يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ارتجلها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال رتبة تقديس وتكريس كنيسة الطاهرة الكبرى والقداس الإلهي الذي احتفل به غبطته بمناسبة عيد بشارة العذراء مريم، قره قوش، العراق، صباح يوم الجمعة 26 آذار 2021:
"السلام عليكِ يا مريم، يا ممتلئةً نعمةً"
سيادة السفير البابوي، ممثّلاً قداسة البابا فرنسيس الذي شرّف هذه الكنيسة بزيارته وبركته
إخوتي رؤساء الأساقفة والأساقفة الأجلاء
الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأعزّاء
المسؤولين المدنيين والعسكريين المحترمين
أيّها المؤمنون المبارَكون بالرب
سمعنا من رسالة القديس بولس إلى أهل غلاطية، أنّ الرب يسوع هو الذي يحيا فينا، ولن نحتاج إلى الشريعة الموسوية بعد، لأنّه فتح لنا عهد المحبّة. وسمعنا من الإنجيل المقدس، إنجيل بشارة العذراء، بحسب البشير لوقا، أنّ الآب اختار هذه العذراء من بين نساء العالم، وأهّلها لتكون والدةً للكلمة الإلهي بالجسد، هي التي حبلت من الروح القدس في أحشائها، بكلمة الله، يسوع المسيح مخلّصنا.
يقدّم لنا القديس مار أفرام السرياني هذا الابتهال، إذ يتوجّه نحو الرب يسوع ويقول: "أنتَ وحدك وأمّك تفوقان الجميع بهاءً، إذ لا عيب فيك يا رب، ولا وصمة في أمّك" (من الأناشيد النصيبينية). واستناداً على هذا القول لشفيعنا مار أفرام في القرن الرابع، وأقوال آباءٍ عديدين شرقاً وغرباً، أعلن البابا بيوس التاسع في الثامن من كانون الأول عام 1854 عقيدةً إيمانيةً، بعنوان "الله غير المُدرَك"، وهي إيماننا بأنّ مريم العذراء حُبِلَ بها بلا دنس الخطيئة الأصلية، وذلك بامتيازٍ خصّها به الله تعالى، لأنّه منذ البدء اختارها كي تكون والدة ابنه الكلمة الأزلي.
نحن اليوم في هذه الكنيسة المكرَّسة على اسم هذه العذراء مريم الطاهرة، نعيش فرح عرسٍ جديدٍ بأن تتكرّس هذه الكنيسة الرائعة الجمال، إنّها التحفة واللؤلؤة بين كنائسنا في العراق وكنائسنا السريانية في العالم، وذلك بعد النكبة التي حلّت بها وبكم، أيّها الأحبّاء، أنتم أبناء وبنات هذه المدينة الصامدة والحيّة بالإيمان، لأنّه لو لم يكن لديكم الإيمان بالرب يسوع والثقة بوالدته العذراء مريم، لَما عُدتُم، أيّها الأحبّاء، بهذا العدد المعزّي، العدد الأكبر نسبياً بين كلّ مسيحيي العراق المهجَّرين قسراً، إذ أنّ سيادة راعي الأبرشية قال لنا مؤكّداً أنّ ما يقرب من ستّين بالمئة من المهجَّرين عادوا إلى قره قوش. وهذا فرحٌ كبيرٌ لنا جميعاً، للبطريرك وللأساقفة ولراعي الأبرشية وللكهنة، وللشمامسة والرهبان والراهبات، بل أيضاً لقداسة البابا فرنسيس الذي جاء إلى هنا وزارنا وبارَكَنا كي يشجّعنا ويهنّئنا ويدعونا أن نعيش الإيمان الحقيقي والرجاء الراسخ والمحبّة التي هي علامة المسيحي أينما كان.
بعد إعلان هذه العقيدة الإيمانية، عقيدة الجبل بمريم العذراء بدون دنس الخطيئة الأصلية، ظهرت أمّنا العذراء مريم في مدينة لورد الفرنسية، ولا بدّ أنّ البعض منكم قد زاروا هذه المدينة المقدسة. كما أنّ كنائس وأديرةً ومؤسّساتٍ وأخوياتٍ ورهبانياتٍ عديدة حول العالم سُمِّيَت على اسم العذراء المحبول بها بلا دنس الخطيئة الأصلية.
نحتفل بتقديس هذه الكنيسة بعد ترميمها، إثر ما حلّ بها من دمارٍ وحرقٍ وتدنيس. لقد "انتصبت ابنة الملك" لتعلن غلبة الخير على الشرّ، وانتصار الحضارة على التخلّف، والمحبّة على أنواع الكراهية.
ومن هنا، نعلن صفحةً جديدةً من التآخي الصادق والتسامح النزيه، والمشاركة البنّاءة في إعمار قره قوش وسهل نينوى، مع كلّ الذين يطمحون إلى مستقبلٍ سلامي، يجمع ولا يفرّق، ويمجدّ الخالق، إله الخير والجمال.
