الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
رسالة عيد الميلاد المجيد 2014 لغبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان

 

 

 

ܐܓܪܬܐ ܕܥܐܕܐ ܕܡܘܠܕܐ

ܫܢܬ ܒ̱ܝܕ

رسالة عيد الميلاد المجيد

عام 2014

 

 

ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ ܐܠܨܝ ܐܝܬܘܬܐ ܐܚܝܕ ܟܠ

ܐܝܓܢܛܝܘܣ ܝܘܣܦ ܬܠܝܬܝܐ ܕܒܝܬ ܝܘܢܐܢ

ܕܒܪ̈ܚܡܘܗܝ ܕܐܠܗܐ

ܦܛܪܝܪܟܐ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ ܕܣܘܪ̈ܝܝܐ ܩܬܘܠܝܩܝ̈ܐ

 

 

باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل

 

اغناطيوس يوسف الثالث يونان

بنعمة الله

بطريرك الكرسي الرسولي الأنطاكي للسريان الكاثوليك

 

إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الاحترام

وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل

وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب

اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار

 

نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات والخيرات:

 

"ܬܶܫܒܽܘܚܬܳܐ ܠܰܐܠܳܗܳܐ ܒܰܡܪ̈ܰܘܡܶܐ ܘܥܰܠ ܐܰܪܥܳܐ ܫܠܳܡܳܐ ܘܣܰܒܪܳܐ ܛܳܒܳܐ ܠܰܒܢܰܝ̈ܢܳܫܳܐ"

"المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر" (لوقا 2: 14)

 

1. مقدّمة: الميلاد عيد الفرح والسلام والرجاء

في بداية رسالتنا لعيد الميلاد المجيد، نعرب عن أطيب التهاني والتمنّيات لجميع أبناء كنيستنا السريانية وبناتها وإخوتنا وأخواتنا من الكنائس الأخرى والجماعات الكنسية، ومن سائر الطوائف والأديان، وكلّ مواطنٍ صالحٍ يسعى إلى السلام، في لبنان والشرق الأوسط وبلدان الإنتشار، راجين منه تعالى، ينبوع النعم والمراحم، أن يحمل هذا العيد مواسم خيرٍ وسعادةٍ لجميع الذين يتّقونه بروح المحبّة والسلام، وأن يحلّ عليهم العام الجديد 2015 باليمن والبركات.

يحتفل العالم المسيحي في مشارق الأرض ومغاربها بعيد ميلاد الرب يسوع بالجسد، عيد الإله المتأنّس، عيد المحبّة اللامتناهية، عيد الفرح ومصدر السلام وينبوع الرجاء بمستقبلٍ أفضل.

لقد وُلد المخلّص بالجسد في هدأة الليل، في قريةٍ صغيرةٍ وديعةٍ من فلسطين، هي بيت لحم. وجاءت الملائكة تبشّر رعاةً كانوا هناك، يسبّحون الله، وينشدون قائلين: "المجد لله في الأعالي وعلى الأرض السلام والرجاء الصالح لبني البشر" (لو 2: 14). إنّه نشيدٌ تردّده ليتورجيا الأرض في كنائسها كافّةً، وها هو الطقس السرياني يعلنه صباح كلّ يومٍ ليرفع المؤمنين إلى الله، مستذكرين ليلة ميلاد ابنه الكلمة الذي أضحى بشراً، متّخذاً في التاريخ اسم يسوع.

 

2. الميلاد مجد الله بيسوع وبشرى الفرح

ظهر مجد الله بشخص يسوع المسيح، على أن يظهر في كلّ إنسانٍ حيٍّ مستنيرٍ بسرّ الكلمة المتجسّد. لكنّ هذا المجد وهذه الإستنارة لن يتمّا، ما لم "يملأ سلام المسيح قلوب البشر" (كول 3: 15)، فيستعيد الإنسان بهاء صورة الله فيه، ويسطع من خلاله مجد الله في العالم، على رجاء التمتُّع به وجهاً لوجه في ملكوته السماوي.

مجد الله في السماء هو الإنسان الحيّ على الأرض، المخلوق على صورة الله ومثاله. يسوع ابن الله وكلمته المتأنّس، هو الإنسان الكامل في إنسانيته، الذي بتجسُّده، وبموته فداءً عن البشر، وبقيامته لتبريرهم ومنحهم عربون الحياة الجديدة، أتمّ تدبير الله الخلاصي الشامل للبشرية جمعاء، وحقّق مجد الله. وجاءته الشهادة من الأعالي، يوم معموديته في نهر الأردن على يد يوحنّا المعمدان، ويوم تجلّيه على جبل طابور بأبهى مجد ألوهته: "هذا هو ابني الحبيب، الذي عنه رضيت، فله اسمعوا" (متى 3: 17).

لقد بلغ خبر ميلاد الرب يسوع رعاة بيت لحم الفقراء البسطاء بلسان الملاك: "إنّي أبشّركم بفرحٍ عظيمٍ، يكون للعالم كلّه: لقد وُلد لكم المخلّص، هو المسيح الرب" (لو2: 10 و11). فصدّقوا وأسرعوا إلى حيث وُلد، وآمنوا وسجدوا له. المسيح خبرٌ مفرحٌ نحمله لجميع الناس: "إذهبوا في الأرض كلّها وأعلنوا بشارتي إلى الخلق أجمعين" (مر 16: 15). وعادوا يمجّدون الله ويهلّلون، مواصلين بدورهم الأنشودة الملائكية.

هكذا أصبح الرعاة، وقد أشرق عليهم مجد الربّ، أوّل من استودعهم الله بشرى الخلاص، وأوّل المشاهدين المتأمّلين سرّ الكلمة، وأوّل المبشّرين بالفرح العظيم، وأوّل الممجّدين لله في ليتورجية العهد الجديد.

