يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل لرسالة عيد القيامة لهذا العام 2015 التي وجّهها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي الكلي الطوبى، بعنوان: "المسيح قام... وأقامنا معه"، وقد أصدرتها البطريركية في كرّاس خاص لتوزيعه على الكنائس والرعايا والأبرشيات والإرساليات:
ܐܓܪܬܐ ܕܥܐܕܐ ܕܩܝܡܬܐ ܦܪܘܩܝܬܐܫܢܬ ܒ̱ܝ
رسالة عيد القيامة عام 2015
ܒܫܡ ܐܝܬܝܐ ܡܬܘܡܝܐ ܐܠܨܝ ܐܝܬܘܬܐ ܐܚܝܕ ܟܠ
ܐܝܓܢܛܝܘܣ ܝܘܣܦ ܬܠܝܬܝܐ ܕܒܝܬ ܝܘܢܐܢ
ܕܒܪ̈ܚܡܘܗܝ ܕܐܠܗܐ
ܦܛܪܝܪܟܐ ܕܟܘܪܣܝܐ ܫܠܝܚܝܐ ܕܐܢܛܝܘܟܝܐ ܕܣܘܪ̈ܝܝܐ ܩܬܘܠܝܩܝ̈ܐ
باسم الأزلي السرمدي الواجب الوجود الضابط الكل
اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بنعمة الله
بطريرك الكرسي الرسولي الأنطاكي للسريان الكاثوليك
إلى إخوتنا الأجلاء رؤساء الأساقفة والأساقفة الجزيلي الإحترام
وأولادنا الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل
وجميع أبنائنا وبناتنا المؤمنين المبارَكين بالرب
اللائذين بالكرسي البطريركي الأنطاكي في لبنان وبلاد الشرق وعالم الإنتشار
نهديكم البركة الرسولية والمحبّة والدعاء والسلام بالرب يسوع القائم من بين الأموات، ملتمسين لكم فيض النِّعَم والبركات والخيرات:
ܡܫܺܝܚܳܐ ܩܳܡ... ܘܰܐܩܺܝܡܰܢ ܥܰܡܶܗ
المسيح قام... وأقامنا معه
1ـ مقدّمة: وعد القيامة: السلام الحقيقي
يطيب لنا في مستهلّ رسالتنا لمناسبة عيد القيامة المجيدة، أن نتوجّه بالتهاني والتمنّيات إلى أساقفة كنيستنا السريانية وكهنتها وشمامستها ورهبانها وراهباتها وأبنائها وبناتها، وإلى إخوتنا من الكنائس الشقيقة، وجميع المواطنين ذوي الإرادة الصالحة، حيثما وُجدوا، في لبنان وبلدان الشرق وعالم الإنتشار. نحيّيهم بالمحبة، ونرجو للجميع أن يهنأوا بالسلام الحقيقي الآتي من عند الله، والذي حمله الرب يسوع المنبعث ظافراً من القبر لتلاميذه الخائفين في العلية، فأفاض في نفوسهم صفاء السلام.
قيامة المسيح من الموت تشكّل أساس الإيمان والرجاء به ربّاً ومخلّصاً، كما أعلنته الجماعة المسيحية الأولى وعاشته كحقيقة أساسية ومحورية أثبتتها كتب العهد الجديد، وتناقلها التقليد الرسولي، وكرزها الرسل وخلفاؤهم من بعدهم كجزء جوهري من السرّ الفصحي مع الصليب. سرّ قيامة يسوع حدث واقعي تاريخي شهد له العهد الجديد، فقد كتب بولس لمؤمني كورنثوس: "سلّمتُ إليكم قبل كلّ شيءٍ ما تسلّمتُه أنا أيضاً، وهو أنّ المسيح مات من أجل خطايانا كما ورد في الكتب، وأنه قُبِر وقام في اليوم الثالث كما ورد في الكتب، وأنه تراءى لصخر (أي بطرس)، فالإثني عشر" (1كور 15:3ـ5).
