الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
نص موعظة غبطة أبينا البطريرك في القداس الحبري الرسمي بمناسبة عيد مار أفرام السرياني

 
 

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال القداس الحبري الرسمي الذي احتفل به غبطته بمناسبة عيد مار أفرام السرياني شفيع كنيستنا السريانية وملفان الكنيسة الجامعة، وذلك مساء يوم السبت 13 شباط 2016، في كاتدرائية سيّدة البشارة ـ المتحف ـ بيروت:

 

ـ كلمات شكر لمعالي الوزير ميشال فرعون ممثّلاً دولة رئيس مجلس الوزراء تمّام سلام، ودولة رئيس مجلس النواب نبيه برّي.

ـ تحيّة وشكر لجميع المراجع الدينية والمدنية الحاضرين...

ـ في هذا الإحتفال بعيد مار أفرام شفيع كنيستنا السريانية، علينا أن نشكر الرب الإله على النعمة التي أنعم علينا بها، باللقاء التاريخي الذي تمّ البارحة في كوبا، بين البابا فرنسيس والبطريرك كيريل، بطريرك الكنيسة الروسية الأرثوذكسية... لقاء أخوي تحلّى بالروح المسكونية المتواضعة، ليملأ قلوبنا وقلوب المسيحيين أجمع فرحاً ورجاءً...

من هو مار أفرام؟

ـ ابن نصيبين، شمال بين النهرين، وُلد عام 306، تتلمذ على مار يعقوب النصيبيني، أسقف تلك المدينة القديس، وتهجّر مع سكّان نصيبين إلى الرها هرباً من الأعداء الذين احتلّوا مدينتهم. وفي الرها، تلك المدينة التي عرفت أولى المدارس، ساهم مار أفرام في التبحّر ونشر علوم ذلك الزمن بالرغم من معاناة التهجير والنفي القسري. نصيبين والرها (أورفا) الكائنتان على الحدود السورية والتركية، تشهدان اليوم نزاعاتٍ عنيفةً وأعمالاً إرهابيةً كما في العديد من المناطق السورية، تنشرُ القتل والدمار، ممّا جعل المواطنين يتقاذفهم الخوف ويعيشون شديدَ القلق إزاء المستقبل...

ـ بقي أفرامُ شمّاساً، أي خادماً، خادم البيعة وجماعة المؤمنين. كرّس نفسه للرب وأعمال الرحمة في البيعة والمجتمع، متجاوباً مع المواهب التي أنعم بها عليه الرب. شارك في الصلوات الجماعية والرتب الطقسية، وقمّتها ذبيحة القداس الإفخارستية. واختار حياة الزهد المكرَّسة بروحانية المشورات الإنجيلية، ورسالة الشهادة لأولوية الروح في مجتمعه المضطرب. فسار على خطى المعلّم الإلهي، رجل صلاةٍ وتأمُّلٍ وعملٍ، وطبع عصره ببصمات حياته ونسكه ومواهبه الفريدة.

ـ الملفان أي المعلّم، "كنّارة الروح القدس"، خلّد لنا تراثاً شعرياً، لاهوتياً وكتابياً، يُعتبَر مفخرةً لكنائسنا السريانية ولمشرقنا السرياني الآرامي. فكان مبدعاً في الطقسيات ومرتقياً على درجات الكمال بتأمّلاته الروحية العميقة، وشروحاته الكتابية الغنية معنىً ولغةً، سيّما في "الميامر والمداريش" التي أضحت إرثاً حضارياً بين العديد من كتابات الشعوب المتحضّرة حتّى عصرنا هذا.

لذلك سمّي ملفاناً أي معلّماً للكنيسة الجامعة، عندما رفعه البابا بنديكتوس الخامس عشر عام 1920، إلى رتبة ملافنة الكنيسة الجامعة. وتفخر كنيستنا السريانية بجناحيها الكاثوليكي والأرثوذكسي أن تتّخذ مار أفرام السرياني شفيعاً لها. كما أنّ جميع الكنائس الشرقية الشقيقة، تغرف الصلوات والأناشيد من الإرث الروحي والطقسي الذي خلّفه هذا القديس المتميّز...