وقد أجاد الطقس السرياني بالتعبير عن اختلاط تسابيح الملائكة بتهاليل الرعاة يوم الميلاد:

"ܙܳܚܘ ܬܶܓܡ̈ܶܐ ܕܢܽܘܪ̈ܳܢܶܐ ܡܶܢ ܪ̈ܰܘܡܶܐ ܕܰܠܥܶܠ܆ ܘܥܰܡ ܟܶܢܫ̈ܶܐ ܥܰܦܪ̈ܳܢܶܐ ܒܰܪܘܳܙܳܐ ܗܰܠܶܠܘ. ܠܰܡܫܺܝܚܳܐ ܡܶܣܬܰܟܝܳܢܳܐ܆ ܡܶܠܬܶܗ ܕܰܐܒܳܐ ܫܡܰܝܳܢܳܐ܆ ܕܰܨܒܳܐ ܘܶܐܬܺܝܠܶܕ ܒܓܰܘ ܐܳܦܰܪܬܳܐ: ܬܶܫܒܽܘܚܬܳܐ ܠܰܐܠܳܗܳܐ ܒܪܰܘܡܳܐ ܘܒܰܐܪܥܳܐ ܫܰܝܢܳܐ ܘܰܫܠܳܡܳܐ ܘܣܰܒܪܳܐ ܠܐ̱ܢܳܫܽܘܬܳܐ".

وترجمته: "تحرّكت طغمات النورانيين منحدرةً من الأعالي، ورنّمت بابتهاجٍ مع جموع الترابيين، للمسيح المنتظَر، كلمة الآب السماوي، الذي شاء ووُلد في أفراثا: المجد لله في العلى وفي الأرض الأمان والسلام والرجاء للبشرية".

 

3. الميلاد تمجيدٌ للمسيح الإله بالإنسان

بلغ خبر ميلاد يسوع مجوس المشرق الأغنياء العلماء من خلال نجمٍ ظهر في سماء بلاد فارس، فقرأوا فيه ميلاد ملك الأزمنة الجديدة. صدّقوا وساروا على هدي النجم حتى بيت لحم، فرأوا وآمنوا وسجدوا وقدّموا له هداياهم، الذهب لأنّه هو الملك، والمرّ إذ هو الفادي، واللبان أي البخور لكونه الإله والكاهن. وبهذا احتفلوا مع يوسف ومريم  بحلول "ملء الزمان" (غلا 4: 4) لإتمام عمل الله الخلاصي.

وها نحن هنا اليوم نواصل هذه المسيرة، كما سوانا في كلّ كنائس الأرض، فنحتفل بعيد ميلاد الرب يسوع، معلنين إيماننا، راجين أن يكون لقاؤنا بالمسيح، لقاء إيمانٍ وتجدُّدٍ في العيش والسلوك، مثل الرعاة والمجوس، لا مجرّد ذكرى سطحية.وهكذا نواصل السماع والرؤية ونقل الخبر ورفع آيات التسبيح والتمجيد، من أجل عالمٍ يتخبّط في الظلمات، وقد وافاه "الشارق من العلى" (لو 1: 78).

يتمجّد المسيح الإله بالإنسان، فكلّ إنسانٍ حيٍّ مدعوٌّ ليحقّق ذاته بكلّ أبعادها الروحية والمادّية، الثقافية والإجتماعية، الإقتصادية والوطنية، فيكون مجدَ الله. الإنسان، كلّ إنسانٍ، هو غاية الخلق، وبالتالي غاية الدولة ومؤسّساتها. ولهذا، تفرض السلطة العامّة على الذين يتولّونها مسؤولية ممارسة سلطتهم ضمن حدود القيم الأخلاقية التي رتّبها الله، وعلى أساس احترام الشخص البشري بحدّ ذاته، وفي دعوته وحقوقه الأساسية وحرّياته الطبيعية، مع حمايتها والدفاع عنها، فيتمكّن من تحقيق ذاته كقيمةٍ مضافةٍ لعائلته ومجتمعه ووطنه. ومن واجب الكنيسة والدولة الإهتمام بتربية جيلٍ مستنيرٍ وملتزمٍ، يكون بنوه وبناته مؤمنين صالحين ومواطنين صالحين ذوي حسٍّ وطني راسخٍ، وبُعدٍ إجتماعي منفتحٍ، وإيمانٍ ثابت.

 

4. الميلاد بداية الخلاص بالمسيح الممجَّد

تحقّق مجد الله بولادة المخلّص: "اليوم وُلد لكم المخلّص" (لو 1: 11)، هو يوم مجد الله الذي يصبح يوم الإنسان. إنّه بداية زمن الخلاص، ونهاية الأزمنة السابقة واكتمالها، والزمن الأخير الحاسم لخلاص جميع الناس. كلّ يومٍ من حياتنا هو صدى لهذا اليوم: هو عمّانوئيل "الله معنا" (مت 1: 23) لخلاصنا. هذه هي رسالة الكنيسة، تواصلها كلّ يومٍ بإعلان إنجيل الخلاص والتحرير.

هذا المخلّص الممجَّد في الأعالي هو "المسيح الربّ" (لو 1: 11) الذي مسحه الروح القدس في طبيعته البشرية، المتّحدة بالشخص الإلهي، نبيّاً وكاهناً وملكاً، والذي يُشرك في مسحة الروح شعب الله الجديد، جاعلاً إيّاه شعب الأنبياء والكهنة والملوك، على ما كتب بطرس الرسول: "أمّا أنتم فإنّكم ذرّيةٌ مختارةٌ وجماعةٌ ملوكيةٌ كهنوتيةٌ، وأمّةٌ مقدّسةٌ، وشعبٌ اقتناه الله للإشادة بآيات الذي دعاكم من الظلمات إلى نوره العجيب (1 بط 2: 9). هو الربّ الذي يخلّص بقدرته الإلهية، يعطي الخيرات ويحرّر من الشرور.

لقد أراد الرب يسوع منذ الدقيقة الأولى لحضوره بيننا، أن يعلن مجده بالتواضع والكفر بمقتنى الدنيا وغناها. فوُلد في مذودٍ، وشعر بما نشعر به من عوامل الطبيعة. لُفّ بأقمطةٍ اتّقاءً من البرد في هذه الأيّام في بيت لحم، وأُضجع في مذودٍ، وهو سيّد الكون، وما فيه من كائنات.