2ـ لا إيمان دون القيامة
عيد قيامة السيّد المسيح من الموت، هو عيد المسيحية الكبير كما ندعوه. وما سبق لأحدٍ أن مات وقام ولم يعد ليموت ثانيةً، على مثال من أقامهم الرب يسوع من الموت، كالفتى ابن أرملة نائين ولعازر. لأنّ الموت هذا هو مصير كلّ حيّ، على ما يقول صاحب المزامير: "أيّ إنسانٍ يحيا ولا يرى الموت، ومن ينجّي نفسه من يد مثوى الأموات؟" (مز 89: 49). يسوع المسيح وحده عرف الموت، لكنّه قام ممجّداً متغلّباً عليه. ولولا القيامة لكان إيماننا باطلاً، على ما يؤكّد بولس الرسول: "إن كان المسيح لم يقم، فتبشيرنا باطلٌ، وإيمانكم أيضاً باطل. بل نكون عندئذٍ شهود زورٍ على الله، لأنّنا شهدنا على الله أنّه قد أقام المسيح وهو لم يُقمه" (1كور 15: 14ـ15).
في عيد القيامة نؤمن بأننا قادرون على التحرّر من الخطيئة لنغلب الموت، وذلك بنعمة الأسرار المقدسة. إذ نموت بها عن الخطيئة لنقوم مع الرب لحياةٍ جديدةٍ، ساعين إلى مشاركته مجد الحياة الإلهية في السماء، ونحن منتظرون مجيئه الثاني بالمجد برجاءٍ وطيدٍ لا يخيّب صاحبه.
3ـ القيامة مبعث الرجاء
القيامة واقعٌ راهنٌ، لكنّ ظروفها لا تستند إلى ما يقع تحت الحواس وحسب، بل إلى الإيمان بصورةٍ خاصة. ما من إنجيلٍ من الأناجيل الأربعة يتحدّث عن كيفية قيامة المسيح التي ستبقى سرّاً مخفياً على معرفتنا البشرية. فالأناجيل تأتي على ذكر القبر الفارغ والملاك أو الملائكة، وظهور المسيح للنسوة القديسات، وبخاصة لمريم المجدلية، وظهوره لتلميذَي عمّاوس، وللرسل، وتوما. ويسوع القائم من الموت عرّف عن نفسه من خلال ندائه: مريم، ومن خلال كسره الخبز، ودخوله وسط الرسل والأبواب موصدة، ودعوته توما المشكّك ليضع يديه في الجراح بحسب رغبته. هذه الظهورات تنتقل بالنظر من مسيحٍ كان مألوفاً بإنسانيته إلى مسيحٍ متجلٍّ ومتسامٍ، ما طاله لمسٌ، لكنّه عُرف تمام المعرفة من خلال جراحه.
قيامة المسيح بحدّ ذاتها تفوق كلّ تصوُّرٍ بشري، وما من شاهدٍ عليها. إنّنا نعرف فقط أنّها تمّت في جنح الليل، ولكنّ المسيح القائم من الموت، تجلّى في وضح النهار، المسيح المنتصر، مسيح المجد. نتأمّل به اليوم مسيحاً مشرقَ الوجه، متّشحاً برداءٍ وردي يضمّخه الفجر أكثر من الدماء التي نزفت من جراح يديه وقدميه المثقوبة ومن قلبه المطعون بالحربة. ولأنّنا آمنّا بوعد القيامة التي حقّقها فادينا المصلوب بسبب خطايانا والمنبعث ممجَّداً لتبريرنا، فإنّنا مدعوون اليوم، على مثال التلاميذ والجماعة المسيحية الأولى، كي نجدّد فعل رجائنا الراسخ بيسوع المخلّص الذي منحنا بقيامته الظفر وعربونَ الحياة الأبدية. حسبُنا أن نؤمن أنّ المسيح يواكبنا، حسب وعده، في مسيرتنا المثقلة على الأرض حتى المنتهى كي نبلغ إليه. وهذا ما يولّد فينا الرجاء الذي كدنا نفقده، والأمل الذي نخشى أن يضيع.
4ـ قيامة المسيح هي قيامتنا
قيامة المسيح ليست قيامته وحسب، إنّها قيامتنا وجميع الذين يؤمنون بالمسيح، الملتزمين بالسير على خطى الفادي الذي يؤهّلهم لهذه القيامة المرجوّة بعد مرافقته على درب آلامه، والمرور بمحنة الموت التي لا بدّ منها. وهذا ما عناه بولس الرسول بقوله: "ولكنّ الله الغني بمراحمه، لحبّه الشديد الذي أحبّنا به، مع أنّنا كنّا أمواتاً بزلاتنا، أحيانا مع المسيح، وبنعمته خلّصنا، وأقامنا معه، وأجلسنا معه في السموات في المسيح يسوع" (أف 2: 4ـ6).