ـ الشاعر الشادي المريمي، المولَّه بدور والدة الله في التدبير الخلاصي. "ܒܬܽܘܠܬܳܐ ܝܶܠܕܰܬ ܕܽܘܡܳܪܳܐ بثولتُو يِلدَت دومُورُو البتول التي ولدت عجباً"، كما ألهمَتْه قريحته الشعرية ليصف والدة الإله. إنّ انجذابه إلى التبحّر في سرّ مريم، حوّاء الثانية، شجّعه كي يُطلق فرقَ الأناشيد تمجيداً لله، وتكريماً لمريمَ التي حملت في أحشائها كلمة الله المتأنّس. ويحق لنا القول إنّ مار أفرام قد دخل التاريخ في بُعديه الروحي والمدني، لإعطائه المرأة كرامتها الإنسانية في الكنيسة والمجتمع.  فهو أوّل من أنشأ الجوقة الكنسية من بين العذارى، اللواتي رحنَ ينشدنَ الصلوات بألحانٍ شعبيةٍ تتميّز بالسهولة والعذوبة. وهي تلك الأناشيد التي لا نزال نردّدها بإعجابٍ إلى يومنا هذا. وقد اشتهر بأشعاره وترانيمه التي هدفت إلى شرح السرّ الخفي منذ الدهور، سرّ كلمة الله المتأنّس من مريمَ العذراء بقوّة الروح القدس، الذي بعظمة محبّته أضحى فادياً لجميع البشر، ومصالحاً البشرية مع خالقها.

ـ مِن أفرام نستطيع أن نتعلّم معنى الإيمان الملتزم. فهو لم يكتفِ بعيش التكرّس للملكوت، مختلياً إلى الصلاة والصوم وممارسات التقشّف فحسب، ولم يرضَ أن يؤلّف الأشعار ويتعمّق في شروحات الكتاب المقدّس ويشرح الأسرار الخلاصية، ليتباهى بغزارة علمه وتفوّقه، بل قرنَ القول بالفعل وجمعَ بين التقوى والتسامي بالفضيلة وبين العمل الرسولي والإنفتاح على قضايا شعبه والمشاركة في معاناة أهل مدينته. فكان "الشمّاس" أي الخادم للبيعة وللمجتمع. لقد تبع معلّمه الإلهي وفاديه يسوعَ الذي دعاه ليشاركه في سرّ خلاص الإنسان، كلّ الإنسان، نفساً وروحاً وجسداً. 

ـ من سيرة حياة هذا القدّيس الذي التزم بقضايا مدينته الأولى نصيبين والثانية الرها، نتعلّم الكثير. فهو يعطينا المثل في اختباره آلام الحروب والتهجير والآفات المَرَضية، فتكرّس للعناية بالمهجَّرين والغرباء والمهمَّشين، مجسّداً المحبّة الحقيقية التي لا تميّز، وباذلاً بسخاءٍ كلّ ما استطاع، ليخفّف من المعاناة التي تحمّلها الأبرياء، جرّاء شرور الظالمين...

ـ وما أشبه اليومَ بالأمس!، نقولها والغصّة تعصر قلوبنا، عندما نجد أهلنا وأحبّاءنا في سوريا والعراق يُقتلَعون من أرض آبائهم وأجدادهم، ويهجَّرون قسراً في وطنهم وإلى بلاد الغربة القريبة منها والبعيدة. والجميع يعرفون أنّ لا ذنب لهم، ولأنّهم تميّزوا بالنزاهة في خدمة بلدهم، وبالمحبّة والإلفة تجاه جميع المواطنين، قريبين كانوا أم بعيدين، ومتجاوزين عقدة الإختلاف في الدين أو المذهب أو العصبيات المتناحرة... لقد اضطُهِدوا وأُهينوا وطُردوا لإيمانهم وتعلُّقهم بيسوع المعلّم والفادي.