 

5. الميلاد أساس السلام الشامل

بميلاد الله إنساناً في بيت لحم، كانت للعالم رسالةٌ من السماء تؤكّد أنّ الله يحبّ جميع البشر ويمنحهم الرجاء بزمنٍ جديدٍ، هو زمن السلام، وأنّ حبّه الذي تجلّى بملئه في الإبن المتأنّس، الذي هو "الله ظهر في الجسد" (1 تيم 3: 16)، هو أساس السلام الشامل. فمن يقبل الإبن بكلّ قلبه، يصالحه الإبن مع الله الآب السماوي ومع ذاته، ويجدّد العلاقات بين الناس، ويذكي العطش إلى الأخوّة القادرة على تجاوُز تجربة الكبرياء والعنف. هذه الرسالة السماوية تدعو البشرية كي تؤلّف عائلةً واحدةً على قاعدة العلاقات المتناغمة بين الأشخاص والشعوب، والإنفتاح على الله المتسامي، وتعزيز كرامة الإنسان، واحترام الطبيعة.

لكنّ البشرية تُصاب بخسارةٍ كبرى بسبب الحروب المتتالية والنزاعات وموجات القتل والتهجير التي تزرع وراءها البؤس والجوع والأمراض والتقهقر الإجتماعي والإقتصادي، وقد ولّدت هذه المآسي منطق الظلم والإستضعاف، الذي تغذّيه رغبةٌ جامحةٌ في التسلّط على الآخرين واستغلالهم. وإذا بالحروب تتسبّب غالباً بحروبٍ أخرى، لأنّها تشعل أحقاداً عميقةً، وتخلق أوضاعاً من الظلم، وتدوس كرامة الأشخاص وحقوقهم. ومن البديهي أنّ من ينتهك الحقوق الإنسانية إنّما ينتهك الضمير الإنساني، بل البشرية ذاتها.

ومع ذلك لنا بالميلاد رجاءٌ أنّ السلام ممكنٌ، ويجب التماسه كعطيّةٍ من الله، وبناؤه يوماً بعد يومٍ بأعمال عدالةٍ ومحبّةٍ، وبمعونة الله وهدي روحه القدّوس. وسيكون سلامٌ بمقدار ما تكتشف البشرية بأسرها دعوتها الأصلية لتكون عائلةً واحدةً تُحترَم فيها كرامة الأشخاص وحقوقهم، أيّاً كان عرقهم ودينهم وحالتهم. هذا ما تؤمن به الكنيسة، وتدعو إليه بلسان الحبر الروماني، خليفة بطرس، في اليوم الأوّل من كلّ سنةٍ، عبر رسالته وندائه بمناسبة اليوم العالمي للسلام.

 

6.الميلاد يمنح العالم عطيّة السلام المبني على روح التضامن

إنّ السلام الذي منحه الرب يسوع للعالم بميلاده يستوجب اقتناع الأفراد والجماعات بأنّهم عائلةٌ واحدةٌ بانتمائهم إلى البشرية الواحدة. فالتضامن الذي يجعل من البشرية عائلةً واحدة، هو روح التضامن الذي يجد نقطة الإرتكاز في مبدأ شمولية خيرات الأرض التي أعدّها الله لجميع الناس. هذا المبدأ لا ينتزع شيئاً من شرعية الملكية الخاصّة، بل يكشف وظيفتها الإجتماعية. لا سلام بدون تضامنٍ وبدون إنماءٍ شاملٍ للإنسان والمجتمع، وهذا الإنماء يقتضي وعياً للقيم الخلقيّة الشاملة، التي بدونها لا مجال لحلّ النزاعات ولتأمين مستقبلٍ أفضل للبشرية. والتضامن الصادق هو قائمٌ على العيش معاً وفق مقاصد الله، وعلى الحوار والتعاون بين الشعوب والثقافات والأديان، وعلى اللقاء بين العقل والإيمان، وبين الحسّ الديني والحسّ الخلقي.

ولأنّ السلام عطيّةٌ من الله لأرضنا، فقد بات الإلتزام به عملاً جوهرياً. فهو كالمبنى في طور بناءٍ دائمٍ، والكلّ مدعوٌّ للإلتزام به: الأهلفي العائلة ليعيشوا السلام ويشهدوا له ويربّوا أولادهم عليه، المعلّمونفي المدارس والجامعات لينقلوا قيم المعرفة وتراث البشرية التاريخي والثقافي، الرجال والنساء في عالم العمل ليناضلوا في سبيل كرامة العمل البشري على أساس العدالة والمساواة، حكّام الدوللكي يضعوا في قلب عملهم السياسي العزم الثابت على الإلتزام بالنزاهة في ممارسة مسؤولياتهم، العاملونفي المنظَّمات الدولية لكي يواصلوا عملهم كفاعلي السلام بالرغم من المخاطر التي تهدّد سلامتهم الشخصية، المؤمنون لكي يعزّزوا بالحوار المسكوني بين معتنقي الأديان قضية المجاهرة بالحقيقة في المحبّة، فيرتقوا معاً نحو حضارة الحياة في العيش الواحد المشترَك.

 

7. الميلاد سلام العدالة

سلام الميلاد الذي أنشدته ونادت به الملائكة هو "ثمرة العدالة" كما يقول أشعيا النبي (32: 17)، وهو سلامٌ يتحقّق ويتجلّى بعلاقة الإنسان مع ذاته ومع الله والناس.

في حياتنا الإيمانية يبدأ تحقيق السلام من الذات، من السلام الشخصي مع الله والناس، بالتوبة والمصالحة. كلّ واحدٍ منّا يلتزم بتجديد ذاته، سيّما مع بداية كلّ عامٍ جديد. فالأساس هو تجديد الذات بسلام الضمير الآتي من سماع صوت الله في أعماق النفس، وبالسلام مع حالة الإنسان الشخصية الناتج عن الأمانة لدعوته الخاصّة ولواجباته، وبالسلام مع الله بالرجوع إليه من حالة الخطيئة عبر سرّ التوبة والمصالحة ونيل الغذاء من الحياة الجديدة في سرّ الإفخارستيا.

كما أنّ لقاء الجماعة، في الأسرة والمدرسة والجامعة والعمل والرعية وما شابهها، يخلق جوّاً ملائماً ليساعد كلّ شخصٍ في إلقاء نظرةٍ وجدانيةٍ على ذاته، واستخراج ما يجب تغييره وتجديده. ثمّ يُصار إلى تبادُل الأفكار والخبرات، ومن بعدها إلى رسم خطّةٍ مشتركةٍ لبناء السلام الداخلي.

