ما كنت أنتظر أبداً أن أحتفل معكم بالذبيحة الإلهية في هذا جوّ الأسف على فراق أخٍ وصديقٍ حبيب، هو المثلّث الرحمات المطران مار يوليوس ميخائيل الجميل، الذي فقدناه إثر وعكة صحية ألمّت به ولم تمهله سوى أيام قليلة.
يوم الخميس 29 تشرين الثاني المنصرم، وفي نحو الساعة الثانية ظهراً، صعقت جلطة دماغية فجائية حادّة المطران ميخائيل الجميل، وهو في مكتبه في الوكالة البطريركية بروما، فصرعته فاقد الوعي وهو في غرفة عمله. تمّ نقله إلى المستشفى الأقرب، حيث أجريت له كلّ الإسعافات اللازمة، لكنّها، وللأسف الشديد، لم تفلح. توقّف القلب الكبير الشهم العارم بالحيوية، فجر يوم الإثنين الثالث من كانون الأول الحالي. وانتشر الخبر في أوساط روما، ابتداءً من مجمع الكنائس الشرقية وراديو الفاتيكان، ومن روما إلى العالم. وللفقيد أصدقاء ومعارف وعلاقات واسعة، رسمية وشخصية، لا في روما وحدها، بل في لبنان والعراق وأقطار كثيرة من العالم.
كان المطران ميخائيل الجميل رجل الكنيسة، يلبّي دعوته للخدمة الكهنوتية والأسقفية أينما دعته الكنيسة: أوّلاً في أبرشية الموصل، حيث بدأ خدمته الراعوية في عدد من رعايا الأبرشية وأرشد الأخويات وعقد ندوات التعليم المسيحي، وزار المسجونين، منتمياً إلى جمعية كهنة يسوع الملك الناشئة.
وفي عام 1977، دعاه الرب بشخص المثلّث الرحمات البطريرك مار اغناطيوس أنطون الثاني حايك، للخدمة في الكرسي البطريركي في بيروت، فعيّنه أميناً للسر في البطريركية، وفي الوقت عينه مسجّلاً ثم قاضياً فرئيساً لمحكمة الاستئناف الروحية. عام 1981 رُقّي إلى الدرجة الخوراسقفية، ورُسم عام 1986 مطراناً باسم مار يوليوس، رئيساً لأساقفة تكريت ومعاوناً بطريركياً، ثم نائباً بطريركياً عاماً على الأبرشية البطريركية في لبنان. فمارس خدمته بكل حيوية ونشاط في الإرشاد والتوجيه والتعليم،
وخلال الأعوام العشرين من خدمته في لبنان، عُرف المثلّث الرحمات رجلاً مليئاً بالحيوية والنشاط، ينشر الرجاء والثبات بين الجميع، إكليروساً وعلمانيين، في سنوات الأزمة الأليمة التي مرّ بها هذا البلد الحبيب. فكان الأب الروحي للعائلات هنا في حيّ السريان، كما في سائر رعايا الأبرشية البطريركية.
في عام 1996، وبناءً على توصية سينودس أساقفة كنيستنا السريانية، عُيّن المثلّث الرحمات معتمداً بطريركياً لدى الكرسي الرسولي، وأضيفت إلى مهامه عام 2002 مسؤولية الزائر الرسولي للسريان الكاثوليك في أوروبا. كما مثّل كنيستنا السريانية في لجانٍ كنسية وطقسية عدة، منها: لجنة السينودس من أجل لبنان،اللجنة السريانية "برو أورينتي"، اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس لشرق الأوسط، لجنة العلاقات المسكونية، اللجنة السريانية المشتركة بين السريان الكاثوليك والسريان الأرثوذكس. وقبل وفاته بأسابيع قليلة، عيّنه قداسة البابا بنديكتوس السادس عشر عضواً فاعلاً في مجمع دعاوى القديسين في الفاتيكان.
عُرف المثلّث الرحمات بغيرته الوقّادة على التراث السرياني، فانكبّ يبحث في بواطن الكتب، مستقرئاً المخطوطات، فأثمر مؤلّفاتٍ غزيرةً في التاريخ الكنسي، وترجماتٍ لعددٍ من الكتب الطقسية. وإلى جانب العلوم اللاهوتية، عُرف بتعطُّشه للتحصيل العلمي، إذ نال شهادات الليسانس في علم النفس، والماجستير في الفلسفة. وواظب على الدراسة حتى حصل على شهادة الدكتوراه في الحق القانوني الكنسي من جامعة اللاتران في روما، وكان قد قارب السبعين من العمر.
