"صلاحاً وتدبيراً وحكمةً علّمني" (مز 119: 66)
غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان الكلي الطوبى
إخوتي السادة الأساقفة الأجلاء
السادة الرسميون والإداريون والمسؤولون في الدولة والأحزاب والمنظّمات
إخوتي الكهنة... أخواتي الراهبات والرهبان
وأنتم جميعاً أيها المؤمنون والمؤمنات، وآل الجميل الأكارم، وسائر أهل الفقيد وأصدقائه وتلامذته ومحبّيه
*
في عزّ جريانه وعنفوانه كبا حصان الفارس المطران ميخائيل الجميل كبوة حاسمة وهو في وسط الميدان يهلهل... وتوقّفت فجأةً تلك الحركة الدائبة، الغادية المقبلة، التي لم تعرف الكلل على مدى 48 عاماً من الكهنوت والشهادة والعطاء الثر. في عامٍ واحدٍ تفقد كنيستنا السريانية وأبرشية الموصل وبخديدا اثنين من أعلامها وأبنائها: المطران مار يوليوس ميخائيل الجميل، المعتمد البطريركي لدى الكرسي الرسولي والزائر الرسولي لسريان أوروبا، والخوراسقف فرنسيس جحولا رئيس دير مار بهنام الشهيد.
وتستحق بخديدا أن يعود إليها ابنها البار الذي أحبّها حتى النخاع وتغنّى بلسانها وأمثالها وتراثها، ومثّلها حيثما كان بتألّق. تستحق أن يعود إليها ليضمّ رأسه للمرة الأخيرة إلى صدرها الحنون، وتضمّه بحنان الأم الرؤوم إليها، ليغذّي إرثها ويثري عطاءها وغدها بما أعطى ولا يزال يعطي أبناؤها وبناتها، البارحة واليوم، من علم وفضيلة وفكر وطاقة خلاقة لمستقبل أفضل. ويستحق الفارس أن تستقبله جماهيرها، شيبها وشبابها وأطفالها، في شبه أوشعنا لا ينقطع من الهلاهل والتصفيق والترانيم. ومن البركة والشرف لبخديدا أن يترأس الموكب غبطة أبينا البطريرك، أبو آباء سينودس كنيستنا السريانية الأنطاكية، شخصياً، ولبخديدا مكانة متميّزة في قلب غبطته. كما كان يكنّ للفقيد الغالي تقديراً خاصاً لصفاته الشخصية وجدارته كعضو في السينودس العام وفي السينودس الدائم.
يوم الخميس 29 تشرين الثاني المنصرم، وفي نحو الساعة الثانية ظهراً، صعقت جلطة دماغية فجائية حادّة المطران ميخائيل الجميل، وهو في مكتبه في الوكالة البطريركية بروما، فصرعته على أديم غرفة عمله فاقد الوعي، وأخذته غيبوبة لم يفق منها أبداً. ولحسن الحظ، سمع جار مكتبه السيناتور الإيطالي صوت السقوط، وباب المكتب مفتوح، فهرع ليجد جسد المطران هاوياً على وجهه، مضرّجاً بدمه. فما كان منه إلا أن استدعى الإسعاف ونقله إلى المستشفى الأقرب، مستشفى الروح القدس، ومن ثمّ نُقل إلى مستشفى الإخوة الرهبان في جزرة التيبر، غير بعيد عن كنيسة القديس بطرس. وهنا أجريت له كلّ الإسعافات الطبّية اللازمة، وبقيت الأجهزة والعلاجات الخاصة تقتصر على تنشيط التنفّس والقلب وحدهما. ولم يفلح الأطبّاء الأخصائيون على مدى أربعة أيام في إيقاظ أية ومضة استجابة في الدماغ: هكذا رأيته ظهر الأحد الماضي عندما أوفدني غبطة أبينا البطريرك إلى روما على عجل، ووقفت عند رأسه، والطبيب يشرح لي أنّ لا بصيص أملٍ بشري سوى بأعجوبة ربّانية. وتوقّف القلب الكبير الشهم العارم دوماً بالحيوية، توقّف تماماً عن الحركة، في الساعة الرابعة والنصف