ظهر يوم الأحد 7 آذار 2021، استقبل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، قداسةَ البابا فرنسيس، في زيارته التاريخية إلى بلدة قره قوش (بغديده) السريانية العريقة، في العراق، وهي تشكّل التجمُّع المسيحي الأكبر في العراق، اللؤلؤة التي ترصّع تاج كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية وعينها اليمنى.
كانت بلدة قره قوش بإكليروسها ومؤمنيها على موعد مع لقاء تاريخي ويوم مجيد في تاريخها لم تشهد له مثيلاً في السابق، هو يوم زيارة قداسة البابا فرنسيس. فازدانت شوارعها، واصطفّ أبناؤها وبناتها، شيباً وشباباً، كباراً وصغاراً، رجالاً ونساءً وأطفالاً، وتهيّأوا لاستقبال قداسته في عرسٍ بهيجٍ غمره الفرح العارم، وهم متّشحون بأبهى حللهم، والنساء يرتدينَ الزيّ الخديدي التقليدي العريق.
وصل قداسة البابا بطائرة مروحية إلى الشارع القريب من كنيسة الطاهرة الكبرى التي أعيد ترميمها لتغدو بهيّةً رائعة الجمال. ثمّ سلك موكب قداسته الشوارع المحيطة بالكنيسة وسط هتافات الألوف المؤلَّفة من المؤمنين الذين اصطفّوا على جوانب الطريق، وهم يرحّبون بقداسته وحناجر النساء تصدح بالزغاريد والتهاليل، فيما قداسته يبادلهم تحيّة المحبّة الأبوية وفرح اللقاء المنتظَر، مبدياً إعجابه الشديد بتمسُّكهم بإيمانهم وأرضهم رغم المحن والصعوبات والاضطهادات.
وفور وصول قداسته إلى أمام الباب الخارجي لكنيسة الطاهرة الكبرى، استقبله غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان، وصاحب السيادة مار يوحنّا بطرس موشي رئيس أساقفة الموصل وتوابعها، والأب حبيب مراد القيّم البطريركي العام وأمين سرّ البطريركية، والأب عمّار ياكو النائب العام لأبرشية الموصل.
وبعد أن رشّ قداسته مدخل الكنيسة بالماء المقدس، ومنح البركة للمؤمنين بالصليب، دخل بصحبة غبطة أبينا البطريرك إلى الكنيسة، فيما الجوق يرنّم ترنيمة استقبال رؤساء الأحبار "ܬܳܐ ܒܰܫܠܳܡ ܪܳܥܝܳܐ ܫܰܪܺܝܪܳܐ" (تو بشلوم روعيو شاريو – هلمّ بسلام أيّها الراعي الصالح)، وسط موجةٍ عارمةٍ من تصفيق الحضور وتهاليلهم تعبيراً عن الفرح بهذه المناسبة التاريخية الفريدة.
شارك في استقبال قداسة البابا أصحابُ السيادة ممثّلو آباء سينودس كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية: مار أفرام يوسف عبّا رئيس أساقفة بغداد وأمين سرّ السينودس المقدس، ومار يوحنّا جهاد بطّاح رئيس أساقفة دمشق، ومار أثناسيوس فراس دردر النائب البطريركي على البصرة والخليج العربي.
كما حضر الوفدُ المرافقُ لقداسة البابا والمؤلَّف من أصحاب النيافة الكرادلة: بييترو بارولين أمين سرّ دولة حاضرة الفاتيكان، وليوناردو ساندري رئيس مجمع الكنائس الشرقية، وميغيل أيوزو غويكسوت رئيس المجلس الحبري للحوار بين الأديان، وفرناندو فيلوني السفير البابوي الأسبق في العراق، وأعضاء الوفد المرافق لقداسة البابا. كما حضر غبطة البطريرك الكردينال لويس روفائيل ساكو بطريرك بابل للكلدان، ومعاونه البطريركي سيادة المطران باسيليوس يلدو. ومن الكنيسة السريانية الأرثوذكسية الشقيقة حضر صاحبا النيافة: مار غريغوريوس صليبا شمعون المستشار البطريركي، ومار تيموثاوس موسى الشماني مطران أبرشية دير مار متّى. وشارك الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الذين يخدمون في أبرشية الموصل وتوابعها السريانية الكاثوليكية، وحشود غفيرة جداً من المؤمنين ضاقت بهم الكنيسة على رحبها، يتقدّمهم سعادة النائبة في البرلمان العراقي السيّدة بيداء سلمان، ابنة كنيستنا السريانية في قره قوش، وقائمقام الحمدانية، والمسؤولون العسكريون في المنطقة.
