يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في قداس السيامة الأسقفية للمطران مار يعقوب أفرام سمعان النائب البطريركي في القدس والأراضي المقدسة والأردن، مساء يوم السبت ١٥ آب ٢٠٢٠، في كاتدرائية سيّدة البشارة، المتحف – بيروت:
موعظة سيامة المطران مار يعقوب أفرام سمعان
15 آب 2020، كاتدرائية سيدة البشارة، بيروت
ترحيب بالحضور: أساقفة، خوارنة، كهنة، رهبان، راهبات، ذوي الأسقف الجديد، والده وإخوته،المؤمنين من أخوات وإخوة...
في هذا اليوم تحتفل الكنيسة قاطبةً بأهمّ الأعياد لأمّنا العذراء مريم، والدة الله الكلّية القداسة، وهو عيد نياحها، أي انتقالها نفساً وجسداً إلى السماء. ولكن كم يختلف احتفالنا هذا العام عن السنوات الماضية! لبناننا الجميل الصغير بمساحته والكبير بحضارته ورسالته، محطّ أنظار القريب والبعيد، يجتاز هذه الأيّام أخطر مراحل تاريخه الحديث. فمن ضائقة اقتصادية لم تُعرَف منذ عقود، إلى الوباء الكوني المخيف، إلى النكبة الإجرامية المروّعة التي سبّبها انفجار مرفأ بيروت يوم الثلاثاء 4 آب! كم وكم من الآلام والدموع: ضحايا بالمئات، جرحى بالآلاف، عشرات الكنائس المتضرّرة ومنازل لا تُحصى أضحى سكّانها على الطرقات...!
إلى العذراء مريم أمّنا السماوية، ܡܠܝܰܬ ܪܚܡܶܐأي المليئة بالمراحم، كما اعتدنا أن ندعوها في تقليدنا السرياني، نضرع كي بشفاعتها المستجابة، يُشفق الرب إلهنا على لبنانِنا المنكوب، فيتعزّى المفجوعون بفقد أعزّائهم، ويشفى الجرحى، وتُبنى البيوتُ المهدّمة... هي "ملجانا ورجانا"، قادرة أن تبلسم القلوب، وتعيد الرجاء حيث لا بصيص من نور، كي يبقى شبابنا، رغم الكوارث والإنقسامات والتحدّيات، صامدين ومتجذّرين في لبنان الوطن الرسالة.
ولأنّ شعبنا في بلدان هذا المشرق المعذَّب، من العراق فسوريا إلى لبنان، هو شعب مؤمنٌ وضع رجاءه بالرب المخلّص الذي وعد كنيسته أن يبقى معها إلى المنتهى "فلا تقوى عليها أبواب الجحيم" كما استمعنا في الإنجيل بحسب القديس متّى، اجتمعنا بعونه تعالىفي هذا المساء، كي نحتفل بذبيحة القداس الإلهية، في كاتدرائية سيّدة البشارة التي عرفت الكثير من النكبات إلى يومنا هذا. جئتم أيّها الأحبّاء، لتشاركوا في فرحة سيامة عزيزنا الخوري أفرام سمعان، الذي انتخبه مجمعنا الأسقفي أي السينودس، أسقفاً نائباً بطريركياً على القدس والأراضي المقدسة والأردن. وقد أعطيناه اسماً أبوياً هو مار يعقوب أخو الرب، أحد الإثني عشر، والأسقف الأول على اورشليم المدينة المقدسة.
جميعنا يعلم مدى التحدّيات التي ستجابه المطران الجديد في خدمته الأسقفية، إن في الأراضي المقدسة وإن في المسؤولية الملقاة عليه، كمدبّر بطريركي لأبرشية القاهرة، بعد وفاة راعيها المثلّث الرحمات مار اقليميس يوسف حنّوش.
فهو يحتاج إلى صلواتنا وتشجيعنا كي يبدأ ويستمرّ في خدمته الأسقفية الجديدة، بالنعمة والعافية، بالفرح والسلام.
"لا يستهن أحدٌ بحداثتك، بل كن مثالاً للمؤمنين بالكلام، والسيرة والمحبّة والإيمان والعفاف... لا تُهمِل الموهبة التي فيك..." (1 طيمثاوس 4)
كلماتٌ مؤثّرةٌ لبولس رسول الأمم، وجّهها إلى تلميذه طيمثاوس "ابنه الحبيب والأمين في الرب" كما كتب في (1 كو 4 :17)، كي يذكّره بسموّ الدعوة التي إليها دعاه الربّ المخلّص، ليتابع رسالة الكرازة بإنجيل الخلاص، ويبذل ذاته كالراعي الصالح لخدمة النفوس الموكلة إليه.