من فجر يوم الإثنين 3/12. وانتشر الخبر في أوساط روما، ابتداءً من مجمع الكنائس الشرقية وراديو الفاتيكان، ومن روما إلى العالم. وللفقيد أصدقاء ومعارف وعلاقات واسعة، رسمية وشخصية، لا في روما وحدها، بل في لبنان والعراق وأقطار كثيرة من العالم. لا أنسى هذا الصوت الذي جاءني من بلد أوروبي في موبايل الفقيد ذاته ونحن نرتّب غرفته، كيف أجهش في البكاء وقطع المكالمة إذ علم بالخبر المباغت. ولا هذا الصوت الذي كلّمني بالإيطالية في الموبايل ذاته من مكتب دعاوى القديسين، حيث كان الفقيد قد عيّنه قداسة البابا مؤخّراً عضواً فاعلاً فيه، وهو يخبره بموعد اجتماعٍ قادمٍ للمكتب... وعندما أنبأته بما جرى: هل حقاً ما تقول؟ وكيف حدث ذلك؟
كيف حدث ذلك يا أخي ميخائيل؟ قل لنا كيف خمدت فجأةً حيويّتك العارمة وحركتك الدائمة وجلجلة ضحكتك الصاخبة؟ كيف توقّفت دون سابق إنذار وبغتةً عن كيل هذه التعليقات الحاذقة والدعابات الخفيفة المصحوبة بدندنة موسيقية أو مقطع من أغنية ذكية، ممّا كنت معتاداً عليه لتلطيف الجو؟ ماذا تقول لأشقائك وشقيقاتك ولأبنائهم وبناتهم ولكلّ ذويك في البلدة المحبوبة، ولأحبابك ومعارفك الذين يملأون الدنيا وقد تركتهم على حين غرّة من دون سلام ولا وداع؟ كيف هان عليك أن تغلق ملفّات مسوداتك والصور التراثية والتاريخية ومراجع التآليف القادمة المكدّسة في غرفتك؟ أين سنجد ابتسامتك الدائمة التي كانت إحدى علامات تفاؤلك المعدي وحرارة لقائك، ممّا كان يضفي الفرح والبهجة في أيّ مجلسٍ أنت فيه، ويفرج عن كرب كلّ من يأتيك مهموماً في منفاه، أو طالبا عونك، أو سائلاً أن تدلّه على طبيب أو مستشفى، أو لمجرّد السلام عليك في مقرّك الروماني؟ هذا كنتَ في روما، وهذا كنتَ في لبنان، وهذا كنتَ في العراق، وهذا كنتَ حيثما حللت... ولم نلقَ أحداً ممّن عرفك أو قصدك إلا وأشاد بعنفوانك وسرعة بديهيّتك وخفّة دمك. وأضيف إلى هذا كلّه: بساطة عيشك وشبه نسكك في قلايتك في روما، وأنت الحاضر في كلّ المحافل والدواوين والمناسبات. حتى أهل الحي والمطاعم في كامبو مارزيو بروما صرتَ جزءاً لا يتجزّأ من مشهدهم، غير ناسين إذ كنتَ تقود في تلك الأزقّة التراثية الضيّقة فريقك المحبوب من الكهنة والطلبة الدراسين في المدينة الأبدية. وهل ينسى أحدٌ صوتك الرخيم العذب الذي وظّفته لتمجيد الرب في الاحتفالات الليتورجية وترنيم المزامير والتخشفتات، بل أحياناً لطرب من يطرب؟
ولد المثلّث الرحمة المطران يوليوس ميخائيل الجميل في بلدة قره قوش (العراق) في 18 تشرين الثاني 1938. والده باكوس توفّي قبل أن يتعرّف عليه ميخائيل الصغير، ووالدته أمينة موشي كانت غاية في اللطف والطيبة. بعد المرحلة الابتدائية، اختار التوجّه نحو الكهنوت، فقصد دير مار بهنام في كانون الأوّل 1951، وبعد سنتين دخل معهد مار يوحنا الحبيب للآباء الدومنيكان في الموصل. سيم كاهناً على يدي المثلّث الرحمة المطران عمانوئيل بني في 7 حزيران 1964. وفي أيلول من السنة عينها، انضمّ إلى جماعة كهنة يسوع الملك، وصار مسؤولاً عاماً لها لفترة.
