ما إن قاربت عقارب الساعة الخامسة والربع من بعد الظهر، حتى أطلّ الرجل المتّشح بالبياض، متأبّطاً عصاً خفيفة في يده اليسرى، مترجّلاً من سيارته "البابا موبيلي"، حيث كان في استقباله أمام مدخل الصرح البطريركي السرياني الصيفي في دير الشرفة، غبطةُ أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي، يحيط به أصحاب السيادة الأساقفة آباء السينودس السرياني، والآباء الكهنة، والرهبان الأفراميون، والراهبات الأفراميات بنات أمّ الرحمة، والشمامسة الإكليريكيون طلاب إكليريكية دير الشرفة، وكانت جموع غفيرة من أبناء الكنيسة السريانية وبناتها من أعضاء المؤسسات والجمعيات والمجالس واللجان والأخويات والحركات والجوقات والمؤمنين من رعايا لبنان كلّها، ومن سوريا والعراق، وأهالي بلدة درعون ـ حريصا، قد ملأوا جوانب ساحات الدير والإكليريكية الرحبة والواسعة، حتى ضاقت بهم. فيما كان أعضاء حركة مار شربل ـ درعون يشرفون على التنظيم والاستقبال، إلى جانب القوى الأمنية المولجة توفير الأمن والحماية اللازمين لموكب قداسة البابا وللزيارة البابوية برمّتها.
وقد ازدانت باحات الدير وساحاتها ومختلف أقسامه بالأعلام اللبنانية والفاتيكانية وأقواس النصر واللافتات المرحّبة بقداسة البابا باللغات السريانية والعربية والفرنسية والإنكليزية والإيطالية والألمانية لغة البابا الأمّ، ومنها "أيها الأب الأقدس بنديكتوس، نحن نحبّك"، "هلمّ بالسلام أيها الكارز بالسلام"، وسواها...
وعلى أنغام ترنيمة استقبال الأحبار باللغة السريانية "تو بشلوم روعيو شاريرو" (هلمّ بالسلام أيها الراعي الصالح)، ووسط التصفيق الحار وهتافات الترحيب من الجموع المحتشدة، ترجّل قداسة البابا من سيارته وحيّا الجموع مباركاً الجميع بيمينه. ثم تسلّم باقة ورود من فتاة صغيرة مباركاً إياها، وصافح قداستُه غبطةَ أبينا البطريرك والبطاركة الكاثوليك الآخرين والأساقفة آباء سينودس كنيستنا السريانية، وسار على السجّاد الأحمر الذي فُرش احتفاءً بالضيف الكبير وخليفة القديس بطرس الرسول.
وفور دخوله، أزاح قداسة البابا الستار عن اللوحة التذكارية التي تخلّد هذه الزيارة التاريخية، وجلس إلى طاولة تحت اللوحة مدوّناً كلمة بركة في السجلّ الذهبي للبطريركية، ودخل إلى القاعة البطريركية المعدَّة خصيصاً لاستقبال قداسته. والجدير بالذكر أنّ هذه القاعة (الصالون) اكتست حلّةً بهية قشيبة تزخر بتاريخ كنيستنا السريانية العريقة ويعبق بين حناياها وقناطرها التاريخية عبير وشذى بطاركتها العظام الذين رعوا أبناءها وبناتها بمحبة وغيرة وتفانٍ ونكران ذات. كل ذلك بعد أن قام غبطة أبينا البطريرك بتجديدها وترميمها طوال ستة أشهرٍ خلت، لتأتي متجانسةً مع عظمة وكرامة هذا المكان النفيس والغالي على قلوب السريان في لبنان وبلاد الشرق وعالم الانتشار.
في وسط هذه القاعة التي تختزن التاريخ، جلس الأب الأقدس على العرش الناصع البياض المعدّ له، عند نقطة التقاء بين الجالسين عن اليمين وعن اليسار. فعن يمين قداسته جلس بطريركان مشرقيان: غبطة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس اغناطيوس الرابع هزيم، وقداسة بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للسريان الأرثوذكس مار اغناطيوس زكا الأول عيواص، وممثّلو بطاركة، ومطران لبنان للأرمن الأرثوذكس كيغام خاشريان، ومطران جبل لبنان والبترون للروم الأرثوذكس جورج خضر، ومطران جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس مار ثيوفيلوس جورج صليبا، ومطارنة ورجال دين من الكنائس الأرثوذكسية والأرثوذكسية الشرقية: السريان والروم والأرمن والأقباط ومن الكنيسة الآشورية.
