وكانت مريم واقفة أمام الصليب...
كانت مريم تنظر إلى ابنها يتألّم على الصليب... كانت واقفة... مصلّية... خاشعة... مشاركة... متسائلة...؟
ـ أيستحقّ هذا البريء أن يتألّم كلّ هذه الآلام...!!
ـ أيستحقّ من أطعم الجياع... وشفى المرضى... وأعطى البصر للعميان... ووقف مع المظلومين... ونادى بالصفح والغفران... وترك شرعة واحدة هي شرعة المحبة... أن يعلَّق على الصليب...؟
ونحن على مثال مريم وقفنا أمام استشهاد الأب الراهب السمعاني فرانسوا صامتين... واجمين... مصلّين... متسائلين: ما هذا الضمير... ما هذا الوجدان الذي يسمح بقتل الأبرياء... ما هذا الضمير الذي يسمح بالتعذيب... والتنكيل... والتقطيع... وذبح الإنسان كنعجة أو كحيوان...
لماذا حكموا على أبونا فرانسوا بالقتل...؟
آه لو كنّا نعلم البيّنات التي قدّموها ضدّه ليهدروا دمه...
لقد تعرّفنا على أبونا فرانسوا، وكانت تربطنا به أواصر الصداقة والمودّة... تعرّفنا عليه راهباً رزيناً... متواضعاً... مصلّياً... هادئاً... فقيراً... نقياً... تقياً... طاهراً...
يحمل مشروعاً كبيراً وعظيماً... فهو يسعى إلى تأسيس رهبنة على مثال مار سمعان العامودي... (النسك في العراء)، على مثال مار مارون والقديسين الذين عاشوا في شمال سوريا... كرّس نفسه للصلاة... والتأمّل... ورفع الصلوات والابتهالات من أجل جميع الناس كما كان يفعل العاموديون. ولا بدّ من التنويه إلى أنّ هذه الروحانية تمتدّ جذورها إلى الثقافة والروحانية السورية قبل المسيح، عندما كان الكاهن السوري يعتلي العامود، ويجتمع الناس من حوله، ويرفع صلواتهم لأنه الأقرب إلى الله... وتابعت المسيحية هذه الروحانية مع العاموديين، ومنها استمدّ الإسلام المآذن التي انطلقت من بلاد الشام لتعمّ العالم الإسلامي...
هذه الروحانية تحمل الإيمان المنفتح والناضج... الإيمان الذي يقبل الآخر ولا يرفض، ويحبّ ولا يكفّر...
الأب فرانسوا كان يتوق إلى الارتقاء إلى فوق ليحمل كلّ إنسان إلى حضن الآب السماوي...
لقد كان مقتنعاً بدعوته الصعبة، كنّا نسمعه يتحدّث عن مشروعه بوداعة وتواضع وقناعة وثقة مطلقة بأنّ الله معه ويعمل معه...
توقّع الشهادة وانتظرها من خلال رسائله إلى مطرانه مار يعقوب بهنان هندو الذي تبنّى رهبانيّته...
وقد نال إكليل الشهادة محتضناً عشر رصاصات في قلبه الذي بقي ينبض بالمحبّة والصفح والغفران، وأسلم الروح وهو يتمتم بصوتٍ خافت: "يا أبتاه اغفر لهم لأنّهم لا يدرون ماذا يفعلون"، وانضمّ إلى الحمل السماوي ينشد مع الملائكة "قدّوس... قدّوس... قدّوس... رب الصباؤوت...".
ستبقى ذكراه في قلوبنا، وكلّنا أمل أن يقبل الله دماءه الزكية قرباناً طاهراً، لتعود سوريا قصيدة حبٍّ وسلام.
|