ولا ننسى ما للبُعد الإجتماعي من دورٍ محوري في بناء السلام على مستوى الشخص البشري والمجتمع، على قاعدة المحبّة والعدالة والخير العام،ثقافياً وسياسياً واقتصادياً. وهذا يقتضي السعي الجادّ لاكتشاف الحلول لمشاكل المجتمع، وتأمين حقّ الإنسان بالحرّية والعدالة والإستقرار والعيش الكريم والمساهمة في الحياة العامّة.

يتحدّث قداسة البابا فرنسيس في مستهلّ رسالته لمناسبة اليوم العالمي الثامن والأربعين للسلام في 1/1/2015، بعنوان "لا عبيد بعد الآن بل إخوة"، عن أهمّية البُعد الإجتماعي العلائقي في حياة الإنسان لبناء مجتمعٍ يسوده السلام الأخوي:

"بما أنّ الإنسان هو كائنٌ علائقي، مدعوٌّ ليحقّق ذاته في إطار علاقاتٍ شخصيةٍ تلهمها العدالة والمحبّة، لذا من الأهمّية بمكانٍ لتطوُّره أن يُعترَف بكرامته وحرّيته واستقلاليته التي تستحقّ أن تُحترَم. ولكن للأسف، لأنّ الآفة المنتشرة على الدوام لاستغلال الإنسان من قبل الإنسان تجرح بشكلٍ خطيرٍ حياة الشركة والدعوة لنسج علاقاتٍ شخصيةٍ يطبعها الإحترام والعدالة والمحبّة... لذا يجب العمل في ضوء كلمة الله، لاعتبار جميع البشر إخوةً لا عبيداً بعد الآن".

 

8. الميلاد يبعث الرجاء بين الناس

ميلاد الرب يسوع نشر الرجاء بين الناس، فالمسيح هو رجاؤنا كما يقول القديس بولس: "أذكروا أنّكم كنتم من دون المسيح... ليس لكم رجاء" (أف 2: 12). لقد كان البشر مكبَّلين بالخطايا قبل مجيء المسيح الذي منحهم الخلاص بحلوله بينهم، وفتح أمامهم مستقبلاً زاهراً. ولا يمكننا نحن البشر أن نرجو هذا الخلاص من أيّ شخصٍ آخر، "فالمسيح يسوع هو رجاؤنا" (1 تيم 1: 1).

إنّ الرجاء المسيحي مرتبطٌ بشوق الإنسان الفطري إلى السعادة، لأنّ المرء يحمل في أعماق ذاته توقاً نحو سعادةٍ لا حدّ لها، لا يمكن إشباعه بواسطة خيرات هذه الدنيا التي تمنح سعادةً آنيّةً وقتيّة. المسيح وحده بإمكانه أن يقدّم الأمل والرجاء لإرواء هذا العطش إلى ملء السعادة.

ونظراً لأهمّية هذا الموضوع، فقد كرّس المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني دستوراً رعوياً سمّاه "فرح الرجاء أو الكنيسة في عالم اليوم"، وهو الوثيقة المجمعية التي نقيم ذكراها الخمسينية. إنّ الرجاء فضيلةٌ إلهيةٌ تحيي إيماننا المسيحي، إذ إنه ميزة شعب الله السائر نحو سعادة السماء. كما أصدر قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالتين حبريتين: الرسالة الأولى في شهر كانون الثاني عام 2006، بعنوان "الله محبّة". وكرّس قداسته رسالته الحبرية الثانية لموضوع الرجاء، التي أصدرها بتاريخ 1/12/2007، تحت عنوان "مخلََّصون بالرجاء"، وفيها قدّم تأمّلاً رائعاً عن الرجاء المسيحي إزاء أوهام زماننا الحاضر، الذي يعتمد على التقدّم المادّي وحده، وإزاء الإحباط الذي يشعر به البشر من جرّاء إخفاق التقدُّم العلمي في توفير السعادة للإنسان.

 

9.في الميلاد يتلازم الرجاء والإيمان

عيد ميلاد الرب يسوع عطيّة رجاءٍ لبشريةٍ ادلهمّت في سمائها الغيوم وتكاد تطغى عليها الظلمة، مع أنّ المؤمنين يدركون أنّه لا يحدث أمرٌ في الدنيا بدون إذن الله. والقدّيس بولس يقول: "أمينٌ هو الله، فلن يسمح أن تُجرَّبوا بما يفوق طاقتكم، بل يجعل مع التجربة مخرجاً، لتستطيعوا أن تحتملوا" (1 كور 10: 13) . والرسول متّى في إنجيله يقول مستشهداً بأشعيا النبي: "الشعب الجالس في الظلمة أبصر نوراً عظيماً، والجالسون في بقعة الموت وظلاله، أشرق عليهم نور" (مت 4: 16). إنّ الله أقرب ما يكون من المؤمنين، عندما يشعرون بأنّه قد ابتعد عنهم واختفى. هذا ما كان يردّده الكثيرون من القدّيسين الذين اختبروا الحياة الروحية.

لا رجاء دون إيمانٍ، ولا إيمان دون رجاءٍ، فهما فضيلتان متلازمتان. الإيمان هو هبةٌ من الله للإنسان، ومن الممكن أن نفقد هذه الهبة التي تفوق كلّ قيمةٍ إذا حصرنا مداركنا وقناعاتنا بالأرضيات. هذا ما حذّر القدّيس بولس تلميذه تيموتاوس منه بقوله له: "جاهد الجهاد الحسن، متمسّكاً بالإيمان والضمير الصالح، وقد رفضهما أناسٌ فتحطّمت سفينة إيمانهم" (1 تيم 1: 18ـ19).