أما إلى يسار قداسة البابا، فجلس غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، فأمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال ترشيسيو برتوني، وأربعة بطاركة كاثوليك، هم: البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، وبطريرك الروم الكاثوليك غريغوريوس الثالث لحّام، وبطريرك الأرمن الكاثوليك نرسيس بيدروس التاسع عشر، وبطريرك اللاتين فؤاد طوال، والأنبا كيرلّس وليم ممثّلاً بطريرك الأقباط الكاثوليك أنطونيوس نجيب، والمطران لويس ساكو ممثّلاً بطريرك الكلدان عمانوئيل الثالث دلّي.
كما حضر اللقاء أعضاء الوفد المرافق لقداسة البابا، وكاثوليكوس الكنيسة السريانية الكاثوليكية الملنكارية في الهند مار باسيليوس اقليميس، والسفير البابوي في لبنان المطران كبريالي كاتشا، وأعضاء لجنة السينودس من أجل الشرق الأوسط، وعدد من الأساقفة الكاثوليك في لبنان والشرق. وحضر أيضاً أصحاب السيادة الأساقفة آباء سينودس كنيستنا السريانية وبعض كهنتنا ورهباننا وشمامستنا.
كانت جلسة حميمة وهادئة، أرادها قداسة البابا وجهاً لوجه مع سائر إخوته من رؤساء الكنائس غير الكاثوليكية وممثّليها في الشرق. فجاء اللقاء الأخوي ذا وقعٍ مؤثّرٍ.
بدايةً، ألقى غبطة أبينا البطريرك كلمة ترحيبية بقداسة البابا باللغة الفرنسية، أبرز ما جاء فيها:
"أرحّب بكم في مقرّنا البطريركي، وأنا فخورٌ أن أقول لكم باسم إخوتي بطريركَي أنطاكية للروم الأرثوذكس والسريان الأرثوذكس وسائر ممثّلي الكنائس الشقيقة المشرقية: أهلاً وسهلاً بكم، شلومو وحوبو باللغة السريانية، أي سلام ومحبة ".
"لقد حرصتم على القيام بهذه الزيارة للشرق الأوسط، كرسول سلام، رغم الاضطرابات المؤلمة التي تهزّ أكثر من بلد في منطقتنا. زيارتكم التاريخية تثبت اهتمامكم الوالدي الذي يعزّينا في هذا الوقت من الاضطراب... وكسائر أسلافكم، تذكّروننا بأنه رغم العواصف والأمواج العاتية، فإنّ القائم من الموت وعد أنه سيبقى مع كنيسته إلى نهاية الأزمنة. قبل أن تغادورنا، أردتم أن تشرّفونا بهذه الزيارة لديرنا، دير سيدة النجاة الذي أسّسه قبل نحو 225 عاماً، على يد سلفنا البطريرك اغناطيوس ميخائيل الثالث جروه".
ثم عرض غبطته الصعاب التي واجهها جروه، قبل إنشائه الدير، وما عانته الكنيسة السريانية الكاثوليكية من اضطهادات على مرّ الزمن. وقال: "رغم قلّة عدد أبنائها، فإنها تتابع رسالتها، بالنسبة إليها نشر الانجيل هو شهادة واستشهاد. ففي لغتنا السريانية، الشهادة تعني أيضا الاستشهاد. لقد دعوتم، قداستكم، الكنائس المشرقية إلى عيش الشركة الكنسية وإلى شهادة صادقة. ورغم خيباتٍ عاشتها، فإنّ الحركة المسكونية عرفت تقدّماً منذ المسكوني المجمع الفاتيكاني الثاني. وأذكر مثالاً على ذلك، التقارب والتضامن بين كنيستينا السريانيتين الأنطاكيتين. شهادتنا في الإيمان وتبشيرنا بالانجيل يتطلّبان أصالةً متجدّدة، في مواجهة أخطارٍ متمثّلة في انعدام الثقة، والعداء من الغالبية الدينية التي نعيش معها في المنطقة...".
وأردف غبطته قائلاً: "كل مسيحيي الشرق الأوسط، مع معرفتهم بضعفهم وإخفاقاتهم، ينتظرون أن تكون حقوقهم الانسانية، وخصوصاً حرياتهم الدينية... محترمة، وأن يدافع المجتمع الدولي، لا سيّما الدول المسمّاة ديمقراطية وتعدّدية، عن تطلّعهم إلى العيش في أوطانهم كمواطنين نموذجيين... ونعدكم أيها الأب الأقدس بأن نستمر، بصلاتكم وإرشاداتكم، في العيش شهوداً حقيقيين للرجاء...".