في آذار 1967 عُيّن كاهناً لخدمة رعية الطاهرة الكاتدرائية بالموصل. وإلى جانب العمل الرعوي، اضطلع القس ميخائيل بعدة أوجه للرسالة: التعليم في معهد مار يوحنا الحبيب، إرشاد الأخويات ومنها الأخوية المريمية التي صار مرشدها العام لفترة، التعليم المسيحي في المدارس الرسمية والمراكز الكنسية، مواعظ الرياضات الروحية للراهبات، زيارات منتظمة للمرضى في المستشفى الحكومي وللسجون من 1965ـ1972. خدم رعية سنجار من 1970ـ1972، يقصدها الجمعة ويعود الإثنين. وفي 1971، كلّفه الآباء الدومنيكيون تسلُّم إدارة قسم الفلسفة واللاهوت لمعهد مار يوحنا الحبيب الكهنوتي في الموصل.
في 1974 قصد الجامعة الكاثوليكية في تولوز بفرنسا للتخصص في الفلسفة وعلم النفس، فنال شهادة الماجستير في الفلسفة. ثم نال لاحقاً شهادة الدكتوراه في القانون من جامعة اللاتران بروما سنة 1998 عن أطروحته "الأحوال الشخصية لأهل الكتاب في الدولة الإسلامية".
في أيلول 1977، تغيّرت مسيرة القس ميخائيل، إذ التحق للخدمة في أمانة سر البطريركية في بيروت إلى جانب المثلّث الرحمات البطريرك أنطون الثاني حايك. ومع ذلك استمرّ في عطائه بإرشاد الكشاف السرياني اللبناني، وتدريس الدين المسيحي للصفوف الثانوية في مدرسة سيدة الرحمة، وإعداد موعظة الأحد للكنائس السريانية لعموم لبنان. وفي 1979ـ1986 عُيّن مسجّلاً، ثمّ قاضياً في المحكمة الكنسية.
في آب 1981 منحه البطريرك حايك درجة الخوراسقفية مع إنعام لبس الصليب والخاتم. وفي 1984 أسس "مركز البحوث والدراسات السريانية" بهدف إحياء التراث السرياني. وفي آب 1986 انتُخب مطراناً معاوناً بطريركياً، واقتبل الرسامة الأسقفية في 9 تشرين الثاني باسم "يوليوس رئيس أساقفة تكريت شرفاً"، ليكون أحد أكثر أساقفة السريان شباباً. وبين 1989ـ1990 عُيّن نائباً عاماً على الأبرشية البطريركية في لبنان. ومذذاك رُشّح لمناصب أو عضوية هيئات أو لجان كنسية عدّة منها: لجنة العلاقات المسكونية، ولجنة المدارس الكاثوليكية في لبنان، اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط، لجنة السينودس من أجل لبنان، ممثّلاً عن الكنيسة السريانية في منظمة برو أورينتي ـ فيينا.
وجاء المنعطف الكبير الثالث في حياة المطران ميخائيل عندما عيّنه السينودس سنة 1997 معتمداً بطريركياً لدى الكرسي الرسولي، وفي نيسان 2002 عيّنه البابا الطوباوي يوحنا بولس الثاني زائراً رسولياً لسريان أوروبا. وقبل أسابيع عدّة فقط من وفاته، كان قد عيّنه البابا بنديكتوس السادس عشر عضواً في مكتب تطويب القديسين، سيّما وأنّ بطريركيتنا قد رفعت إلى الكرسي الرسولي دعوى تطويب الشهيد المطران فلابيانوس ميخائيل ملكي الذي استشهد في الحرب العالمية الأولى سنة 1915.
النشاط العلمي والثقافي الذي زاوله فقيدنا ليس بأقلّ أهمية من المواقع الكنسية والإدارية التي اضطلع فيها. فقد نشر مجموعة من الكتب والأبحاث، منها:
1. كتاب تاريخ وسير كهنة السريان الكاثوليك من 1750ـ1985
2. صلوات الفرض السرياني لأيّام الأسبوع البسيطة
3. السلاسل التاريخية للمطارنة السريان الكاثوليك من 1900ـ2003
4. الأحوال الشخصية لأهل الكتاب في الدولة الإسلامية
وله كتب أخرى جاهزة للطبع أو ملفّات جاهزة لمؤلّفات جديدة.