بالرغم من كلّ النكبات التي حلّت بمجتمعاتنا اليوم، فالرجاء بالمسيح يشعّ في الوسط، ليؤكّد أنّه بإمكان الإنسان أن يرجو، حتّى في خضمّ كلّ الصعوبات والضيقات، كما يقول رسول الأمم: "نفتخر بالرجاء لمجد الله، لا بل نفتخر بشدائدنا نفسها، لعلْمنا أنّ الشدّة تلد الثبات، والثبات يلد فضيلة الإختبار، وفضيلة الإختبار تلد الرجاء، والرجاء لا يخيّب صاحبه، لأنّ محبّة الله أُفيضت في قلوبنا بالروح القدس الذي وُهِبَ لنا" (رو 5: 2ـ5). فالرجاء المسيحي مؤسَّسٌ على محبّة الله غير المحدودة لنا: "إن كان الله معنا، فمن علينا؟ الله الذي لم يبخل بابنه نفسه، بل أسلمه إلى الموت من أجلنا جميعاً، كيف لا يهبنا معه كلّ شيء" (رو 8: 31ـ32). يستند الرجاء المسيحي على حقيقة أنّ الله قادرٌ على كلّ شيء، ولكونه ينبوع الرحمة والحنان يحبّنا محبّةً والديةً جمّة. لقد وعدَنا الله أن يمنحنا نِعَمَه التي نحتاجها، وهو أمينٌ في تنفيذ وعوده.

 

10. الميلاد يبشّر بالرجاء في خضمّ المحن والإخفاقات

إنّ روح الميلاد لا تدعنا أبداً نفقد الرجاء والأمل كي لا نستسلم لليأس، فاليأس طريقٌ إلى الموت والفناء. ومع قطع الرجاء، لا يعود الإنسان يرجو من الله خلاصه، والمعونة التي تمكّنه من بلوغ هذا الخلاص، أو مغفرة خطاياه، بل يقاوم جود الله وعدالته. وهذا هو خطأ التلميذ الذي خان معلّمه الإلهي وأسلمه بثلاثين من الفضّة لأعدائه كي يصلبوه. قد يكون المرض أو الحرب أو التهجير مدعاة يأسٍ، وسبباً للإنطواء على الذات، وقد يشعر الأبرياء بثقل الظلم وعبثية الشرّ فتساورهم الثورة على الله الخالق والمدبّر... ولكنّالحقيقة الراهنة التي لا تقبل الجدل، هي أنّ الإنسان المؤمن يعرف كيف يستمدّ من الضعف قوّةً، وكيف يحوّل اليأس إلى رجاءٍ خلاصي، بنعمة  الروح القدّوس ومواهبه التي تنالها الصلاة الشخصية التي لا تملّ، وبالإبتهال الحارّ الذي لا يعرف الكلل.  كما أنّ المشاركة العميقة في صلوات أمّنا الكنيسة ورُتَبِها في زمن الميلاد، لا بدّ وأن تغذّي رجاءنا نحن الذين اقتبلْنا البشرى ووضعْنا ثقتنا كاملةً في مولود بيت لحم الإلهي، مردّدين مع منشد المزامير: "رجوتُ الرب رجاءً، فحنا عليّ وسمع صراخي" (مز 40: 2).

لذا ندعو الله على الدوام أن يقوّي إيماننا ورجاءنا به، مدركين أنّه مهما تأزّمت الأمور، وتعقّدت الأحداث، فهو ينتظرنا ليمدّ يده إلينا، كما فعل مع التلاميذ الذين كانوا في السفينة، وأوشكوا على الغرق، وصرخوا جميعاً، فيما كان يسوع نائماً في مؤخّرة السفينة، قائلين: "يا ربّ نجّنا! فنحن نهلك!"، فقال لهم: "ما بالكم خائفين، يا قليلي الإيمان؟". حينئذٍ قام يسوع وزجر الرياح والبحر، فحدث هدوءٌ عظيم. فتعجّب الناس وقالوا: "من هو هذا حتى يطيعه البحر نفسه والرياح؟" (مت 8: 23ـ27). إنّ ما فعله يسوع مع التلاميذ، بمقدوره أن يفاجئنا به في كلّ حين، فهو هو دائماً "أمس واليوم وإلى الأبد" (عب 13: 8)، شرط ألا يتزعزع إيماننا ورجاؤنا به وبقدرته على إسكات كلّ العواصف التي تهبّ علينا من أنّى أتت.

وها هو قداسة البابا فرنسيس يختم رسالته بمناسبة اليوم العالمي للسلام في 1/1/2015، بالتشديد على أهمّية بثّ الرجاء من خلال التضامن وعيش الأخوّة، بغية العبور والغلبة على معوقات هذا الدهر ومجابهة تحدّياته:

"إنّ اللامبالاة التي تُرخي بثقلها اليوم على حياة العديد من الإخوة والأخوات، تتطلّب منّا جميعاً أن نكون صانعي التضامن والأخوّة القادرين على إعطائهم الرجاء مجدّداً، وتمكينهم من استعادة السير بشجاعةٍ عبر مشاكل زمننا وأزماته والرؤى الجديدة التي يحملها معه والتي يضعها الله بين أيدينا".

 

11.إطلالة العيد هذا العام

".. وعلى الأرض السلام..!" ومَن منّا لا يتساءل أين ذاك السلام الذي حمله المسيح الرب، كلمة الله المتأنّس وبشّر به الملائكة رعاة بيت لحم؟  كم يحتاج عالمنا اليوم إلى روح السلام لتحلّ على أوطاننا، وقادتنا وحكّامنا، فيفيض السلام في بلادنا، ويؤمن الصالحون بملك السلام!.فأين هو السلام العادل والشامل الذي أراده الله لكلّ الناس؟ عندما نرى الصراعات الأهلية تتكرّر وتزداد همجيةً في بلدانٍ عديدةٍ من منطقتنا، وعندما تطالعنا الأخبار عن قمع الحرّيات واضطهاد الضعفاء وتهجير الأبرياء، وعن مسلسلات العنف والقتل ودوس الكرامات..! ألا يحقّ لنا التساؤل أين بقيت كرامة الإنسان في عددٍ كبيرٍ من بلدان شرقنا المتوسّط؟ وإلى متى يبقى العالم صامتاً إزاء الجرائم التي تُرتكَب باسم الدين، إذ يقع الملايين من المواطنين المسالمين ضحايا التكفير والتعصّب والجهل والكراهية! 