بعد ذلك جرى تبادل الهدايا، فقدّم غبطة أبينا البطريرك إلى قداسة البابا أيقونة رسمها الراهب الأفرامي يوحنا بطرس، وهي عبارة عن نسخة طبق الأصل من أيقونة أثرية سريانية تمثّل سيدة النجاة ومار أفرام ومار جرجس الشهيد. أما قداسة البابا، فقدّم لغبطته هدية هي عبارة عن نسخة من الكتاب المقدس.
ثم توالى الحاضرون وهم يصافحون قداستَه، فيقدّمهم لقداسته غبطةُ أبينا البطريرك واحداً واحداً، وسط جو يعبق بالمحبة الأخوية التي حلّت محلّ الكلمات وفاقتها بلاغةً وعذوبة. فكان غبطة البطريرك اغناطيوس الرابع أوّل مصافحي قداسة البابا. وبعفوية، أضاف إلى اللحظة موقفاً مؤثّراً بقوله متوجّهاً إلى البابا: "لي الفخر بمواصلة مرحلة كنّا فيها معاً مع سلفكم. لقد التقينا مراراً في السابق... ومعتادون على المودّة مع الفاتيكان. ونأمل في تواصل التعاون والمودّة بيننا".
وتلاه قداسة البطريرك مار اغناطيوس زكا الأول، الذي أكّد بدوره للبابا على مشاعر المحبة الأخوية والمودّة والتقدير، ثم ممثّل بطريرك الأرمن الأرثوذكس، وممثّل الكنيسة القبطية الأرثوذكسية، وممثّل الكنيسة الآشورية، ومطارنة سريان أرثوذكس، وروم أرثوذكس، وراعي الكنيسة القبطية الأرثوذكسية في لبنان.
وفي ختام المصافحات، توجّه البابا إلى البطاركة والمطارنة من الكنائس الشقيقة بكلمة، ومما قال فيها:
"إنّ لقاءنا اليوم يعرب عن رغبتنا في أن نتقرّب، وأن نجتمع حول سيدنا يسوع المسيح. كذلك، يعرب عن رغبة في نبذ العنف. فنحن كتلامذة المسيح، علينا أن نعطي شهادةً حيّةً، كي يؤمن العالم برسالة السلام والمحبة. هذه هي الرسالة التي تلقّيناها من الله، وعلينا تعميمها في العالم، لا سيّما في الوضع الراهن في الشرق الاوسط.
فلنعمل من دون ملل أو تعب على أن نصل إلى الوحدة، وحدة الصلاة ووحدة الكنيسة، ولنجتمع دوماً حول إلهنا الواحد ومخلّصنا الواحد. وكما كتبتُ في الارشاد الرسولي الذي قُدِّم إلى لبنان، "يسوع يحبّنا ويعطينا روح الله"، وقدَّم إلينا أيضاً أمّنا مريم العذراء، وأسلم حياة كلٍّ منّا إلى مريم العذراء، وأسلم أيضاً كلّ كنائس لبنان والمجموعات كي تحميها، وكي نتخلّص من كل شرّ ومن كل عنف، وكي تصل هذه المنطقة في النهاية إلى السلام والمصالحة. وكما قال يسوع المسيح، سلامي أعطيكم، فليكن هذا السلام كل ما نعطي لهذه المنطقة التي لا تتوق ولا تطمح إلا إلى السلام".
وبعد كلمة قداسته، تعالى التصفيق مجدّداً، فيما توجّه البابا إلى الخارج، وكانت الساعة تشير إلى السادسة إلا ربعاً مساءً. وقفةٌ سريعةٌ عند مدخل البطريركية، لالتقاط صورة تذكارية مع آباء سينودس الكنيسة السريانية والإكليروس السرياني، طغت عليها الابتسامات وعلامات التأثّر، فالبركة الختامية. وصعد البابا إلى سيارته، وانطلق موكبه في اتّجاه بيروت، وتحديداً إلى مطار الرئيس رفيق الحريري الدولي للمغادرة، فيما كانت أيدي مستقبليه من الإكليروس والمؤمنين تلوّح له.
حقاً إنها زيارة تاريخية، ستظلّ دقائقها عزيزةً جداً ومحفورةً في قلب تاريخ كنيستنا السريانية، وحديث الساعة لما ولّدته من مشاعر وأحاسيس.
|