يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال القداس الإلهي الحبري الرسمي بمناسبة عيد القديس مار أفرام السرياني، كنّارة الروح القدس وملفان الكنيسة الجامعة، وذلك في كاتدرائية سيّدة البشارة، المتحف – بيروت، مساء يوم السبت 17 شباط 2018:
موعظة عيد مار أفرام السرياني
لصاحب الغبطة مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي
كاتدرائية سيدة البشارة – بيروت
السبت 17 شباط 2018
-------
"... مَن أراد أن يكون فيكم كبيراً فليكن لكم خادماً.. كما أنّ ابن الإنسان لم يأتِ ليُخدَم بل ليَخدُم ويبذل نفسه فداءً عن كثيرين" (متى 20: 26-28)
- كلمات ترحيب وشكر للحضور.. بالعربية والفرنسية..
- عبرَ مسافات شاسعة من الزمن، جئنا اليوم إلى هذه الكنيسة، يدفعنا الشوق لملاقاة الرب وتكريم أبراره. نعود إلى القرن الرابع الميلادي، لنكتشف وجهاً مشرقاً في تاريخ كنيستنا المشرقية وفي مسيرة البشرية الروحية. إنه مار أفرام السرياني، الذي تعيّد له كنيستنا السريانية في السبت الأول من الصوم الكبير، مذكّرةً إيانا بحياة الزهد والتقشّف التي انتهجها هذا القديس، مع أنه كان معلّماً حلّق في سماء العلم الإلهي، وتبحّر في أسفار الوحي المقدسة. وهو أحد الآباء المشرقيين العظام، وُلد وعاش في شمال بين النهرين، غيرَ بعيد في الزمن والمكان، عن أفواج عديدة من المتعبّدين الزاهدين في حطام هذه الفانية، أمثال مار مارون ومار سمعان العامودي، اللذين فاح عطر قداستهما في ربوع أنطاكيا سوريا، والآباء الشهيرين بعظاتهم ومؤلّفاتهم ورعويتهم الكنسية، أمثال يوحّنا الذهبي الفم وباسيليوس وغريغوريوس... هؤلاء الأبرار حلّقوا في سماء الروح، وأضحوا مشاعل تضيء إلى اليوم ظلمة حياتنا، وتحثّنا على البحث عن الكنز الحقيقي الذي يسدّ جوعنا الروحي ويسعد قلوبنا، ألا وهو الحنين الخفيّ والمستمرّ إلى الخير والحق والمحبّة.
- ويحق لكنيستنا السريانية، بجناحيها الكاثوليكي والأرثوذكسي، أن تفاخر بمار أفرام السرياني بحق، وقد اتخذتْه شفيعاً لها. كما أنّجميع الكنائس الشرقية لا تزال تغرف من معينه، الصلوات والأناشيد من الأرث الروحي والطقسي الذي خلّفه هذا القديس المتميّز، وفي مقدمة هذه الكنائس: السريانية المارونية، والكلدانية والسريانية الملنكارية والملبارية (في الهند)، والكنائسالبيزنطية والأرمنية والقبطية واللاتينية وكنائس إنجيلية عديدة.
- هذا القديس من شرقنا، رفعه البابا بنديكتوس الخامس عشر في عام 1920 إلى رتبة ملفان الكنيسة الجامعة،ܡܰܠܦܳܢܳܐ"مَلفونو" كلمة سريانية تعني معلّماً ممَيّزاً للإيمان. والكنيسة الجامعة تشمل جميع الكنائس قاطبةً، شرقاً وغرباً. وبعونه تعالى سنحتفل بعد عامين بالذكرى المئوية لإعلان "ملفنة" مار أفرام، المنهل العذب لعلم اللاهوت والكتاب المقدس.
- أفرام الشاعر، لقد طبع أفرام عصره ببصمات مواهبه الرائعة التي برعت بها شاعريته المميّزة بالبساطة والعفوية والخيال. لقد خلّد لنا تراثاً شعرياً ولاهوتياً وكتابياً غزيراً ومميّزاً ببساطته ورمزيته، فنال بحق لقّب "قيثارة الروح القدس". و "شمس السريان"، إذ أنه أضحى مفخرةً لكنائسنا السريانية ولمشرقنا الآرامي إلى يومنا هذا. عُرف أفرام بإنتاجه الشعري الغزير من "المداريش" أي الترانيم الموزونة و"الميامر" أي القصائد التعليمية. كذلك أبدع بالشروحات الكتابية والطقسية، التي أضحت إرثاً حضارياً للعديد من الشعوب ذات الجذور الساميّة. لنصغِ إليه ينشد هذه الأبيات الرائعة في الصوم:
ܟܶܦܢܶܬ ܟܡܳܐ ܙܰܒܢܺܝ̈ܢ ܕܰܟܝܳܢܝ̱ ܬܳܒܰܥ ܗ̱ܘܳܐ ܘܶܐܬܟܠܺܝܬ ܘܠܳܐ ܐܶܟ̣ܠܶܬ ܕܶܐܫܬܘܶܐ ܠܗܰܘ ܛܽܘܒܳܐ ܕܰܢܛܺܝܪ ܠܨܰܝ̈ܳܡܶܐ "صمتُ مراراً لأنّ كياني طالبني، فامتنعتُ عن الطعام، كي استحقّ تلك الطوبى التي حُفظت للصائمين".
