"لقاء الشبيبة" مع قداسة البابا بدأ عند السادسة مساءً تحت عنوان "سلامي أعطيكم"، في حضور فخامة رئيس الجمهورية اللبنانية العماد ميشال سليمان مع نجله، وقد فاجأ الجميعَ بحضوره،وكان سبقه وزير التربية والتعليم العالي حسّان دياب، ووزير الثقافة كابي ليون.
وحضر هذا اللقاء أصحاب الغبطة بطاركة الشرق الكاثوليك، ومن بينهم غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي، والأساقفة الكاثوليك، وممثّلو الطوائف المسيحية والطوائف الأخرى، وعدد كبير من الكهنة والرهبان والشمامسة والراهبات، وشخصيات رسمية وسياسية، وجموع غفيرة من الشبّان والشابات من مختلف الكنائس والطوائف من لبنان والشرق الأوسط.
وعند السادسة مساءً، وصل قداسة البابا إلى بكركي في "البابا موبيلي"، حيث استقبلته الحشود الشعبية على جانبي الطريق المؤدّي إلى الباحتين الخارجية والداخلية للصرح، حاملةً أعلاماً لبنانية وفاتيكانية وأغصان الزيتون وصوراً للبابا، الذي شقّ طريقه وسط آلاف المؤمنين الذين علت هتافاتهم مرحّبين بحرارة بالأب الأقدس، تعبيراً عن حبّهم له ولبركته ولرسالة السلام والمحبة التي يحملها إليهم.لقد هدرت الباحات بالهتافات والتصفيق الحادّ، وأطلّ "الرجل الأبيض" محيياً ومباركاً، واستغرقت جولته بالـ "بابا موبيلي" في فسحات أنشئت خصّيصاً بين صفوف الكراسي نحو ربع ساعة، ليترجّل بعدها ويسير مع البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي، ثم صعد المنصّة حيث وافاه البطريرك الكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وكان عناقٌ بينهما.
وبعدما بارك مستقبليه وحيّاهم، أخذ قداسة البابا مكانه في صدر المنصّة الرئيسية وجلس إلى يمينه البطريرك مار بشارة بطرس الراعي والكاردينال مار نصرالله بطرس صفير، وإلى يساره أمين سر دولة الفاتيكان الكاردينال ترشيسيو برتوني.
أجواءٌ صاخبة سادت المهرجان الضخم، موسيقى وأناشيد من جوقة دير طاميش، ومرتّلون ومرنّمون بينهم نادر خوري، ثم فرقة الفيحاء التي غنّت "الغضب الساطع" لفيروز و"القدس"، فألهبت الأكفّ، ثم منوّعات من شبيبة العمل الرعوي الجامعي، وأغنية "كلنا منحبو للبابا"، ثم أغنية "البابا مبارك" و"هللويا" و"عليك السلام يا بابا"، فتراتيل بيزنطية، ومنها "المسيح قام من بين الأموات ووطئ الموت بالموت"، ثم ترنيمة لتجمُّع "يسوع فرحي" وأغنية لجمعية "أنتَ أخي" أدّتها مي مخّول.
افتتح البطريرك الماروني مار بشارة بطرس الراعي اللقاء بكلمة رحّب في مستهلّها بقداسة البابا ورئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان والحضور، وأبرز ما جاء فيها:
"يسعدني ويشرّفني أن أرحّب بقداستكم في هذا الكرسي البطريركي، حيث تلتقون شبيبة لبنان والعالم العربي. هؤلاء الشباب هم متعطّشون إلى الرجاء في ظلّ تسارُع الأحداث التي تستدعي بشكلٍ متواصل الرجاء والقلق في آنٍ معاً. إنهم يتوقون إلى حياةٍ توفّر السلام والحق والاستقرار، لكي يتمكّنوا من تحقيق ذاتهم في بلدانهم، ويتجنّبوا الهجرة.
معكم، يا صاحب القداسة، نتوجّه إليهم من خلال كلام يوحنا الرسول: "أنتم أقوياء وكلمة الله ثابتة فيكم" (1يو2: 14).
وألقى راعي أبرشية طرابلس المارونية ورئيس المجلس الأسقفي للعلمانيين المطران جورج بو جودة كلمة قال فيها:
"شبيبة لبنان والدول المجاورة تستقبلكم في هذه الظروف الصعبة التي تمرّ بها المنطقة. وهم بالفعل أبناء وبنات هذا البلد الذي وصفه الطوباوي البابا يوحنا بولس الثاني بأنه "بلد الرسالة" للعالم أجمع. هم يدركون أنّ عليهم إعادة بناء وطنهم سوياً على أسس صلبة بعد سنوات الحرب. كذلك إنّ شباب الدول المجاورة يتطلّعون نحو ربيعٍ حقيقي تتبعه تغيّرات ترتكز على حقوق الانسان بعد الاضطرابات التي تخبّطت بها بلدانهم".