فليكن هذا العيد المجيد مناسبةً للعودة إلى الله بالتوبة الصادقة والعزم الثابت بالعمل على مرضاته، أيّاً تكن المغريات وأسباب الإبتعاد عنه، وهي كثيرة في أيّامنا. إنه مناسبة للعودة إلى الذات، فنلقي نوراً في أعماق نفوسنا لنرى ما إذا كنّا نسير بصدقٍ وإخلاصٍ مع ذواتنا، ومع إيماننا بالمسيح القائم والذي أقامنا معه، فننزع عنّا إنساننا العتيق ونلبس الإنسان الجديد. وهو مناسبة للعودة إلى بعضنا البعض، فلا نبقى متباعدين، كيلا نقول متنازعين، وقد أرادنا الله أن نعمل متضافرين على نشر بشرى إنجيله السارّة بالقول والعمل وشهادة الحياة، بما حبانا من مواهب وعطايا، وتحت أنوار روحه القدّوس. فنساعد بعضنا بعضاً على اجتياز المحنة، ذاكرين ما يقوله القديس يعقوب: "إن كان فيكم أخٌ عريانٌ أو أختٌ عريانة، ينقصهما قوت يومهما، وقال لهما أحدكم: اذهبا بسلامٍ، فاستدفئا واشبعا، ولم تعطوهما ما يحتاج إليه الجسد، فماذا ينفع قولكم؟" (يع 2: 15ـ16)، ويضيف قائلاً: "كذلك الإيمان، فإن لم يقترن بالأعمال، كان ميتاً في حدّ ذاته" (يع 2: 17).
5ـ عيد القيامة هذا العام
عيد القيامة هو رمز انتصار النور على الظلمة ووعدٌ أكيدٌ بغلبة الخير على الشر. والكلّ يعلم كم أنّ عالمنا اليوم وشرقنا الأوسط بنوعٍ خاص بحاجةٍ إلى النعم الإلهية كي يدحر الشرّ المتربّص بأوطاننا وشعوبنا وحضاراتنا.
إننا، من موقعنا كرعاةٍ روحيين، نكثّف الصلوات والأدعية مع جميع أبناء شعبنا من إكليروس ومؤمنين، ومع الكنائس والجمعيات والأفراد الذين يشعرون ويتألّمون للمآسي المخيفة التي حلّت بنا في العراق وسوريا، وهم لا يزالون يتخوّفون وإيّانا بسبب الأخطار التي تحدق بنا. نصلّي إلى الرب المنبعث من الموت، كي يبعث قوّة رجائه في نفوس أبنائنا وبناتنا المتألّمين والمهدَّدين بوجودهم في الشرق، فلا تثبط عزائمهم، بل يرفعون رؤوسهم ثابتين في وطنهم، أرض الآباء والأجداد. ونضرع إلى المخلّص الذي حمل صليبه من أجلنا وغلب الموت بقيامته، كي يشدّد بنعمة قيامته قلوبهم وعزائمهم للتغلّب على المخاوف والتعالي على جراح الجسد والنفس. كما ندعوه أن يثبّتهم وإيّانا في نعمة الإيمان بقوّة قيامته، فيطمئننا وأجيالنا الصاعدة، كما طمأن رسله الخائفين من عاصفة بحر الجليل، ومدّ يده لينقذ شمعون بطرس من الغرق.
منذ سنوات، يعيش العراق الأزمات والحروب المستمرّة، وتهدّد الإنقسامات وحدته الوطنية وتناغم مكوّناته، في ظلّ نموّ الحركات التكفيرية التي لم ترحم لا بشراً ولا حجراً، وتفشّي الأصوليات التي تلغي الآخر المختلف عنها وتبثّ روح الفرقة والتضليل. وليس خفياً على أحد أنّ جرائم هذه المجموعات الإرهابية قد طالت الأفراد والجماعات ومعالم حضارة بلاد الرافدين وتراثها الإنساني الذي لا يقدَّر بثمن. هدموا الكنائس والأديرة والمراقد والمتاحف، واعتدوا على الآثار العريقة، وكلّ هذا تحت أنظار المجتمع الدولي الذي لم يحرّك ساكناً، بل اكتفى بالبيانات والإدانات اللفظية التي لم تحمِ الإنسان من الإقتلاع من أرضه وبيته وتاريخه في الموصل وقرى وبلدات سهل نينوى، فيما استمرّ التكفيريون يعيثون الفساد والدمار.