- أفرام، الشادي المريمي، المولّه بدور والدة الله في التدبير الخلاصي. إنّ انجذابه إلى التبحّر في سرّ مريم، حواء الثانية، التي قبلت في أحشائها الطاهرة كلمة الله الأزلي، أطلق فيه مواهب إنشادية لا تزال كنائسنا ترنّمها بإعجاب واعتزاز. فهو مَن أنشد: ܒܬܽܘܠܬܳܐ ܝܶܠܕܰܬ ܕܽܘܡܳܪܳܐ ܬܰܘ ܢܺܐܙܰܠ ܢܶܬܒܰܩܶܐ ܒܶܗ "البتول ولدت عجباً، تعالوا لنذهب ونتأمّل به...."، وهو مَن ترنم: ܢܶܩܥܽܘܢ ܓܰܪ̈ܡܰܝ ܡܶܢ ܩܰܒܪܳܐ ܕܰܐܠܳܗܳܐ ܝܶܠܕܰܬ ܡܰܪܝܰܡ "فلتصرخ عظامي من القبر: إنّ مريم ولدت الله.!..". ويزداد افتخارنا بشادي القرن الرابع، عندما نراه يخرق الأعراف فيُؤلّف جوقة للصبايا في مدينة الرها المشهورة آنذاك بمدرستها وثقافتها، لينشدنَ الترانيم الشعبية العذبة، تسبيحاً لله وتكريماً لوالدته الطوباوية. لذا يحقّ لنا القول إنّ مار أفرام قد دخل التاريخ، لإعطائه المرأة دوراً مهمّاً، ستُحرَم منه الكنيسة كما المجتمع فيما بعد وللأسف لفترة طويلة.
- أفرام الشمّاس، أي الخادم بالسريانية، خادم البيعة والمجتمع. لقد كرّس ذاته لخدمة الجماعة الكنسية الناشئة، قارناً بين حياة الزهد المكرَّسة بروحانية المشورات الإنجيلية، ورسالة الخدمة للفقراء والمرضى والمهجَّرين، رجل صلاة وتأمّل وعمل، سائراً على خطى معلّمه الإلهي، "فرحاً مع الفرحين وباكياً مع الباكين". عاش شهادة الإيمان بتبنّي قضايا شعبه، فجمع بين التقوى والتدرّج في سلّم الفضائل وبين العمل الرسولي الملتزم. تحمّل أنواع الإضطهاد، حتى التهجير قسراً من مدينة نصيبين إلى الرها. وبتغرُّبه هذا، يعطينا المثل في التضحية والبذل من أجل القريب، ونعني بالقريب: هذا "الآخر" الذي يقدّمه لنا يسوع الفادي معلّمنا، الذي قد لا تجمعنا وإيّاه صلة قربى أو رابطة طائفة ودين. فالمحبّة الإنجيلية لا تقبل التمييز.
- مار أفرام السرياني عرف التهجير أقّله مرّتين في حياته. سُلخ عن أرض آبائه وتهجّر شمالاً وغرباً إلى مدينة آمد (ديار بكر اليوم) وإلى الرها (أورفا اليوم)، وذلك بسبب الحروب التي أدّت إلى غزو مدينته نصيبين. فما أشبه اليومَ بالأمس! فالنزوح القسري لأفرام القرن الرابع، يذكّرنا اليوم بشعبنا المسيحي وقد ذاق على مرّ العصور مرارة الإضطهاد والتهجير. وأكبر شاهدٍ على ذلك هو حضور أولادنا من النازحين من العراق وسوريا بيننا، دليل واضح للمعاناة التي ألمّت بالملايين من المدنيين الأبرياء. في صيف عام 2014، فرض الإرهابيون التكفيريون على المسيحيين، ومن كنيستنا السريانية بشكل خاص، وبعضٍ من المكوّنات الصغيرة، الإقتلاع من أرض الأجداد في الموصل وسهل نينوى، العراق. ومنذ سبعة أعوام، ومن جرّاء صراعات عبثية في سوريا، لا يزال الملايين يُطردون من بيوتهم وأرض أجدادهم ويعانون الأمرّين من قلق ويأس، وأفق المستقبل أمامهم مظلم ومخيف. هؤلاء الإخوة والأخوات يتيهون سائحين في أراضٍ غريبة، يأملون بوطنٍ يؤمّن لهم ولأولادهم العيش الحرّ والكريم. كلّ ذلك يجري على الملأ، أمام أعين الدول الكبرى التي تدّعي الديمقراطية والدفاع عن حقوق الإنسان، متجاهلةً هذه الفظائع، لأنّ أهدافها في منطقتنا هي التسلّط وليس الخدمة، الإحتكار وليس الإغاثة، فرض الهيمنة وليس نشر التنمية! إنها وصمة عار على جبين المستقويين في عالمنا، إذ يعقدون المؤتمرات التي لا تنتهي ويعدون بأحلام لا تتحقّق!.