وأضاف: "إلا أنّ الشباب في لبنان والشرق الأوسط مهد الإيمان المسيحي، يعيشون في القلق والخوف، لأنهم يرون بلدهم يفرغ شيئاً فشيئاً من الوجود المسيحي، وتخيّب آمالهم من عدم تمكّنهم من المشاركة بإعادة إعمار بلدهم الذي عصفت به ظاهرة الأصولية بشتى أنواعها وعانى صعوبة المصالحة مع الحداثة".
ورأى بو جودة أنّ "التبشير الجديد، وهو عنوان السينودس المقبل وسنة الإيمان التي كرّستموها، سيساعدهم في التفكير وعيش التزامهم المسيحي بطريقة أفضل. إنهم يدركون المسؤوليات التيتجعل منهم شهوداً مستعدّين للدفاع عن أنفسهم ضدّ من يسألهم عن سبب الرجاء الذي يملأ قلوبهم، فشبيبة لبنان، ورغم كل الصعاب يرحّبون بكم في بلد الأرز".
وألقى مطران صيدا للروم الكاثوليك ونائب رئيس المجلس الأسقفي للعلمانيين إيلي حداد كلمةً أكّد فيها أنّ "شباب الشرق الأوسط هم حاضر الكنيسة ومستقبلها ويتوقون إلى الاصغاء إليكم"، لافتاً إلى أنّ "الشباب يهاجرون إلى الخارج بسبب التحدّيات التي يواجهونها في مجتمعاتهم وهم يشهدون تصاعُد التطرّف ويخلطون بين السياسة والدين"، مؤكّداً أنّ "العنصرة الجديدة ستجدّد حياتهم".
وقال: "إنّ شباب لبنان والشرق الأوسط فخورون بلقائكم اليوم بحماس، يتوقون لسماع كلماتكم. كذلك الرهبان والراهبات سيجدون في هذا اللقاء انطلاقةً جديدة لمهمّتهم الدينية، أما المسؤولون عن الشباب سيصغون إليكم".
وأضاف: "إنّ مشاركة المسيحيين وغير المسيحيين في اللقاء اليوم ليست إلا انعكاساً لمهمّة بلادنا في الشرق، وزيارتكم تعيد إحياء نيران انتمائنا إلى الكنيسة".
وفي كلمة الشباب التي ألقاها كلٌّ من رانيا أبو شقرا وروي جريش، لم ينسَ الشبان والشابات الصعوبات التي يواجهونها من أوضاع أمنية وسياسية واقتصادية سيّئة ومتأزّمة، إلى مشكلة البطالة. وأكّدوا بلسان أبو شقرا وجريش "أننا نحن شباب الشرق نريد أن نثبت في الشرق ونتجذّر بأرضنا، رمز انتمائنا وهويتنا، ليس تعصّباً، بل حفاظاً على كيان المنطقة وفرادتها. وإننا نريد ثقافة السلام ونبذ العنف، فنكون جسوراً حيّة، وسطاء للحوار والتعاون مع شبّان وشابات من ديانات مختلفة".
أما كلام البابا، فكان له وقعٌ واضحٌ في نفوس الشبان والشابات الذين وصلوا ورتّلوا وأنشدوا ورقصوا وصفّقوا، فملأوا سماء الباحة الخارجية الكبرى المترامية الأطراف في بكركي بالأهازيج والتصفيق، وإذ بها تحتضن أكثر من عشرين ألف شاب وشابة من كل لبنان، بينهم مسلمون، ومن كل الدول العربية المجاورة، حتى إذا ما تحدّث عنهم مرشد الشبيبة الخوري توفيق أبو هدير، معدّداً بلدانهم، ارتفعت أهازيج ودوّى تصفيق، ليدرك المتابع حجم الآتين من هنا وهناك وهنالك. ولو كان عددٌ غير قليل منهم نازحاً من سوريا والعراق، أو آتياً من الأردن والأراضي المقدسة، وصولاً إلى مصر وقبرص وكردستان وبعض دول أوروبا.
