غبطة البطريرك يوسف الثالث يونان: "إنّ المسيحيين في الشرق الأوسط، وبخاصة في سوريا والعراق، لا يريدون أن يتحوّلوا إلى متاحف، فَدَعوهم يحيون في أرضهم!"
لبّى غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، دعوةَ الفارس الأعلى كارل أندرسون، رئيس منظّمة "فرسان كولومبوس Knights of Columbus" الكاثوليكية، ليوجّه كلمة إلى الفرسان المجتمعين في مؤتمرهم ال137 المنعقد في الفترة الممتدّة من 5 حتّى 8 آب 2019، في مدينة مينيابوليس Minneapolis– ولاية مينيسوتّا Minnesota، في الولايات المتّحدة الأميركية. وتجدر الإشارة إلى أنّ منظّمة "فرسان كولومبوس" هي المنظّمة الكاثوليكية الأكبر في العالم للمؤمنين العلمانيين، ويبلغ اليوم عدد المنتسبين إليها مليوني شخصاً، وكان قد أسّسها خادم الله الأب مايكل ماكفيني في أواخر القرن التاسع عشر، في نيوهيفن، كناتكت، الولايات المتّحدة، وأعضاؤها يعيشون دعوتهم المسيحية إلى خدمة المحبّة بأخلاقية الإنجيل، بروح الطاعة للكنيسة، وبالتنافس على محبّة الوطن.
حضر هذا المؤتمر ستّة كرادلة و75 أسقفاً جاؤوامن الولايات المتّحدة الأميركية وكندا والمكسيك وأوروبا وكوريا والفيلبين، إضافةً إلى أعداد من الكهنة وجموع غفيرة من المؤمنين من أعضاء هذه المنظّمة. وقدرافق غبطةَ أبينا البطريرك للمشاركة في هذا المؤتمر صاحبُ السيادة مار برنابا يوسف حبش مطران أبرشية سيّدة النجاة في الولايات المتّحدة الأميركية، والأب حبيب مراد القيّم البطريركي العام وأمين سرّ البطريركية.
وفي كلمة غبطة أبينا البطريرك التي أعقبت التقرير العام لرئيس المنظّمة، ذكّر غبطته الحضور الذين تجاوز عددهم ألفي شخصاً، بهوية الكنيسة السريانية التي تعود إلى أنطاكية "مدينة الله العظمى"، التي نقل إليها بشرى الإنجيل الخلاصية زعيما الرسل بطرس وبولس، والتي اعتُبِرت من الكراسي البطريركية الأولى، وسُمِّيَت ب "بطريركية الشرق"، وبلغت بشارتها وسلطتها الكنسية من شرق المتوسّط إلى سواحل الهند شرقاً، وإلى آسيا الصغرى شمالاً، والجزيرة العربية وأثيوبيا جنوباً، مشيراً إلى أنّ أنطاكية هي وريثة اللغة والثقافة الآراميتين، وأنّ أبناء الكنيسة السريانية الأنطاكية يتكلّمون اللغة السريانية الآرامية لغة الرب يسوع ووالدته مريم العذراء ورسله القديسين، وأنّ الكنيسة السريانية بجناحيها الشرقي والغربي عرفت نهضةً عظيمةً في القرون الستّة الأولى للمسيحية، حيث نشأت مئات الأبرشيات والكنائس والأديرة والمدارس والمعاهد اللاهوتية، كمثل مدرسة نصيبين ومدرسة الرها الشهيرتين في القرن الرابع الميلادي، وكذلك آباء الكنيسة كنرساي وأفراهاط ويعقوب النصيبيني وأفرام ويعقوب السروجي وإسحق النينوي وسواهم، والذين أغنوا الكنيسة الجامعة بروحانيتهم ولاهوتهم وأناشيدهم.