ولأنشطته المتعدّدة الوجوه، وعلاقاته الواسعة وعلى أرفع المستويات، فقد أُنعم عليه بعدّة أوسمة، من إيطاليا وفرنسا والنمسا ولبنان.
لقد عشنا سويةً منذ سنواتنا الأولى في المعهد الكهنوتي، ثم في نطاق الحياة المشتركة لكهنة يسوع الملك في الموصل، وكنتُ وبقيتُ قريباً جداً منه، إضافةً إلى كوننا أبناء قرية واحدة، وانطباعي عنه في الإكليريكية: تلميذ مرح، مجدّ، نظامي، وطائع، ذو صوت رخيم، ومعشره مريح ودمث. وفي الكهنوت: كاهن غيور، روحاني، سعيد، وممتلىء حيويّةً ونشاطاً، لا يمسك نفسه عن أيّة خدمة يستطيع أداءها. وفي الأسقفية: رجل تحرّر من حدود القولبة إلى إثبات الذات، رجل علاقات واسعة وتواصل وأمانة في الصداقة، مشتغل كبير يعرف أن يسجن نفسه لساعات للفكر والكتابة، إلى جانب قدرة للتأقلم والاختلاط وزرع المرح، فلا يمرّ طيفه بأحدٍ دون أن يترك عبيراً منعشاً ورغبةً لتكرار لقائه. أليس في هذا كلّه شيءٌ ممّا ابتغاه فقيدنا الغالي عندما اختار شعاراً كهنوتياً له هذا المزمور: "صلاحاً وتدبيراً وحكمةً علّمني"؟.
فاذهب بسلام يا أخاً عزيزاً طالما صلّينا وتأمّلنا معاً، ضحكنا وتألّمنا، تسامرنا ونظرنا إلى الحاضر والمستقبل سويةً! "اذهب يا أخانا في طريقك ولا تحزن، فإذا فصلك الموت عنّا، فالحنّان الذي اقتادك من بيننا، هو يسعدك في النور مع الأبرار. وفمك الذي صمت الآن عن الخدمة، لن يهدأ من بعد بتسبحة الملائكة، ورجلاك اللتان كفّتا عن ارتياد المذابح، ستطوفان مع الصدّيقين أمام الرب" (صلاة الدفنة).
وأسمعك تجيبنا بنغمات صوتك الشجي، وبكلّ الرجاء الذي سكن قلبك: "امضوا بسلام يا إخوتي وأحبائي، ها قد دنت ساعة الفراق، فلا تنسوا ذكري من محبتكم. وإذا تغرّبتُ عن صفوفكم، ألتمس منكم يا أحبائي أن تصلوا من أجلي. امضوا بسلام يا بني رتبتي" (الدفنة).
إنّ المطران ميخائيل الجميل ثروة كنسية وشخصية وعراقية، ذات حضور متميّز ومتعدّد الآفاق والثراء، في المجتمع وفي العالم الثقافي والفكري والكنسي، وبفقدانه خسارة فادحة لكنيستنا السريانية ولأبرشيتنا ولبخديدا. فإلى أبي كنيستنا السريانية الحاضر معنا هنا، غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، وإلى الأبرشية الموصلية العزيزة المتمثّلة براعيها الجليل المطران مار يوحنا بطرس موشي، وإلى بخديدا البلدة الحبيبة ومهد طفولة الفقيد الغالي ومرجع اعتزازه الدائم، وإلى كنيسة العراق بكل طوائفها وأحبارها، فالمطران ميخائيل الجميل كان ابن كنيسة العراق جمعاء، نرفع المواساة والتعزية. ولكم أنتم يا إخوته عبدالله وجميل، وأخواته امامة وحنّة، وسائر آل الجميل، وآل القس توما وموشي، وكلّ أصدقاء الفقيد ومحبّيه حيثما أنتم، صلاتنا وتضامننا في الألم وتعزياتنا برجاء القيامة الذي رقد عليه حبيبكم وحبيبنا جميعاً، باسم الآب والإبن والروح القدس، آمين.
|