الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
كلمة غبطة أبينا البطريرك في مؤتمر الرحمة الإلهية في بطريركية الروم الكاثوليك

 
 
   

    ننشر فيما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي الكلي الطوبى، في مؤتمر "الرحمة الإلهية: رسالة حياة وأساس الحوار لبناء السلام"، والذي عُقد يوم السبت 27 نيسان 2013، في مركز بطريركية الروم الكاثوليك لحوار الحضارات:

 

الرحمة الإلهية: رسالة حياة وأساس الحوار لبناء السلام

    أصحاب الغبطة والسيادة والسماحة

    الآباء الكهنة والرهبان والراهبات

    أيها الحضور الكريم

    نجتمع اليوم على دعوة من غبطة أخينا البطريرك غريغوريوس الثالث لحّام الكلي الطوبى، لنلتقي حول موضوع أساسي وجوهري في حياة المسيحي وشهادته، ألا وهو "الرحمة الإلهية".

    إنّ الحنان والرحمة هي من صفات الله تعالى. فالرحمة الإلهية هي قلب الكتاب المقدس، ونراها جليّةً من خلال أعمال الله وتعاليمه التي اختبرها شعب الله في العهد القديم، سواء فردياً أو كجماعة. لقد أعلن الله لموسى عن ذاته قائلاً له: إنّ "الرب إلهٌ رحيم ورؤوف طويل الأناة كثير المراحم والوفاء" (خروج 34: 6). وفي قصة شعب الله المختار وتعامُل الله معهم، نجد أنها تحمل معنىً واحداً، وهو أنّ الله مملوءٌ رحمةً.

    وفي العهد الجديد، أظهر الله عِظَمَ محبته للجنس البشري ورحمته لنا في تجسّده وموته على خشبة الصليب وقيامته ليمنح الحياة الأبدية لكلّ من يؤمن به. فيؤهّلنا من خلال تلك الثقة أن نسأل رحمته تعالى، وفي الوقت عينه يلزمنا أن نثبت هذا الأمر عملياً بأن نرحم نحن الآخرين أيضاً. لهذا قال يوحنّا الرسول، واسم يوحنا يعني "الله تحنّن": "بهذا قد عرفنا المحبّة أنّ ذاك قد بذل نفسه من أجلنا، فيجب علينا أن نبذل نفوسنا من أجل الإخوة" (1 يوحنا 3: 16).

    ويوحنّا التلميذ الحبيب نفسه يعلن: "لأنّه هكذا أحبّ الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد لكي لا يهلك كلّ من يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية" (1 يوحنا 3: 16). وفي هذا الإطار عينه جاءت أيضاً كلمات القديس بطرس: "مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح الذي على حسب رحمته الكثيرة وَلَدَنا ثانيةً لرجاءٍ حيٍّ بقيامة يسوع المسيح من بين الأموات لميراثٍ لا يبلى ولا يفسد ولا يضمحلّ محفوظ في السموات لكم" (1 بطرس 1: 3ـ4).

    نختبر الرحمة الإلهية بالإقتراب من يسوع، التجُّسد الحقيقي للرحمة الإلهية، والثقة به، وهكذا نحيا محبة الله وسلامه. كما نلمس الرحمة الإلهية في عناية الله اللا محدودة بالبشر، سيّما الخطاة ومرضى الجسد والروح، وفي منحه المؤمنين به روحه القدوس بعد صعوده عنهم وارتفاعه إلى أبيه السماوي.

    وأما المكان الأمثل لهذا الإلتقاء بالسيّد المسيح فهو "الكنيسة"، التى يصفها بولس الرسول بـ "جسد المسيح" (1 كورنثوس 12: 27). ففي الكنيسة نجد إعلاناً واضحاً عن رحمة الله في كلّ الطقوس والخدمات والصلوات، إذ الكنيسة هي الموزِّعة للأسرار المقدسة، والمُصلِّية من أجل الجميع، والرائدة في الدفاع عن الإنسان ووجوده وكرامته. وفي الكنيسة نلتقي أمَّ الكنيسة وأمَّ الرحـمة مريـم العذراء التي تلعب دوراً محورياً في تدبير الله الخلاصي، وهي تصلّي مع أعضاء "جسد المسيح"، وتتشفّع لهم أمام عرش الرحمة الإلهية.