فمن لبنان إلى العراق، مروراً بسوريا وفلسطين، شعوبنا تعاني من الحروب والإضطهاد والقتل والتشريد. تدمع عيوننا وتتفطّر قلوبنا عندما نعاين، رغم أنّنا في الألفية الثالثة، تلك المجموعات الإرهابية التكفيرية تعيث الفساد من حولها وتفتك بالبشر والحجر، وتعود بنا إلى عصر الظلمات، وتحكم بقتل الناس وذبحهم لمجرّد أنّهم لا يقرّون بما تؤمن به. هذه الجماعات غريبةٌ عن تاريخ منطقتنا حيث عاش المسيحيون والمسلمون منذ مئات السنين جنباً إلى جنبٍ في القرى والمدن والبلدان، رغم تخلّف الأنظمة في غالبيتها القصوى عن اللحاق بركب التمدُّن ونشر مساواة المواطنة الكاملة بين الجميع على اختلاف إنتماءاتهم الدينية والعرقية والمذهبية.

إنّنا ننظر إلى مكوّنات الشعب العراقي الممزّق، ونبكي مع الباكين من أعضاء كنيستنا المتألّمة في أرض الرافدين. عشرات الآلاف من المشرَّدين والمهجَّرين داخل وطنهم، وأمثالهم من النازحين طلباً للجوء في البلدان المجاورة، أو الهائمين على وجوههم تحت كلّ سماء. كيف لا تدمى قلوبنا وأجراس كنائسنا في الموصل وقرى وبلدات سهل نينوى، وللمرّة الأولى منذ فجر المسيحية، لا تقرع فرحاً بولادة المخلّص..! وكيف نسكتُ فلا نثور للنكبة التي حلّت بكامل أبرشيتنا هناك، إذ أُرغم المطران والعشرات من الإكليروس والراهبات والرهبان مع الآلاف المؤلّفة من المؤمنين على النزوح إلى العراء بسبب ظلم الإرهابيين التكفيريين من غريبٍ وقريب!  

إنّنا ندعو المسؤولين من ذوي الإرادات الصالحة محلّياً وإقليمياً وعالمياً، للعمل الجادّ والدؤوب بغية تحرير هذه المناطق المغتصَبة، ليعود المسيحيون الذين لا ذنبَ لهم، إلى قراهم وبلداتهم وكنائسهم، فتُقرَع الأجراس مرنِّمةً أنشودة الميلاد، داعيةً الضمائر إلى إحقاق العدل وتفعيل المصالحة والسلام. ومع أنّنا ندرك أوضاع أهلنا المأساوية، نقول لهم: "لا تخافوا، فإنّ الفجر قريبٌ، والخلاص آتٍ، ولا بدّ لإله الخير أن يقهر إبليس وجنوده، فتعودوا إلى أرض الآباء والأجداد. إنّها أرضكم، أرضٌ مقدَّسةٌ تستأهل أن تعودوا إليها، رغم هول الخيانات التي حلّت بكم وفداحة الآلام والمآسي التي ألمّت بكم ظلماً، لتعيشوا فيها الشهادة لإنجيل المحبّة والسلام".

إنّنا نتوجّه بشكلٍ خاص إلىأبنائنا وبناتنا في بغداد والبصرة وإقليم كردستان، وإلى المقتلَعين من ديارهم قسراً في مدينة الموصل وقرى وبلدات سهل نينوى، إكليروساً ومؤمنين، معربين لهم عن عمق محبّتنا وصدق تضامننا. لقد زرناهم مراراً، ولم نألُ جهداً في إعلاء الصوت أمام المسؤولين المحلّيين وفي المحافل الدولية، لنصرة قضيتهم الحقّة التي نحملها ونطالب بها مع جميع إخوتنا البطاركة رؤساء الكنائس الشرقية الشقيقة. ونؤكّد لهم أنّ فجر القيامة لا بدّ وأن يبزغ، فيضيء درب بلادهم الحبيبة بضياء الحقّ المكلَّل بالعدالة.

ونتوجّه بفكرنا إلى شعب سوريا المتألّمة، نشاركُه من أعماق القلب لما أصابه ويصيبه من نزاعاتٍ وخضّات عنفٍ وحربٍ مدمّرةٍ منذ أربع سنوات. صراعاتٌ بين الأشقّاء غذّاها الحاقدون، فلم تُبقِ ولم تذر، دماراً للحجر وتنكيلاً بالبشر. والعالم بعضه محرِّضٌ متآمرٌ، وبعضه متفرِّجٌ جبان، حتّى لم تعد سوريا ذاك الوطن الذي عهدناه، وهل من يحاسب المسؤولين عن هذا الدمار والقتل والإجرام!!! ألم يحن الوقت كي يتحرّك المجتمع الدولي ويقوم بمبادراتٍ إيجابيةٍ تنهي مأساة هذا الشعب؟!

ولأنّنا في زمن الميلاد، زمن المغفرة والرحمة والتسامح، نصلّي مع الشعب السوري ونتضرّع إلى طفل بيتَ لحمَ الإلهي، أن يشفق على الملايين من الأبرياء، من مقيمين ونازحين، كي يعودوا إلى ضمائرهم ويتواكبوا مع ذوي النيات الحسنة والإرادات الصالحة في مسيرة المصالحة والحوار والتآخي رحمةً ببلدهم وبحضارته الإنسانية العريقة. كما أنّنا نناشد الضمير العالمي، ببذل الجهود الحثيثة لإطلاق سراح جميع المخطوفين، وبخاصّةٍ أخوينا المطرانَين يوحنّا ابراهيم بولس اليازجي، والكهنة، وكلّ المخطوفين بسبب هذه الحرب العبثية التي هدّمت سوريا وبنيتها التحتية وتاريخها وحضارتها.

إنّنا نؤكّد بشكلٍ خاص محبّتنا الأبوية وتضامننا الكامل وصلاتنا الحارّة من أجل أبنائنا وبناتنا في أبرشياتنا السريانية الأربع في سوريا، في دمشق وحمص وحلب والجزيرة، إكليروساً ومؤمنين،كي تزول المحنة عن بلدهم، فيشرق فيه نور القيامة الذي طال انتظاره، لينعموا مع إخوتهم في الوطن بالطمأنينة والإستقرار.