ـ ولكي نتلمّس وعشرات الآلاف من النازحين قسراً من مناطق عديدة في سوريا والعراق بصيصاً من الأمل في مستقبلٍ لهم، سعينا ولا نزال نسعى مع قداسة أخينا مار اغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية للسريان الأرثوذكس في العالم، كي نلقى إنصافاً في حضورنا وعيشنا كمواطنين كاملي الحقوق هنا في لبناننا العزيز. لذا، وبالمشاركة مع قداسته، حظينا بزيارة مراجع كريمة من القيّمين على شؤون لبنان، وتداولنا معهم في السعي لتمثيلنا في المجلس النيابي بنائبين سريانيين، أحدهما أرثوذكسي والثاني كاثوليكي. إنّ مسعانا هذا لا يتوخّى طلباً لامتيازاتٍ ولا مسّاً بحقوق غيرنا من الطوائف. نطالب بالحضور الفاعل والمنصف لنا في هذا الوطن، فنشجّع على بقاء المواطنين فيه يخدمونه بنزاهةٍ، وعلى فسحة أملٍ لأهلنا النازحين من البلاد المجاورة، كي يجدوا في لبناننا الحبيب ذاك الوجه الحضاري، وذاك الملجأ الأمين للمشرَّدين.

ـ وقد تبدو مطالبتنا هذه قليلة الأهمية نظراً لأجواء التوتّر بل العواصف التي يعرفها لبنان بسبب تغييب مؤسّساته، سيّما الفراغ في الكرسي الرئاسي. وهنا نتساءل: هل تكفي الأقوال المندِّدة والتصاريح والتمنّيات..! ألا يحقّ للمواطنين في لبنان أن يتساءلوا عن كيفية معالجة هذا الوضع الشاذّ المتمثّل في شغور الرئاسة الأولى، خلافاً للمواثيق وامتهاناً لجميع الشرفاء المخلصين؟ لقد سعى ولا يزال صاحب الغبطة والنيافة أخونا البطريرك الكردينال مار بشاره بطرس الراعي مستصرخاً ضمائر ممثّلي الشعب في المجلس النيابي، ولكن دون جدوى!

    ونقولها بجرأة: لمَ لا نجتمع معاً، رعاةً كنسيين ونواباً مسيحيين، فنخرج بموقفٍ تاريخي موحَّد يثبّت الحضور المسيحي في هذا الشرق انطلاقاً من الرئاسة الأولى في لبنان، ما دام العالم بأسره عارفاً أنّ هذه الرئاسة هي استحقاقٌ مسيحي، وأنّ عيون مسيحيي شرقنا المعذَّب شاخصةٌ إلينا!

ـ ختاماً، فَلْنتمثَّلْ بقدّيسنا مار أفرام، الذي عاش بكلّيّته للرب بفرحٍ دائمٍ، إذ يقول: "ܡܶܢ ܛܰܠܝܽܘܬܝ ܠܣܰܝܒܽܘܬܝ ܢܺܝܪܳܟ ܫܶܩܠܶܬ ܡܳܪܝ. ܘܦܶܠܚܶܬ ܕܠܳܐ ܩܽܘܛܳܥ ܟܽܠܝܽܘܡ ܚܳܕܝܳܐܺܝܬ ܥܕܰܡܳܐ ܠܫܽܘܠܳܡܳܐ، وترجمته: منذ صباي حتّى شيخوختي حملتُ نيرك يا رب. وعملتُ دون هوادةٍ، كلّ يومٍ بفرحٍ، حتّى النهاية".

    عيد مبارك على الجميع، مع الشكر للجنة المنظِّمة والجوق البطريركي والحركات الرسولية والأخويات، وتلفزيون تيلي لوميار ـ نورسات، والمؤسّسة اللبنانية للإرسال "أل بي سي"، ووسائل الإعلام.

 

 

إضغط للطباعة