    ومن هنا يمتاز طقسنا السرياني الأنطاكي بالتوجُّه إلى الله الرحوم الغفور، الإله الغزير المراحم. والرحمة في طقسنا ولغتنا السريانية تتقارب لغوياً ولاهوتياً إلى حدٍّ كبيرٍ من كلمة الحب، الرحمة ܪ̈ܰܚܡܐوالحب ܪܶܚܡܬܐ، وهذا يعني ضرورة اقتران الرحمة بالشعور بالحب تجاه من تُمارَس نحوه الرحمة.

    إنّ الرحمة، ومع كونها مقترنة بالحب، إلا أنها يجب ألا تتنكّر أبداً للعدل والحق، العدل المبنّي على المساواة في الكرامة والحقوق والواجبات بين الناس، أمّا الحق فله باللغة العربية معنيان: الحقيقة، وما يستوجب للشخص من حقوق، سيّما الحق الطبيعي والموضوعي بعيشٍ حرّ وكريم.

    أيها السامعون الكرام،

    تعيش منطقتنا الشرق أوسطية في هذه الأيام ظروفاً عصيبةً، إذ تشهد بلادٌ عدّة اضراباتٍ وأعمال عنفٍ وتخريب، ممّا يدفع بالكثيرين من أبنائها إلى هجرة وطنهم بحثاً عن الأمن والسلام والاستقرار. ومن بين هؤلاء، العديد من أبنائنا وبناتنا المسيحيين الذين يغادرون بسبب القلق الكبير والخوف على المصير.

    إنّ بلاد الشرق هي أرض الآباء والأجداد ومنطلق الديانات التي تنادي بوحدانية الله، فيها وُلد ربنا وإلهنا يسوع المسيح، وعاش وتألّم ومات وقام، وعليها عاش أهلنا وأدّوا الشهادة لإنجيل المحبة والسلام. لذا، فمن واجبنا كرعاة روحيين أن نشجّع أبناءنا على الثبات في هذه الأرض المباركة، إلا أنّ تشجيعنا لهم بالكلام وحده غير كافٍ، ما لم يقترن بواقعٍ ملموس يعيد إليهم الشعور بالطمأنينة.وهنا يكمن دور رجال الدينفي الشرق والعالم، من مرجعيات ووعّاظ وخطباء، أن ينشروا ثقافة الرحمة الإلهية، مبتعدين قولاً وفعلاً عن كل ما يفرّق بين البشر، لا سيّما في البلد الواحد، داعين إلى التراحُم والالفة، ممّا يبعث الطمأنينة في النفوس، فتعمّ المحبة الفاعلة أساساً للعيش الواحد بين المواطنين، إلى أيّ دين أو عرق أو طائفة انتموا.

    كما أنّ للقادة والمسؤولين الرسميين اليد الطولى في تعزيز الاستقرار ونشر العدل والحق المرتبط بالحقيقة، بما حباهم الله من حكمة وفطنة ودراية، وألا يكتفوا بإطلاق الشعارات الرنّانة عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان، إنّما أن يقوموا بمسؤولياتهم بهدي الرحمة الإلهية، التي تُميِّز جوهر المسيحية والإسلام على السواء، متبنّين الحقيقة المبنيّة على المحبة، قولاً وفعلاً. وقد عبّر عنها مار بولس رسول الأمم، كما أنّ إنجيل يوحنّا يذكّرنا بقوله "الحق يحرّركم"، بأنّ الحقيقة هي تلك التي تحرّر الإنسان من عبودية الكذب والنفاق. وإنّ العبادة لله هي "بالروح والحق"، كما قال يسوع للمرأة السامرية.

    وفي ختام كلمتي هذه، يطيب لي أن أتوجّه بالشكر الجزيل إلى أخي صاحب الغبطة البطريرك غريغوريوس على دعوته الكريمة، وإلى جميع الذين تعبوا في إعداد هذا المؤتمر وتنظيمه، وفي مقدّمتهم حضرة الأرشمندريت شربل الحكيم ومعاونيه.

    لنمارس بإخلاص أفعال الرحمة، سائلينه تعالى أن يشفق علينا ويرحم ضعفنا ويغفر لنا زلاتنا، كما نحن قد رحمنا قريبنا وغفرنا له زلاته. عندئذ نستحق وعد الرب يسوع، فهو القائل: "طوبى للرحماء فإنهم يُرحَمون" (متى 5: 7).

وشكراً لإصغائكم.

 

 

 

 

إضغط للطباعة