أمّا وطننا الحبيب لبنان، فإنّ الأزمات السياسية والأمنية والإجتماعية والإقتصادية التي تعصف به من كلّ حدبٍ وصوبٍ كادت تنسي الشعب أنّنا في زمن العيد. فلا رئيس للجمهورية قد انتُخِب، ولا جنودنا الأبطال قد حُرِّروا، والخاطفون يهدّدون أهلهم يومياً بذبحهم. كما أنّ فضيحة الفساد الغذائي، إن لم يتداركها المسؤولون قد تنذر بالوبال على صحّة المواطن وسمعة لبنان السياحية. وكأنّ لبنان، هذا الوطن الكبير في صغر مساحته والمميَّز بين بلدان المنطقة بالإنفتاح والتعدُّدية والمساواة والحرّية، لم تكفِهِ الأزمات الإقتصادية المتتابعة التي ورثها في العقود الأخيرة، والتي زادها تعقيداً وجود ملايين النازحين بسبب الصراعات في سوريا والعراق، فجاء مَن يهزّ كيانه وميثاقه بالتهديدات المذهبية المكفّرة، وبالإعتداءات الإجرامية من قتلٍ وخطفٍ لقواه الأمنية وتفجيراتٍ في ساحاته وشوارعه.

حقّاً نحن بحاجةٍ ماسّةٍ للصلاة والرجاء كي يحمل ميلاد الرب يسوع أملاً وانفراجاً في الأزمات اللبنانية المتعدّدة.ونصلّي بشكلٍ خاص كي تجلب السنة الجديدة تجديداً للسلطة الدستورية، فيُصار إلى انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، ويُقَرُّ قانونٌ جديدٌ للإنتخابات النيابية لا يهمّش أيّ مكوّنٍ من مكوّنات الوطن، وتحصل الإنتخابات وهي من التجلّيات الأساسية للديمقراطية، بحيث تساهم في الحفاظ على المصلحة الوطنية العليا، وعلى الإستقرار الإجتماعي والتآخي الوطني.

ويسرّنا أن نتقدّم بالتهنئة الأبوية من أبنائنا وبناتنا في أبرشية لبنان البطريركية، إكليروساً ومؤمنين، ومعهم جميع اللبنانيين واللبنانيات،بعيد الميلاد المجيد، وبحلول العام الجديد، سائلين الطفل الإلهي، مولود المغارة، أن يعيد عليهم هذا الزمن المبارك بالخير والصحّة وفيض النِّعَم والبركات.

نهنّئ أبناءنا وبناتنا في الأراضي المقدّسة، مردّدين عبارة القدّيس البابا يوحنّا بولس الثاني"وكيف لا أنظر بقلقٍ أيضاً لكن بثقةٍ لا تتزعزع إلى الأرض التي وُلد فيها يسوع المسيح"،ونحثّهم على الثبات في تلك الأرض حيث وُلِدَ الرب يسوع وأتمّ سرّ تدبيره الإلهي من أجل خلاصنا.

كما نهنّئ أبناءنا وبناتنا في الأردن، سائلين الله أن يوفّقهم في أعمالهم، لما فيه خيرهم وسعادتهم.

ونعايد أعزّاءنا في النيابة البطريركية في تركيا، داعين لهم بالنجاح وفيض النِّعَم وأسعد الأيّام.

ونهنّئ أبناء كنيستنا في مصر، سائلين الرب يسوع أن ينشر أمنه وسلامه في ربوعها، وأن يحيا مواطنوها بالمحبّة والوئام، ويتعاضدوا من أجل ازدهار وطنهم، مهما اختلفت انتماءاتهم وتوجّهاتهم. ونثني على ما جاء في بيان مؤتمر الأزهر من تأكيدٍ لعمق العلاقات المشتركة بين المسيحيين والمسلمين في العالم العربي.

ولا يغيب عن بالنا أن نهنّئ أبناءنا وبناتنا في كنائسنا وأبرشياتنا وإرسالياتنا السريانية في بلاد الإنتشار، في أوروبا وأميركا وأستراليا،أمل مستقبل كنيستنا، وها هو عددهم يزداد باطّرادٍ نتيجة الهجرة من بلاد المنشأ في العراق وسوريا إثر الحروب والمحن التي تعصف بها، متوجّهين إليهم بالمحبّة الأبوية والتمنّيات القلبية. وفيما نثني على تعلّقهم بإيمانهم وتراثهم الكنسي الأصيل ولغتهم السريانية المقدّسة، نحثّهم على تنشئة أجيالهم الصاعدة وفق مبادئ الإيمان والعادات والتقاليد الشرقية السريانية العريقة، التي تربّوا عليها في أوطانهم الأمّ، كي يحافظوا على أصالة هويّتهم وحضارتهم، مولين الإهتمام لزرع روح المحبّة والإخلاص للبلاد التي فتحت لهم ذراعيها واستقبلَتْهم بعد أن قست عليهم ظروف الحياة. ويهمّنا أن نؤكّد لهم أنّنا نعمل جاهدين كي نؤمّن لهم الخدمة الكنسية والرعاية الروحية الضرورية اللائقة والواجبة لهم، ليبقوا مرتبطين بكنيستهم السريانية. ويشاركنا في سعينا الدائم لتحقيق هذه الغاية، إخوتنا المطارنة وأبناؤنا الكهنة الذين يسهرون على خدمتهم.

كما نتوجّه بمحبّة أبوية إلى أبنائنا وبناتنا الذين أجبرَتْهم الأوضاع المؤلمة والإضطرابات والحروب في العراق وسوريا على النزوح والهجرة،ونؤكّد لهم تضامننا الأبوي الدائم، وسعينا الحثيث لبذل كلّ جهدٍ ممكنٍ في سبيل مساعدتهم ومؤازرتهم روحياً ومعنوياً ومادّياً، داعين جميع ذوي الأريحية والحميّة أن يهبّوا إلى معاونتنا لتأمين حياةٍ كريمةٍ لهم، ريثما تستقرّ أوضاعهم، شاكرين جميع الذين ساهموا ويساهمون في مدّ يد العون لإخوة المسيح الصغار هؤلاء. ونحثّهم هم أيضاً على ضرورة التمسّك بإيمانهم وانتمائهم الكنسي، مهما اشتدّت المعاناة، طالبين لهم وفور النِّعَم وراحة البال.