وفي ظلّ هذا المشهد الضبابي السوداوي، نتوجّه بشكلٍ خاص بمحبّةٍ أبويةٍ وتضامُنٍ كلّي إلى أبنائنا وبناتنا في بغداد والبصرة وإقليم كردستان وكركوك، وإلى المقتلَعين من ديارهم قسراً في مدينة الموصل وقرى وبلدات سهل نينوى، إكليروساً ومؤمنين، ضارعين إلى الرب المنتصر على الموت، أن يعينهم على حمل صليب آلام النزوح والتهجير، واثقين بأنّ درب الآلام لا بدّ وأن تنتهي بالقيامة، التي تعدهم بالغلبة على الظلمة والإستبداد، مع أملنا الوطيد بأن يسرع المعنيون بتحرير الموصل وسهل نينوى من الجماعات الإرهابية المفسدة، ليعود أهلنا إلى قراهم ومدنهم ومنازلهم آمنين سالمين، وتعود أجراس الكنائس لتقرع متهلّلةً وشاهدةً على التجذّر المسيحي في بلاد الرافدين، إيماناً بإله المحبّة والسلام.
ولأنّ إيماننا بقوّة القيامة لا ينال منه شكٌّ ولا ريبة، ولأنّ رجاءنا بمواعيد القيامة ثابتٌ، وثقتنا بالله لا تتزعزع، إذ هو ينبوع المراحم وملجأ الخطأة، نصلّي ونضرع إليه تعالى لينتشل سوريا من الصراعات الداخلية المتفاقمة ومن التدخّلات الإقليمية والدولية، بحجّةٍ لم تعد تنطوي على أصحاب الضمائر الحيّة، بأنّ هناك شعباً يبغي الحرية والديمقراطية! أربع سنواتٍ من التقاتل والدمار لم تخل ولم تذر، قتلاً، خطفاً وتهجيراً. ونذكر هنا خاصةً أخوينا مطرانَي حلب المخطوفَين بولس اليازجي ويوحنّا ابراهيم، والكهنة. فأين المسؤولون وأين أصحاب الضمائر، وهم يتنادون لجمع المساعدات الإنسانية، بينما واجب الأسرة الدولية، سيّما تلك الدول من أصحاب القرار، أن تبذل كلّ جهدها لإيقاف الصراع والتقاتل، بالكفّ عن شحن النفوس وضخّ الأسلحة. يا ليتها تستجيب إلى الملايين من أبناء الشعب السوري، كي توجّه الدعوة الحازمة لجمع الأطراف المتنازعة إلى الحوار والمصالحة، سعياً لحلولٍ سياسيةٍ تحترم حقوق جميع مكوّنات الوطن، لأيّ دينٍ أو مذهبٍ أو قوميةٍ انتموا، حيث لا ذهنية لأكثرية دينية أو مذهبية سوى تلك المصمّمة على قبول المكوّنات الصغرى والإنفتاح عليها لتطمينها، وحيث لا خوف وارتياب لدى أقلّية من أنّها ستنال حقوقها الوطنية وحرّياتها الدينية التي تفرضها شرعة حقوق الإنسان الدولية.
فهل من المقبول في القرن الحادي والعشرين، أن تستمرّ بلداننا الشرق أوسطية في فرض دينٍ أو مذهبٍ ينتقص من حقوق فئةٍ من المواطنين كون هؤلاء يختلفون ديناً أو مذهباً عن الأكثرية الحاكمة أو الساعية إلى الحكم؟ وهل يحقّ للداعين إلى احترام حقوق المواطنة، أن يستمرّوا في القتل والتخريب طيلة سنواتٍ، بحجّة فرض تنوُّع الفكر السياسي، متناسين أنّ الإختلاف الفكري بالمفهوم الحضاري هو غنى، بعكس الخلاف السياسي الذي يدعو إلى التقاتل وإلغاء الآخر.