بدايةً، ألقى غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان كلمةً رحّب فيها بقداسة البابا في قره قوش وسهل نينوى، مشبّهاً إيّاه بيونان النبي الذي أعاد نينوى إلى الله بالتوبة كارزاً بالحقّ، منوّهاً إلى اقتلاع مسيحييها من أرضهم بسبب إيمانهم عام 2014، وتدنيس هذه الكنيسة والكنائس الأخرى وحرقها على أيدي الإرهابيين التكفيريين، لافتاً إلى عودة المسيحيين إلى أرضهم هذه بجهود رعاتهم الروحيين وتضحياتهم، معرباً عن الافتخار والاعتزاز بهم إذ ظلّوا متمسّكين بإيمانهم الراسخ ومحبّتهم لإنجيل المحبّة والسلام على مثال آبائهم وأجدادهم، شاكراً تضامُن مؤسّسات المحبّة الكاثوليكية ومساعدتها في ترميم عدد كبير من المنازل ودور العبادة، مشجّعاً المؤمنين على العودة وتجديد رجائهم "فوق كلّ رجاء" بمستقبل آمن وكريم في وطنهم، شاكراً قداسته على زيارته الأبوية التي تعزّينا في آلامنا وتشجّعنا كي نبقى متجذّرين في أرضنا (تجدون النص الكامل لكلمة غبطته بالعربية ونص الترجمة الإيطالية في خبرين خاصَّين على صفحة الأخبار هذه في الموقع الرسمي للبطريركية).
وألقى قداسة البابا فرنسيس كلمة قبل تلاوة صلاة التبشير الملائكي، أعرب فيها عن فرحه الكبير بهذا اللقاء الذي انتظره بفارغ الصبر، وفي الوقت عينه حزنه الشديد لما يعاينه من آثار القوّة المدمّرة بسبب العنف والكراهية والحرب، مؤكّداً أنّ الكلمة الأخيرة هي لله المنتصر على الخطيئة والموت، حاثّاً المؤمنين على الاقتداء بآبائهم في الشهادة لإيمانهم، واضعين ثقتهم بالله الذي لا يخيّب آمالنا ابداً، مؤكّداً القرب منهم بالصلاة والمحبّة، مشدّداً على الحفاظ على الجذور وترميم الروابط التي توحّد الجماعات والعائلات، وعلى القدرة على المغفرة والشجاعة للكفاح، متذكّرين أنّ يسوع بجانبهم فلا يفقدوا الرجاء، شاكرين الله في كلّ حينٍ على عطاياه، طالبين منه أن يمنح العالم السلام والمغفرة والأخوّة، وذلك بقوّة الصلاة من أجل توبة القلوب وانتصار ثقافة الحياة والمصالحة والمحبّة الأخوية، مع احترام الاختلافات وتنوُّع التقاليد الدينية، والسعي لبناء مستقبلٍ مرسَّخٍ على الوحدة والتعاون والتحاور (تجدون النص الكامل لكلمة قداسته بالإيطالية ونص الترجمة العربية في خبرين خاصَّين على صفحة الأخبار هذه في الموقع الرسمي للبطريركية).
وأدّى الجوق باقةً من الترانيم السريانية. وكانت هناك شهادتان وخبرتا حياة، أولى للسيّدة ضحى صباح عبد الله، التي استشهد طفلها وابن عمّه وابنة جيرانها الشابّة قبل النزوح عام 2014، وثانية للأب عمّار ياكو.
ثمّ تلا قداسة البابا صلاة التبشير الملائكي مع جميع الحاضرين.
بعدئذٍ، وتخليداً لهذه الزيارة التاريخية، دوّن قداسة البابا في السجلّ الذهبي الكلمة التالية بالإيطالية:
« Da questa chiesa distrutta e ricostruita, simbolo della speranza di Qaraqosh e di tutto l’Iraq, invoco da Dio, per l’intercessione della Vergine Maria, il dono della pace »
وترجمتها بالعربية:
"من هذه الكنيسة المدمَّرة والتي أُعيد بناؤها، علامة الرجاء لقره قوش وللعراق برمّته، أسأل الله، بشفاعة أمّه مريم العذراء، عطيّة السلام".
وقدّم سيادة المطران مار يوحنّا بطرس موشي هديةً تذكاريةً إلى قداسة البابا، هي عبارة بطرشيلٍ أُعِدّ في قره قوش. كما أهدى قداسته إلى المطران موشي أيقونة كبيرة للسيّدة العذراء مريم، عربون محبّةٍ وشكر. كذلك أعاد قداسته إلى أبرشية الموصل السريانية الكاثوليكية مخطوطةً سريانيةً قديمةً جرى ترميمها بعد تعرُّضها للتخريب خلال الأعمال الإرهابية عام 2014.
وفي الختام، منح قداسة البابا البركة الرسولية، وغادر الكنيسة مودَّعاً من غبطة أبينا البطريرك وسيادة المطران بطرس موشي كما استُقبِل بمجالي الحفاوة والإكرام. وسار موكب قداسته بين جموع المؤمنين المحتشدين في شوارع البلدة، فودّعوه بتأثّرٍ بالغٍ وفرحٍ كبيرٍ لا يوصَف. فشكراً لله على عطيته التي لا يُعبَّر عنها.
|