وفي هذا الزمن الميلادي، لا ننسى أن نذكر جميعالمعوَزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ عائلةٍ غابت عن أعضائها فرحة العيد لفقدانها أحد أفرادها أو أحبّائها،فلا تجده في حلقة العائلة أثناء الإحتفال ببهجة هذه الأيّام المباركة، سائلين لهم فيض البركات والتعزيات السماوية.

 

12. أفراحٌ وبركاتٌ تستعدّ كنيستنا السريانية لنيلها

بفرحٍ واعتزازٍ عظيمين، قمنا بزيارة الأعتاب المقدّسة في الفاتيكان، حيث توّجناها بلقاء قداسة البابا فرنسيس يوم الجمعة 12 كانون الأوّل الحالي، بمشاركة آباء سينودس كنيستنا السريانية، ووفودٍ من أبناء كنيستنا في مختلف بلدان العالم، إكليروساً وعلمانيين، بلغ عددهم 400 شخصاً. وبعد أن ألقينا كلمتنا مذكّرين قداسة الحبر الأعظم بعراقة كنيستنا السريانية الأنطاكية وجذورها الرسولية الأولى، وبرسالتها قديماً وحديثاً أن تكون الكنيسة الشاهدة لإنجيل الخلاص والشهيدة حبّاً بالمخلّص الإلهي، أجابنا قداسته بكلمةٍ مفعمةٍ حبّاً بنفحاتٍ من الإيمان الراسخ  والرجاء الذي لا يخيب. أقرّ قداسته بحنوٍّ أبوي بعظم النكبة التي حلّت بكنيستنا حديثاً في العراق وسوريا. وأكّد تضامنه الكلّي وصلاته الأبوية من أجل انتهاء المحن والآلام في الشرق، مذكّراً إيّانا بما أعلنه للعالم أجمع خلال زيارته إلى تركيا، بأنّ وجود المسيحيين في الشرق هو ضرورةٌ واجبةٌ وليس صدفةً عابرة.

وكنّا قد زرنا، ومعنا آباء السينودس، عدداً من المجالس الحبرية في الفاتيكان: مجمع الكنائس الشرقية، ومجمع دعاوى القدّيسين، والمجالس الحبرية لاتحاد المسيحيين، وحوار الأديان، والمحبّة "Cor Unum"، ومحكمة الروتا.

وبمناسبة السنة اليوبيلية والذكرى المئوية الأولى للشهداء السريان في جنوب تركيا، والمجازر التي ارتُكِبت بحق شعبنا السرياني في القرن الماضي، قرّر سينودس كنيستنا تخصيص سنة 2015 للإحتفال بهذه الذكرى، للصلاة والإستذكار وتدعيم الوحدة الكنسية، إكراماً لهؤلاء الشهداء الذين قدّموا ذواتهم ذبائح محرقة للدفاع عن إيمانهم المسيحي القويم. فشكّلنا لجنةً سينودسيةً من مختلف بلداننا للإشراف على الإحتفالات التي ستشمل فعالياتٍ روحيةً وثقافيةً وفنّيةً في الرقعة البطريركية، وفي أوروبا وأميركا حيث يتواجد قسمٌ كبيرٌ من أبناء الشهداء والجاليات السريانية والشرقية. لذا فإنّنا ندعوكم للمشاركة فيها بحسب البرامج التي سنعلن عنها مع مطلع العام الجديد بإذنه تعالى.

وإذ نتابع سير الدعوى المخصَّصة لتطويب المطران الشهيد مار فلابيانوس ميخائيل ملكي، مطران جزيرة إبن عمر في تركيا، الذي قدّم حياته على مذبح الشهادة دفاعاً عن الإيمان، نأمل أن نحتفل بإعلان تطويبه يوم الأحد الواقع في 23 آب 2015، في دير سيّدة النجاة ـ الشرفة ـ لبنان.وإنّنا منذ الآن نشجّع أبناء كنيستنا وبناتها في جميع كنائسنا وأبرشياتنا وإرسالياتنا في بلاد الشرق وعالم الإنتشار، إكليروساً وعلمانيين، ونوجّههم كي يصلّوا إلى الله أن يؤهّلنا لنصل إلى ذلك اليوم المبارك، وأن يمنّ علينا وعلى بلادنا بالسلام والأمان بشفاعة هذا المطران الشهيد.

كما يطيب لنا أن نعلمكم بقرار آباء سينودس كنيستنا إنشاء لجنة خاصة لمتابعة خطى التقارب والتعاون بين الكنيستين السريانيتين الشقيقتين الأنطاكيتين الكاثوليكية والأرثوذكسية، بالتنسيق مع قداسة أخينا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني. وفي سياق الوحدة الكنسية، ترحّب كنيستنا بمقترح قداسة البابا تاوضروس الثاني بالإتّفاق على الأحد الثالث من نيسان للإحتفال سويّةً بعيد القيامة المجيد. ويأتي هذا المقترَح داعماً لما كان قد اقترحه الطوباوي البابا بولس السادس قبل خمسين عاماً.

 

13. خاتمة: الميلاد بشرى السلام  

في ميلاد الرب يسوع بالجسد، حلّ السلام على الأرض وبشّرت ملائكة بيت لحم بالفرح والرجاء لبني البشر الذين كانوا قديماً غرباء متباعدين، فأضحوا اليوم قريبين، أي أبناءً وبناتٍ لله وورثةً لملكوته السماوي. في ذلك اليوم، كانت الأرض تستعدّ. واليوم، نستعدّ لنحتفل بعيد الميلاد مقدّمين قلوبنا وحياتنا هدية حبٍّ للطفل الإلهي.

أيّها الربّ يسوع مخلّصنا، يا أمير السلام، إمنحنا الإيمان بأنّ السلام الحقيقي ممكنٌ، لأنّ البشر الذين خلَقْتَهم على صورتك ومثالك هم في أعماقهم صالحون. أعطنا يا ربّ أن نكون فاعلي سلامٍ، نبنيه على الحقيقة والعدالة والحرّية والمحبّة.

 

وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.

كلّ عام وأنتم بألف خير.

 

ܡܫܺܝܚܳܐ ܐܶܬܺܝܠܶܕ... ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ

وُلد المسيح... هلّلويا

 

صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت ـ لبنان

في اليوم الثاني والعشرين من شهر كانون الأوّل سنة 2014

وهي السنة السادسة لبطريركيتنا

 

 

 

إضغط للطباعة