كل هاجس الشباب، وُضع أمام قداسة البابا في بكركي أمس، والبابا وعد الشباب "المؤمن بكنيسة واحدة وبالمزيد من العمل على التقارب المستمر بين الكنائس الشرقية"، بأنه إلى جانب الشباب الذين "يعيشون اليوم في هذا المكان من العالم الذي كان شاهداً على ميلاد يسوع ونموّ المسيحية"، مشيراً إلى "أنني أعرف الصعوبات التي تعترضكم في حياتكم اليومية، بسبب غياب الاستقرار والأمن، صعوبة إيجاد عملٍ أو الشعور بالوحدة والإقصاء. في عالم دائم الحركة، تجدون أنفسكم أمام تحدّيات كثيرة وعسيرة، فحتى البطالة والأخطار يجب ألا تدفعكم إلى تجرُّع "العسل المرّ" للهجرة، مع الاغتراب والغربة من أجل مستقبلٍ غير أكيد. تصرّفوا كصنّاع لمستقبل بلدكم، وقوموا بدوركم في المجتمع وفي الكنيسة". وأكّد أنّ "لكم مكاناً مميّزاً في قلبي وفي الكنيسة جمعاء، لأنّ الكنيسة دائماً فتيّة! الكنيسة تثق بكم، إنها تعتمد عليكم. كونوا شباباً في الكنيسة! كونوا شباباً مع الكنيسة! الكنيسة تحتاج إلى حماستكم وإبداعكم، لأنّ الفتوّة هي وقت الاستلهام من المُثُل الرفيعة، وهي فترة الدراسة للاستعداد لمهنة ما وللمستقبل".
وقال: "يجب ألا يدفعكم الاحباط إلى الهروب بأنفسكم إلى عوالم موازية كتلك الخاصة بعالم المخدّرات بكل أنواعها، أو بعالم الإباحية الحزين. أما فيما يتعلّق بشبكات التواصل الاجتماعي، فهي مفيدة ولكنّها قد تدفعكم في اتّجاه الإدمان والخلط بين ما هو حقيقي وما هو وهمي. ابحثوا وعيشوا علاقات غنية بالصداقة الحقيقية والنبيلة. كونوا أصحاب مبادرات تعطي وجودكم معنىً وجذوراً، حاربوا السطحية ومنطق الاستهلاك السهل! في الوقت نفسه، أنتم معرَّضون لتجربة أخرى، تجربة المال، هذا الصنم الغاشم الذي يُعمي إلى درجة خنق الشخص وقلبه.
كونوا الحاملين محبة المسيح! كيف؟ بالالتجاء غير المشروط لله، أبيه، لأنّه مقياس كل ما هو صالح وحق وطيّب. تأمّلوا كلمة الله (...)".
ثم أُنشد نشيد مريم، وتلا قداسة البابا صلاة الافتتاح، وبارك قداسته الحضور مانحاً إياهم سلام المسيح. بعد ذلك كانت تلاوة لرسالة مار بطرس، فقراءة من الانجيل المقدس. وتليت صلاة مشتركة بلغات عدة، بعدها منح الحبر الأعظم بركته الرسولية.
وكانت ترنيمة الختام أنشدتها السيدة ماجدة الرومي، فالزياح، وقُدِّمت الهدايا التذكارية وهي:
ـ منمنمة أرمنية (صورة مزخرفة في مخطوط) للقديس غريغوريوس الناريكي.
ـ هدايا رمزية من الكنائس المشرقية:
. من مصر: لوحة على ورقة البردى (العائلة المقدسة في هروبها إلى مصر)
. من العراق: لوحة أور (مهد أقدم الحضارات المعروفة في تاريخ العالم والتي فيها ولد ابراهيم أبو المؤمنين)
. من الأردن: ماء من نهر الأردن
. من سوريا: لوحة القديس بولس في دمشق
. من الأراضي المقدسة: غرسة زيتون وكأس من خشب الزيتون مرصّع بالفضّة
. من لبنان: ذخائر القديسين اللبنانيين (شربل، رفقا، نعمة الله، اسطفان، أبونا يعقوب، والإخوة المسابكيين)، في مدخر على شكل سفينة، منحوتة على شكل أرزة (رمز الحياة الرهبانية)، طبعة خاصة من كتاب الانجيل باللغة العربية (وهو أوّل وأكبر إنجيل عربي مطبوع في روما سنة 1590)، متحجّرة (رينوباتوس مارونيتا) ولها من العمر مليون سنة، الأيقونة المشتركة لبشارة العذراء، أيقونة سيدة المنطرة، فسيفساء تمثّل قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر، منحوتة الفينيق (رمز لقيامة شرقنا الحبيب)، النسخة الأولى باللغة العربية من كتاب تعاليم الكنيسة الكاثوليكية للشبيبة (يوكات).
وفي الختام، دخل قداسة البابا والبطاركة والأساقفة الكاثوليك إلى كنيسة السيدة في الصرح، حيث أدّى صلاة الشكر، ووجّه كلمة إلى البطاركة والأساقفة عبّر فيها عن فرحه الكبير لما لمسه "من إيمانٍ وحماسةٍ في الكنيسة الحيّة". ودعا "إلى تفعيل روح الشراكة بين الكنائس الكاثوليكية، وإلى ضرورة أن يعرف الشباب التعاليم الدينية لأنّها تدلّهم على الحقيقة الأساسية، ومن خلالها يعرفون الإيمان وحقيقة الله والكنيسة".
ثم غادر قداسة البابا عائداً إلى مقرّ إقامته في السفارة البابوية في حريصا.
|