أربع سنواتٍ عادت بها سوريا أجيالاً إلى الوراء، وسمحت للمجموعات التكفيرية بسطَ جهلها وإجرامها ولا إنسانيتها على مساحاتٍ شاسعةٍ من سوريا، وآخرها كان تهجير المسيحيين من قراهم في ريف الحسكة في الخابور، حيث أُحرِقت الكنائس، وخُطف وقُتل عشرات الأطفال والنساء والشيوخ، وحيث الآلاف اقتُلعوا غدراً من بيوتهم وقراهم.
وإنّنا نتوجّه بمحبّةٍ وتضامنٍ كاملٍ مع أبنائنا وبناتنا في أبرشياتنا السريانية الأربع في سوريا، في دمشق، وحمص وحماة والنبك، وحلب، والجزيرة، سائلين ربّ القيامة والحياة أن ينهي محنتهم ويبسط أمنه وسلامه في ربوعهم، ليعودوا إلى حياتهم الطبيعية متعايشين مع إخوتهم المواطنين من كلّ دينٍ وقومية.
أمّا لبنان، وطننا الحبيب، حيث الشعب بطوائفه المتنوّعة يعيش حالة طوارئ وطنية تعصف به من كلّ الجهات، الإجتماعية والصحّية والإقتصادية والسياسية والأمنية. فالحدود باتت خطوط تماسٍ مفتوحة، إذ يسطّر الجيش اللبناني والقوى الأمنية البطولات ويقدّم التضحيات حتى الشهادة بغية الحفاظ على الإستقرار ومنع انزلاق الوطن إلى الفتن والبؤر الأمنية والطائفية التي غرقت في أوحالها الدول المجاورة. والمشاكل الإقتصادية تلمّ بمختلف شرائح المواطنين، فالأعمال والمؤسّسات تعاني الركود ومضاربة اليد العاملة الأجنبية التي تنافس العامل اللبناني، وغلاء المعيشة المستشري، ممّا جعل حالة الفقر والبطالة تتفاقم بصورةٍ اضطراديةٍ لم يُعرَف لها مثيلٌ في السابق. وها إنّ الساحة اللبنانية مليئةٌ بمظاهر انعدام الثقة التي قد تؤدّي بالبلاد إلى الضياع والهلاك الذاتي. هذا فضلاً عن وجود ملايين النازحين قدموا إلى لبنان إثر الحروب الدائرة رحاها في سوريا والعراق، وما يترتّب على وجودهم من مضاعفاتٍ تصيب المجتمع اللبناني وميثاقه واقتصاده.
يبقى أنّ المناوشات السياسية بين مختلف الأفرقاء، وما أدّت إليه من عدم انتخاب رئيسٍ للجمهورية، وها نحن على مشارف مرور عامٍ كاملٍ على حالة الفراغ الرئاسية وما أوجدته من فراغٍ في المؤسّسات كافةً، إلى حدٍّ أصبح شبح الفراغ والتعطيل يلفّ الدولة اللبنانية بأكملها. فيما معظم السياسيين منصرفون إلى تحقيق مصالحهم الخاصة ولاهثون نحو تقاسُم الحصص على حساب الوطن والمواطن، متجاهلين واجبهم في دعوة النواب إلى الإلتزام بمسؤولياتهم الدستورية في عقد جلسات انتخاب رئيسٍ للبلاد.
إنّنا نصلّي إلى الرب المنتصر على الموت كي تكون قيامته قيامةً للبنان ومناسبةً لاجتماع مختلف اللبنانيين وتفاهُمهم اليوم قبل الغد على انتخاب رئيسٍ جديدٍ للجمهورية، فيقوم بتشكيل حكومةٍ جديدةٍ تكون حكومة وحدةٍ وطنيةٍ ترعى شؤون البلاد، وتجعل في مقدّمة أولوياتها إقرار قانونٍ عصري للإنتخابات النيابية لا يغيّب أحداً، فنُمثَّل فيه نحن السريان ومختلف مكوّنات الوطن تمثيلاً صحيحاً حقيقياً يتناسب ومقدار التضحيات الجسام التي قدّمناها للبنان.