- ولكن رغم الآلام التي تحلّ بنا، نحن على ثقةٍ بأنّ الله "يوجِد من المحنة خلاصاً"، فهو الراعي الصالح الذي يسهر على القطيع الأمين له والساعي للحق والعدالة، منطلقاً في جدّة الحياة بإيمانٍ ثابتٍ لا تزعزعه الأنواء ولا تنال منه الشدائد. على مثال شفيعنا مار أفرام، سعتْ كنيستنا السريانية والكنائس الشقيقة أينما وُجدت، شرق دجلة وغرب الفرات، لا سيّما في لبنان وسوريا والعراق والأردن والأراضي المقدسة ومصر وتركيا، كما في أوروبا وأميركا وأستراليا، كي تبقى أمينةً لدعوتها: كنيسةً رسولية دُعيت للخدمة، ناشرةً حضارتها ذات الجذور الآرامية الأصيلة لمشرقنا، شاهدةً للخدمة المتواضعة الحقّة للمهجَّرين ولكلّ من يطرق أبوابها من الضعفاء والمهمَّشين. إنها كنيسة شاهدة وشهيدة، كارزة بإنجيل المحبّة والسلام حتى الإستشهاد حبّاً بمعلّمها الإلهي.
- ونحن في هذا الوطن المحبوب والمميّز لبنان، نعتبر أنه واجبٌ علينا كما على غيرنا من مختلف الطوائف، كبيرة كانت أم صغيرة، أن ندافع عنه، وطناً حرّاً، وطناً للجميع، وطناً لجميع الطوائف وليس حكراً على طائفة أو دين. ولكون السريان قد عانوا الأمرّين في مناطق أخرى من هذا الشرق، من أجل حرّيتهم الدينية وكرامتهم الإنسانية، سنظلّ نثمّن النظام القائم في لبنان، بالرغم من نقائصه ومحدوديته، ونعتبره النظام الأكثر عدلاً وحريةً وديمقراطيةً في هذا الشرق. كما أننا مقتنعون مع جميع الأوفياء، بأنّ السلطة والمناصب جُعلت للخدمة المتجرّدة والأمينة للعهد الذي قطعه المسؤولون أمام الشعب الذي انتخبهم. وإننا نصلّي كي يختار اللبنانيون في السادس من أيّار القادم النواب الذين سيمثّلونهم خير تمثيل في المجلس النيابي، ويكونون مؤتمَنين على خدمتهم. فلبنان أولاً وأخيراً يُبنى بشعبه ويزدهر بأبنائه وبناته المؤمنين به، وطناً نهائياً للحرّية، ونموذجاً للمشاركة التوافقية الحضارية، وهو الوطن الرسالة للعالم أجمع.
- وهنا لا بدّ لنا من أن نجدّد التذكير بالوثيقة التاريخية التي وقّعناها مع قداسة أخينا البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني، وفيها طالبنا باستحداث مقعدَين نيابيين، واحد للسريان الكاثوليك وآخر للسريان الأرثوذكس، مع وجوب تمثيلنا في وظائف الفئة الأولى والأسلاك القضائية والعسكرية والدبلوماسية، سيّما ونحن السريان مكوِّن مؤسِّس في صلب نشأة هذا الوطن الحبيب، وقد قدّم أبناؤنا ولا يزالون يقدّمون التضحيات في سبيل إعلاء شأنه وازدهاره.
- لنضرع إليه تعالى، كي يحمي لبنان من كلّ مكروه ويجمع أبناءه وبناته بروح التوافق الحرّ الخلاق، ويبارك البادرات الوطنية التي يسعى إلى تحقيقها فخامةُ رئيس البلاد العماد ميشال عون، مع رئيسَي المجلس النيابي والحكومة، والمعاونين النزيهين من ممثّلي الشعب والمسؤولين كافةً، بشفاعة الطوباوية مريم العذراء سيدة لبنان وسلطانة السلام، ومار أفرام السرياني الملفان، وجميع شهيداتنا وشهدائنا الأبرار، آمين.
|