل عبوره عرساً وطنياً لم يقتصر على أبناء الكنيسة، بل تلوّن بكل ألوان الطوائف من خلال مشاركة الحشود الآتية من كل المناطق اللبنانية: هتافات وزغاريد ونثر ورود وتلويح بالأعلام وصور البابا والرئيس سليمان، وقرع طبول وحلقات دبكة وأناشيد وطنية. والبابا الذي جاءهم رسول سلام، بقي رافعاً يديه مباركاً مشهداً لبنانياً أراده نموذجاً للعيش الواحد في عائلة واحدة اسمها لبنان.
ولم يتوقّف هذا العرس عند أسوار القصر، إذ بقيت الأناشيد تصدح وحلقات الدبكة والسيف والترس متواصلة، على وقع خيّالة قوى الأمن الداخلي التي واكبت السيارة البابوية وهي تشقّ طريقها بين الجموع حتى المدخل الرئيس للقصر. هنا وقف رئيس الدولة مع قرينته وأولادهما شربل وريتا ولارا وصهريهما وسام بارودي ونبيل حوّاط وأحفادهما الذين قدّموا إلى البابا الورود والقربان، فباركه وباركهم وسار معهم على السجّادة الحمراء وسط صفين من رمّاحة الحرس الجمهوري إلى "صالون السفراء".
في ساعتين ونصف ساعة، حلّ البابا مع هالته القدسية في قصر بعبدا. إنه الاجتماع الوطني الذي لم تحقّقه طاولة حوار ولا أيّ مناسبة لبنانية أخرى. رئيس المجلس النيابي مع عقيلته السيدة رندة كانا أول الرسميين الواصلين لاستقبال البابا. ورئيس الحكومة نجيب ميقاتي حضر مع زوجته مي وولديهما مالك وميرا ميقاتي بدير. التقى البابا تباعاً رئيس الجمهورية بمفرده، ثمّ مع عائلته بكبارها وصغارها، ووقّع السجل الذهبي للقصر، وقدّم إليه سليمان عملات نقدية على شكل صليب يعود تاريخها إلى حضارات عدة اجتمعت على أرض لبنان، ابتداءً من القرن الأول وحتى القرن العاشر، وترمز إلى أنّ لبنان ملتقى حوار الحضارات عبر التاريخ. كما قدّم إليه الإصدار الأول من الطابع التذكاري الخاص بالزيارة، فيما قدّم إليه البابا مخطوطة أصلية قديمة مكتوبة بخط يد أحد رسل السيد المسيح.
ثم كان اللقاء بين البابا ورئيس المجلس بمفرده ثم مع عائلته، وتبادلا الهدايا، ثمّ التقى رئيس الحكومة بمفرده، ثمّ مع عائلته. وقدّم ميقاتي إليه هدية عبارة عن صليب مطعّم بالذهب يعود إلى القرن الثامن عشر.
وتخليداً للمناسبة، توجّه البابا يرافقه رئيس الجمهورية إلى حديقة الرؤساء، حيث غرس أرزة تحمل اسمه وتاريخ الزيارة.
ولعلّ اللقاء الأهمّ كان بين البابا ورؤساء الطوائف الإسلامية الذين حضروا جميعاً، وتسلٌموا منه "الإرشاد الرسولي"، وأكّدوا له حرصهم على لبنان وإيمانهم به "وطن الرسالة والعائلة الواحدة، والنموذج للعيش الواحد". والمفتي قبّاني سلّمه بدوره مذكّرة. والتُقطت لهم صورة تذكارية مع قداسته.
والمشهد الآخر الذي لا يقلّ أهمية، اللقاء الجامع في قاعة ٢٥ أيار، الذي حضرت فيه كل شخصيات البلد الزمنية والروحية وكل القيادات السياسية اللبنانية، وكان جلوسهم جنباً إلى جنب في القاعة الكبرى التي حشدت ٦٠٠ شخصية سياسية ورسمية وديبلوماسية، وروحية، ومدنية، وعسكرية وقضائية. وفيها استمعوا إلى رسالة البابا ودعوته لبنان إلى "أن يكون مثالاً في التضامن والتعايش والحوار"، وتأكيده "أنّ خصوصية الشرق الأوسط تكمن في التمازج العريق لمكوّناته المختلفة".
وأمام هذا الحشد، وضع رئيس الجمهورية تحت نظر الكرسي الرسولي"التجربة اللبنانية الفريدة التي لم تنل منها الصعاب التي امتحنت إرادتنا في العيش معاً، خلال العقود المنصرمة، وإن كانت التحديات لا تزال تعترض مسيرتنا الوطنية، في عالم متقلّب ومتداخل".
على وقع التصفيق، انتهت الزيارة البابوية لبعبدا، برفع البابا يديه مباركاً العائلة اللبنانية الواحدة. ثم غادر قداسته القاعة وتوجّه مع سليمان وقرينته إلى المدخل، دون أن ينسى أن يخصّ جمهور الإعلام الذي انتظره في البهو الداخلي للقصر ببركته الرسولية.
صحيح أنّ الزيارة التي زادت زمنياً نصف ساعة إضافية على وقتها الزمني المحدّد بروتوكولياً بساعتين، انتهت، غير أنّ مفاعيلها لبنانياً وعربياً ودولياً تبدأ مع انتهائها، وفق شهادات كثيرين من الحاضرين.
|