وبهذه المناسبة، يطيب لنا أن نتوجّه بالتهنئة بالعيد من أبنائنا وبناتنا في أبرشية لبنان البطريركية، إكليروساً ومؤمنين، ومعهم جميع اللبنانيين واللبنانيات، ضارعين إلى الرب يسوع القائم من بين الأموات أن يقيم هذا البلد ويعيده إلى سابق عزّه وازدهاره.
كما نهنّئ أبناءنا وبناتنا في الأردن، طالبين لهم النجاح والتوفيق الدائمين.
ونهنّئ أبناءنا وبناتنا في النيابة البطريركية في تركيا، سائلين لهم كلّ خيرٍ وبركةٍ ونعمة.
ونهنّئ أبناءنا وبناتنا في الأراضي المقدسة، مثنين على ثباتهم في أرضهم حيث تجسّد الرب يسوع وأتمّ سرّ الفداء.
ونهنّئ أبناءنا وبناتنا في مصر، راجين لهم ولوطنهم فيض البركات والخيرات.
كما نتوجّه بالتهنئة بالعيد من أبنائنا وبناتنا في كنائسنا وأبرشياتنا وإرسالياتنا السريانية في بلاد الإنتشار، في أوروبا وأميركا وأستراليا، وعليهم تقع مسؤولية النهوض بكنيستنا في هذه الأزمنة الصعبة، إذ أنّ عددهم آخذٌ بالإزدياد بسبب الهجرة من بلاد المنشأ في العراق وسوريا جراء المحن والحروب والنزاعات. إنّنا نحثّهم على الثبات بالإيمان بالرب يسوع والتعلّق بالتراث الكنسي السرياني الأصيل واللغة السريانية المقدسة، موصينهم أن يربّوا أولادهم زارعين فيهم روح المسيح، ومحافظين على عادات الآباء والأجداد والتقاليد السريانية العريقة التي نشأوا عليها في بلادهم الأمّ، مع المحبّة والإخلاص للبلاد التي احتضنتهم. ونحن نؤكّد دعمنا ومؤازرتنا لإخوتنا المطارنة وأبنائنا الكهنة الذين يؤدّون لهم الخدمات الروحية.
ولا ننسى أن نتوجّه إلى أبنائنا وبناتنا الذين أجبرتهم الأوضاع المؤلمة في العراق وسوريا على النزوح والهجرة، مؤكّدين تضامننا معهم وسعينا لبذل الجهود في سبيل تخفيف معاناتهم وتأمين حياةٍ كريمةٍ لهم، متمنّين لهم الطمأنينة والإستقرار.
ونذكر بمحبّةٍ أبويةٍ جميع المعوَزين والمهمَّشين والمستضعَفين، وكلّ عائلةٍ غابت عن أعضائها فرحة العيد لفقدان أحد أفرادها أو أحبّائها، فلا تجده في حلقة العائلة أثناء الإحتفال بالعيد، سائلين لهم التعزية السماوية وأزمنة خيرٍ وبركة.
6ـ الذكرى المئوية لمذابح الإبادة بحق شعبنا السرياني
تحيي كنيستنا السريانية هذا العام السنة اليوبيلية بمناسبة الذكرى المئوية الأولى لمذابح الإبادة الجماعية التي تعرّض لها السريان كما إخوتهم الأرمن والآشوريون والكلدان والروم. لذا هيّأت بطريركيتنا سلسلة نشاطاتٍ ستقام في لبنان، بدأناها بقدّاسٍ افتتاحي، وسنتابعها بمؤتمرٍ مشتركٍ مع بطريركية الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الشقيقة في 2 و3 و4 تمّوز المقبل، وقدّاسٍ في ذكرى الشهداء في 29 آب القادم، وأمسيةٍ مرتّلةٍ مع إزاحة الستار عن نصبٍ تذكاري تخليداً لشهدائنا الأبرار خلال فترة انعقاد مجمع كنيستنا الأسقفي أواخر تشرين الأول القادم. وسنوافيكم بتفاصيل كلّ مناسبةٍ على حدى في حينه، حاثّينكم على المشاركة فيها، هذا فضلاً عن إحياء الذكرى في سوريا والعراق، وفي أوروبا وأميركا.