وتحدث غبطته عن الصعوبات والتحدّيات والمآسي التي حلّت بالكنيسة السريانية بجناحيها الكاثوليكي والأرثوذكسي على مرّ العصور، مستذكراً الإبادة "سيفو" التي حلّت بالسريان مع الأرمن عام 1915، والاقتلاع المخيف الذي قامت به العصابات التكفيرية لأكثر من مئة ألف مسيحي، أغلبيتهم من السريان الكاثوليك، في مثل هذه الأيّام، في السادس من شهر آب عام 2014، وهو عيد التجلّي الإلهي، من أرضهم في سهل نينوى، ومعهم آخرون من مكوّنات أقلّية أخرى، الذين لم يُترَك لهم خيار سوى المغادرة وترك أرضهم واللجوء إلى أماكن آمنة في كوردستان العراق، شاكراً الله لأنّ كثيرين منهم عادوا بعد ثلاثين شهراً، لكنّهم وجدوا منازلهم وكنائسهم وأرزاقهم مهدَّمة أو محروقة.
وتطرّق غبطته إلى تحدّيات الهجرة والتهجير التي يتعرّض لها المسيحيون مع سائر الأقلّيات في سوريا والعراق، وسببها أعمال العنف والتهديد والخطف والقتل والتدمير والفوضى العارمة التي ساعد في خلقها سياسيون وإعلاميون من الدول الكبرى، ممّا أدّى إلى اقتلاع أعداد كبيرة من المسيحيين الآمنين من سوريا والعراق لأنّه ليس لهم وسائل للدفاع عن أنفسهم.
ونوّه غبطته إلى أنّ المسيحيين وعلى مرّ تاريخهم كانوا أولئك الشهود الحقيقيين والشهداء لإنجيل المحبّة والفرح والسلام، مشيراً إلى أنّ كلمة "سوهدو" بالسريانية، والتي تعني الشاهد وكذلك الشهيد، تعبّر أبلغ تعبير عن التلاحم بين هذين المفهومين لدى أبناء الشعب السرياني.
وشدّد غبطته على ضرورة تطبيق شرعة حقوق الإنسان، كما أعلنتها وثيقة الأمم المتّحدة لعام 1948، في جميع البلاد المنتسبة لمنظّمة الأمم المتّحدة دون استثناء، ودون التعلّل بأيّ سببٍ كان، دينياً أو اجتماعياً أو ثقافياً، مركّزاً بصورة خاصة على أهمّية فصل الدين عن الدولة وتعزيز الحرّية الدينية لتشمل فعلاً حرّية العبادة وحرّية الضمير، وهما الأساس الذي تُبنى عليه الحقوق المدنية لجميع المواطنين، ومن دونهما لا ضمانة لمستقبل بلدان الشرق الأوسط.
وذكّر غبطته المشاركين في المؤتمر بواجبهم كي يدعوا المسؤولين في بلادهم للعمل الجدّي والنزيه من أجل السعي لحلول سياسية تخدم الشعب وتؤمّن الحقوق المدنية لجميع المواطنين في سوريا والعراق وسائر بلدان الشرق الأوسط، حاثّاً على السعي من أجل سلام حقيقي وشامل مبنيٍّ على الحوار والإحترام المتبادَل.
وختم غبطته كلمته شاكراً منظّمة فرسان كولومبوس على دعمها الدائم للحضور المسيحي في الشرق، ومطلقاً هذا النداء: "إنّ المسيحيين في الشرق الأوسط وبخاصة في سوريا والعراق لا يريدون أن يتحوّلوا إلى متاحف، فَدَعوهم يحيون في أرضهم!".
وقد نالت كلمة غبطته رضى المؤتمرين واستحسانهم بالتصفيق الحادّ الذي أعقبها.
هذا وكان الفارس الأعلى كارل أندرسون قد أكّد في كلمة له على ضرورة توحيد الجهود للحفاظ على الوجود المسيحي في الشرق، إذ لا مستقبل للشرق دون المسيحيين، معرباً عن امتنانه واعتزازه بغبطة أبينا البطريرك وتأييده ودعمه مع كلّ أعضاء المنظّمة لما يقوم به غبطته من رعاية وأعمال هادفة إلى دعم الحفاظ على مسيحيي الشرق وإعلاء الصوت أمام المسؤولين في العالم كلّه لنصرة قضاياهم وتعزيز الوجود المسيحي وتثبيته في الشرق.
وأهدى غبطة أبينا البطريرك إلى الفارس الأعلى كارل أندرسون هدية تذكارية هي لوحة دُوِّنت عليها الصلاة الربّانية والسلام الملائكي باللغة السريانية، عربون محبّة وشكر وتقدير.
|