وفي الإنجيل الذي سيعلنه على مسامعنا مار يعقوب أفرام بعد سيامته، سنتعرّف على حقيقة الراعي الصالح والصفات التي عليه أن يتحلّى بها. لقد دُعي ليمارس خدمته الأسقفية متمثّلاً بمعلّمه الإلهي راعي الرعاة الحقيقي، وهي خدمة مجانية قبل أن تكون ترقية إلى الكرامة، خدمة تتجلّى: بالمحبّة الفائقة حتّى بذل الذات ومثاله يسوع الفادي، بوداعة قلب الرب وتواضعه، وبالحكمة المستنيرة بمواهب الروح القدس.
على الأسقف الجديد أن يعيش دعوته للخدمة بروح الحق، مجسّداً كلامه وموعظته وتعليمه، بأفعال تثبتُ مصداقيته ونزاهته، ليضحي قدوةً لكهنته والمؤمنين في أبرشيته. واليوم أكثر من أيّ وقت مضى، يحوز الأسقف على تقدير المؤمنين ورضاهم، متى اختبروا فيه صورة الأب الحقيقي، الذي يشهد لدعوته بقناعة وصدق، يخدم ويتفانى ويبذل ذاته بسخاء، ساعياً لتقديس ذاته والنفوس المؤتمَن عليها، دون شروط أو تمييز. لنذكر ما جاء في الرسالة المنسوبة إلى يعقوب الرسول أخي الرب، على الإيمان أن يُترجَم وأن يحيا بأعمال المحبّة والرحمة والعدالة (يع 2).
وعليه أن يمارس سلطته الكنسية بروح الوداعة والتواضع، كأبٍ يتفهّم ويُرشد ويوجّه مَن أُوكِلوا إلى رعايته، إكليروساً ومؤمنين، متذكّراً بأنّه وحده الروح يُحيي، وليس الحرف. ولم يعد خفيّاً أنّ عصرنا الذي يتبجّح بأولوية الحرّيات الفردية التي تنشرها وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي، يميل إلى رفض مفهوم السلطة عامّةً، والروحية بشكلٍ أخصّ. كم هو جميلٌ وحكيمٌ ما كتبه اغناطيوس الأنطاكي، شفيع كرسينا البطريركي، متوجّهاً إلى الاسقف وكهنته وجماعته المؤمنة، أن كونوا في وحدة متناغمة، "...على انسجامِ الأوتار والقيثارة، وهكذا، باتّفاق الشعور وتناغُم المحبّة، تُنشدون يسوع المسيح..." (رسالته إلى أفسس 4).
كما أنّ الأسقف مدعوّ أن يقوم برعاية الموكَلين إلى خدمته، متّكلاً دوماً على النعمة الإلهية التي سينالها في سيامته وخدمته، ومستلهماً مواهب الروح القدس، لا سيّما الحكمة والمشورة. إذ كلّنا نعلم كم أضحت الخدمة الأسقفية مليئة بالصعوبات، وكم عليها أن تجابه التحدّيات المتنوّعة، إن من داخل الكنيسة وإن من خارجها. على الأسقف الجديد أن يتعامل مع الآخرين بحكمةٍ أبويةٍ وبفطنةٍ وصبرٍ وتفهُّم. عليه أن يتقيّد بالقوانين الكنسية ويلجأ إلى الاستشارة قبل أن يتّخذ القرارات الهامّة المتعلّقة بخدمة الكهنة ورسالتهم، وفي حقل الرعاية ومعالجة الأمور الاجتماعية. وهو مدعوّ ليكون حكيماً ومنفتحاً في الحوار المسكوني، وفي بناء العلاقات الإيجابية مع المسؤولين الروحيين والمدنيين، في نيابةٍ بطريركيةٍ ممتدّةٍ على مساحةٍ واسعة.
وعليه أن يقدّر النعمة لتي وُهِبت له، إذ أنه بسيامته، سيُضحي عضواً في مجمع الأساقفة، أي سينودس كنيستنا السريانية. فيدرّب نفسه على الحوار البنّاء، ويشارك في دراسة المواضيع الكنسية والليترجية والرعوية، إن في الأصقاع البطريركية وإن في كنيسة الانتشار. ويتذكّر بأنّ كنيسته الشاهدة والشهيدة من أجل الرب يسوع فادينا، تحتاج إلى طاقاته الشابّة الأمينة والملتزمة.
وخير ما أختم به كلمتي، النشيد السرياني الموجَّه للروح القدس، قبل وضع اليد على الأسقف الجديد مار يعقوب أفرام:
"أيّها الروح القدس الفارقليط، الخفيّ في جوهره، خالق الكلّ بموهبته، نبع النبوءة وكمال الكهنوت، يا مانحاً الحكمة للبسطاء والتعليمَ القويم للصيّادين، ومكمّلاً البيعة المقدّسة بالمعرفة، أنتَ المساوي للآب والإبن في الجوهر والتكريم، أيّها الروح القدوس لك المجد". آمين.
|