في نص رسالة القديس بولس الرسول إلى تلميذه تيموتاوس الذي تلي على مسامعنا، يوصي الرسول تلميذه أن يكون أميناً لدعوة الرب السامية، أن يكون رسولاً وخادماً للرعية، أميناً للرب الذي دعاه، وأميناً للكنيسة التي احتضنته ورعته. وهكذا يعطي ذاته مثالاً حيّاً للتلميذ الأمين: "جاهدت الجهاد الحسن، أكملت السعي".
لقد قاسى رسول الأمم الكثير من التضحيات والآلام والصعوبات لنشر بشرى الخلاص والشهادة لإنجيل المحبة والسلام. وظلّ مستعداً على الدوام ليلاقي وجه معلّمه الإلهي الذي استحوذ عليه بكلّيّته عندما أضاء له بنوره على طريق دمشق، فجعله رسولاً عظيماً لا تزال الكنيسة تتأمّل بسيرته وتتغذّى من مَعين تعاليمه السامية.
وفي الإنجيل الذي سمعناه، يشبّه الرسول متى ملكوت السماوات بمثل الوزنات التي استودعها ربّ العمل لعبيده وخدّامه. من هذا المثل، نفهم كم على التلميذ أن يسعى ويجدّ لعيش دعوة الرب بروح الأمانة، في كلّ لحظة من حياته، وفي كلّ عمل يقوم به. عندئذٍ يستحقّ الثناء والمكافأة: "نعمّا أيها العبد الصالح والأمين، كنت أميناً على القليل، أنا أقيمك على الكثير، ادخل إلى فرح سيّدك".
أيها الأحباء،
عرفتُ المثلّث الرحمات المطران مار يوليوس ميخائيل الجميل عندما كنّا نخدم سويةً في بيروت ـ لبنان، خلال تلك الحرب الأهلية المؤلمة. عرفتُ فيه ذاك الانسان الطيّب، المحبّ، الذي يخدم بحميّة رسولية منفتحاً على شؤون الرعية وشجونها، ناشراً حوله الفرح والابتسامة.
وفي خدمته الأسفقية، عرفناه أباً في سينودس أساقفتنا المقدس، متفهّماً لحاجات الكنيسة، وملبّياً الدعوة لخدمتها أينما دعي لذلك.
عندما نصلّي الصلاة الربانية، نقول "لتكن مشيئتك يا رب كما في السماء كذلك على الأرض". نعم نحن نسلّم بمشئية الله ونقبلها، وإن كان الألم يعصر قلبنا وقلوب المحبّين لغياب هذا الوجه المشرق في كنيستنا السريانية.
نحن شعب إيمان وشعب رجاء، لذلك عندما نفتقد عزيزاً، نجدّد فعل إيماننا وثقتنا بالمعلّم الإلهي القائل "أنا معكم كل الأيام وحتى انقضاء الدهر". ولأنّ مسيرتنا الأرضية، مهما طالت أو قصرت، عليها أن تتكلّل بنور القيامة، وتكون انعكاساً لمحبة الله للبشر، فنحن قادرون بنعمته تعالى على تحمّل فراق الأحباء مهما كان قاسياً علينا!
لنتابع هذه الذبيحة الإلهية، موجّهين أنظارنا نحو مذبح الرب، متذكّرين أننا جميعاً أهل السماء، وحياتنا على هذه الفانية ما هي إلا مسيرة نحو الأبدية. ولنصلِّ بروح الإيمان والرجاء من أجل راحة نفس أخينا المثلّث الرحمات المطران مار يوليوس ميخائيل الجميل. كما نصلي من أجل ذويه الحاضرين بيننا، وأولئك الذين هم في العراق، والمنتشرين في بلادٍ أخرى.
هذا ما نطلبه من الرب في هذا اليوم المبارك، ونحن على أهبّة الاستعداد لنحتفل بفرح عيد الميلاد المجيد، أعجوبة الحبّ الإلهي، سائلين الرب يسوع، طفل المغارة، أن يمنح فقيدنا الغالي الرحمة والسعادة الأبدية، بشفاعة أمّنا العذراء مريم، والدة الإله الطاهرة سيدة البشارة، وجميع القديسين والشهداء. آمين.
|