وإنّنا ننتظر بشوقٍ مصلّين إلى الرب من أجل إعلان تطويب المطران الشهيد مار فلابيانوس ميخائيل ملكي مطران جزيرة ابن عمر في تركيا، وقد وصل ملف دعوى تطويبه إلى مراحله الأخيرة، هذا الحبر الجليل الذي بذل حياته دفاعاً عن الإيمان بالرب يسوع. ومعه نذكر باعتزازٍ جميع الشهداء الذين سفكوا دماءهم ذبائح محرقة على مذبح الشهادة، ففاح أريج عطرهم وأضحت دماؤهم بذاراً للإيمان.
7ـ خاتمة: القيامة: مسيرتنا المتجدّدة نحو الحياة
في رتبة السلام التي يمتاز بها طقسنا السرياني الأنطاكي في عيد القيامة، تأمّلٌ آبائي رائع يُظهر القيامة مسيرةً متجدّدةً نحو ولادة حياةٍ جديدةٍ مفرحة: "ܒܗܳܢܳܐ ܥܺܐܕܳܐ ܚܳܕܶܝܢ ܒܶܗ ܫܡܰܝܳܐ ܘܰܐܪܥܳܐ ܘܟܽܠ ܕܰܒܗܽܘܢ܆ ܕܒܶܗ ܩܳܡ ܡܳܪܰܢ ܡܶܢ ܩܰܒܪܳܐ ܘܰܐܒܗܶܬ ܐܶܢܽܘܢ ܠܨܳܠܽܘ̈ܒܶܐ. ܒܗܳܢܳܐ ܝܰܘܡܳܐ ܚܰܘܺܝ ܠܰܢ ܕܶܐܬܪܰܥܺܝ ܐܰܒܳܐ ܠܥܳܠܡܳܐ܆ ܘܝܰܗ̱ܒ ܗ̱ܘܳܐ ܠܳܗ̇ ܠܥܺܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ ܫܠܳܡܳܐ ܘܫܰܝܢܳܐ ܐܰܡܺܝܢܳܐ".وترجمته: "في هذا اليوم تفرح السماء والأرض، إذ فيه قام ربّنا من القبر وأخزى الصالبين. لقد بيَّن لنا هذا اليوم أنّ الآب صالحَ العالم، مانحاً الكنيسة المقدّسة السلام والأمان الدائم".
أيّها الربّ يسوع، بموتكَ وقيامتكَ منحتَ الحياة الجديدة للإنسان والعالم، وولدتَ البشرية الجديدة المتمثّلة بالكنيسة. في هذا العيد المجيد، عيد قيامتكَ من بين الأموات، نبدأ معكَ، وبنعمتكَ وبنور إنجيلكَ وإلهامات الروح القدس، حياةً جديدةً في نمطها وأعمالها، في مسلكها ورؤيتها. أعطنا أن نستنير دائماً بكلام إنجيلكَ وتعليم الكنيسة، فنصبح شهوداً لكَ في عائلاتنا ومجتمعاتنا ومؤسّساتنا وأوطاننا.
أنتَ أيّها المسيح الفادي طبعتَ آثار صلبكَ، جراح يديكَ وجنبكَ ورجليكَ، في كلّ متألّمٍ ومريضٍ ومعوَّقٍ ومعذَّب. نسألكَ أن تعزّي هؤلاء وتقدّسهم، وتخفّف من آلامهم، وتشفيهم بنعمة حضورك. أضرم في القلوب المحبّة الملتزمة تجاههم، وليدرك كلّ من يعتني بهم أنّه يخدمكَ أنتَ ويضمّد جراحك.
وفي الختام، نمنحكم أيّها الإخوة والأبناء والبنات الروحيون الأعزّاء، بركتنا الرسولية عربون محبّتنا الأبوية. ولتشملكم جميعاً نعمة الثالوث الأقدس وبركته: الآب والإبن والروح القدس، الإله الواحد، آمين.
كلّ عام وأنتم بألف خير.
ܩܳܡ ܡܳܪܰܢ ܡܶܢ ܩܰܒܪܳܐ... ܫܰܪܺܝܪܳܐܺܝܬ ܩܳܡ المسيح قام... حقّاً قام
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت ـ لبنان
في اليوم الأوّل من شهر نيسان سنة 2015، وهي السنة السابعة لبطريركيتنا
|