لا بدّ أنّ نتذكّر الذين قاموا بجهودٍ جبّارةٍ في سبيل بناء هذه الكنيسة، وقد استغرق بناؤها 16 سنةً، من عام 1932 حتّى عام 1948، فارتفعت شامخةً ممجّدةً الله ومكرّمةً والدته العذراء النقية، بتضحيات المؤمنين وعطاياهم ومشاركتهم في البناء. وفي طليعتهم، نذكر المثلَّث الرحمات المطران مار قوريللوس جرجس دلال، ومنكم من عرفوه، وكان يشرف على البناء، ويحمل بنفسه الحجارة مع أبناء قره قوش، كي يكتمل هذا البناء الرائع الجمال. ونعرف جيداً أنّ الأساقفة الذين خلفوا المطران دلال كانوا يقدّرون قره قوش (بغديدى)، ويثمّنون هذه اللؤلؤة الجميلة، كنيسة الطاهرة. ونحن أيضاً، لا نكفّ عن تبجيل العذراء مريم، إذ نتذكّر أنّ هذه الكنيسة الجديدة تلت الكنيسة القديمة، إن كان هنا في قره قوش أو في الموصل القديمة، مكرّمين العذراء مريم أمّنا السماوية.
اليوم نفرح كثيراً أن يكون إخوتنا هنا معنا في هذا اليوم التاريخي، كما استقبلْنا قداسةَ البابا فرنسيس في زيارته التاريخية الأولى إلى العراق، وفي مباركته لنا في هذه الكنيسة. كما نتذكّر بفخرٍ واعتزازٍ كيف أنّ أهالي قره قوش (بغديدى) وبرطلّة وبعشيقة وكرمليس جاؤوا كلّهم ليستقبلوا قداسةَ البابا، وقد انتظروه لساعاتٍ طويلةٍ. وكان الاستقبال أجمل وأروع احتفالٍ شعبي لقداسته، إذ كان احتفالاً شعبياً وعفوياً وبنوياً، وكان عرساً لبغديدى ولسهل نينوى برمّته، لأنّهم كانوا يحتفلون بزيارة أبيهم الروحي رأس الكنيسة الجامعة.
في الختام، نجدّد التهنئة لسيادة راعي الأبرشية وللآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، ونهنّئكم جميعاً أيّها الأحبّاء بهذا الاحتفال الذي هو انطلاقةٌ جديدةٌ في إيمان هذه البلدة المحبوبة وأبرشية الموصل وتوابعها العزيزة. ومعكم نلتجئ إلى شفاعة أمّنا السماوية مريم العذراء الطاهرة، بدالّتها لدى ابنها الوحيد الرب يسوع، ضارعين من أجل الكنيسة والمؤمنين في قره قوش والعراق وفي كلّ مكان، ومتأمّلين بهذا النشيد الذي نصلّيه ليل كلّ يوم إثنين في الصلوات الأسبوعية في كتاب الإشحيم بحسب طقس كنيستنا السريانية الأنطاكية:
«ܝܳܠܕܰܬ ܐܰܠܳܗܳܐ ܒܬܽܘܠܬܳܐ ܕܽܘܟ̣ܪܳܢܶܟ̣ܝ̱ ܠܒܽܘܪܟܬܳܐ܆ ܠܪ̈ܰܚܺܝܩܶܐ ܘܰܠܩܰܪ̈ܺܝܒܶܐ ܦܰܢܳܝ ܫ̈ܶܐܠܳܬܗܽܘܢ. ܠܰܐܝܢܳܐ ܕܰܟܪܺܝܗ ܗܰܒܝ̱ ܠܶܗ ܚܽܘܠܡܳܢܳܐ܆ ܘܠܰܐܝܢܳܐ ܕܰܡܥܳܩ ܒܥܳܝ ܠܶܗ ܠܽܘܒܳܒܳܐ. ܘܰܐܝܢܳܐ ܕܒܺܝܫܳܐ ܫܳܚܶܩ ܠܶܗ ܛܪܽܘܕܺܝܘܗ̱ܝ̱ ܡܶܢܶܗ܆ ܒܰܨܠܽܘܬܶܟ̣ܝ̱ ܘܰܒܒܳܥܽܘܬܶܟ̣ܝ̱ ܪ̈ܰܚܡܶܐ ܢܶܗܘܽܘܢ ܥܠܰܝܢ܆ ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ ܨܠܽܘܬܶܟ̣ܝ̱ ܬܥܰܕܰܪܝ̱ ܠܰܢ»
وترجمته: "فليكن ذكركِ للبركة أيّتها البتول والدة الإله، استجيبي طلبات البعيدين والقريبين. إمنحي المريض الصحّة، واسألي التعزية للمتضايق. والذي يعذّبه الشرّير، أطرديهِ منه، بجاه صلاتكِ وطلبتكِ فلتحلّ علينا المراحم، هللويا فلتُعِنَّا صلاتكِ". آمين.
|