الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
النص الكامل للموعظة التأبينية التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك في رتبة جنّاز ودفن المثلّث الرحمات المطران مار يعقوب بهنان هندو

 

    ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التأبينية البليغة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في رتبة جنّاز ودفن المثلّث الرحمات مار يعقوب بهنان هندو رئيس أساقفة أبرشية الحسكة ونصيبين سابقاً، بعنوان: "جاهدتُ الجهادَ الحسن، أكملتُ السعي، حفظتُ الإيمان" (2 تي 4: 7)، وذلك في كنيسة دير سيّدة النجاة - الشرفة البطريركي، درعون – حريصا، لبنان، مساء يوم الأربعاء 16 حزيران 2021:   

 

"جاهدتُ الجهادَ الحسن، أكملتُ السعي، حفظتُ الإيمان" (2 تي 4: 7)

 

    صاحب القداسة أخانا مار اغناطيوس أفرام الثاني بطريرك أنطاكية وسائر المشرق والرئيس الأعلى للكنيسة السريانية الأرثوذكسية في العالم أجمع الكلّي الطوبى

    Son Excellence Révérendissime Archevêque Joseph SPITERI, Nonce Apostolique au Liban

    أصحاب السيادة الإخوة المطارنة ممثّلي أصحاب الغبطة البطاركة

    أصحاب السيادة الإخوة المطارنة آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية

    أصحاب النيافة والسيادة الإخوة مطارنة الكنائس الشقيقة  

    الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والمؤمنين

    إخوة المثلّث الرحمات وأخواته وأفراد عائلة هندو

    أيّها المؤمنون المبارَكون بالرب

 

    يدعو القديس مار بولس رسول الأمم تلميذه تيموثاوس إلى أداء الشهادة للإيمان الذي استقاه من الكتب المقدسة ولِما تعلّمه من معلّمه بولس عن الرب يسوع المخلّص، وإلى حمل البشارة ونشرها، مثبّتاً المؤمنين بالقدوة الصالحة والتعليم القويم وبذل الذات، بالصبر على المحن والشدائد والثبات حتّى الرمق الأخير. وهكذا يستحقّ أن ينال إكليل البرّ والمكافأة بالسعادة الأبدية مع الربّ يسوع: "جاهدتُ الجهاد الحسن، أكملتُ السعي، حفظتُ الإيمان، وقد أُعِدَّ لي إكليل البرّ الذي يجزيني به الرب الديّان العادل في ذلك اليوم" (2تي4: 7-8).

    أيّها الأحبّاء،

    انتقل المثلّث الرحمات مار يعقوب بهنان هندو، رئيس أساقفة الحسكة ونصيبين سابقاً، من هذه الفانية بعد معاناة مع المرض لأكثر من سنتين، قَبِلها بتسليم للمشيئة الإلهية، سبقَتها خدمة أسقفية لأبرشية الحسكة ونصيبين دامت اثنتين وعشرين سنةً، عمل فيها بما حباه الله من مواهب وطاقات لخير كنيسته وأبرشيته في ظلّ معاناة الحرب التي ألمّت ببلده وغطّت قرابة نصف فترة خدمته الأسقفية.

    نشأ المثلّث الرحمات مار يعقوب بهنان في عائلة تقيّة من 14 أخاً وأختاً في مدينة القامشلي، كانت قد نزحت إلى سوريا من بلدة آزخ السريانية العريقة، التي اشتهرت بسكّانها الميامين الذين دافعوا وصمدوا ببطولة فريدة، عن الإيمان الموروث عن آباء وأجدّاد عانوا الاضطهادات المريعة، ولكنّهم ظلّوا أمناء للرب يسوع الفادي، ولم يكفّوا عن اللجوء إلى والدته مريم العذراء في زمن الشدّة والاضطهاد والمحن، يبتهلون إليها كشفيعة قادرة وأمّ رؤوم مردّدين: "عذراء آزخ، هواري ليكِ، بما معناه: ملجأي إليكِ!".

    دعاه الرب منذ صغره كي يتبعه في درب التكرّس الكهنوتي، فأمّ إكليريكية "سيّدة النجاة" في دير الشرفة عام 1954، حيث نهل مع الدراسة، روحانية التلمذة للمعلّم الإلهي مدّة سبع سنوات. وها هنا يشاركنا الصلاة اثنان من معلّميه، هما مار أثناسيوس متّي متّوكة، رئيس أساقفة بغداد سابقاً، ومار ربولا أنطوان بيلوني الذي خدم سابقاً كرئيسٍ لأساقفة حلب ومطرانٍ في الدائرة البطريركية في لبنان.

    وفي عام 1961، أُرسِل الإكليريكي بهنان مع رفاق صفّه لتحصيل العلوم الكهنوتية، إلى الجامعة الأوربانية في روما، حيث نال شهادتَي الليسانس في الفلسفة واللاهوت. وفي 4 أيّار 1969، سيم كاهناً بوضع يد مار اقليميس اغناطيوس منصوراتي المعتمَد البطريركي في روما، مع رفيقه وصديق العمر "أبونا إيلي" والمطران اليوم مار غريغوريوس الياس طبي، رئيس أساقفة دمشق سابقاً، الذي ظلّ له رفيق العمر منذ نشأتهما، خلال سنوات الإكليريكية إن في لبنان وإن في روما.

    وبعد أن أمضى سنتين كمسؤولٍ في الإكليريكية الصغرى في الشرفة، شاركه في خدمة رعية مار بطرس وبولس في القامشلي. وقد كانت سنته الأولى في الشرفة بإدارة حضرة الأب جليل هدايا الحاضر معنا أيضاً، ومن تلامذته سيادة المطران مار ديونوسيوس أنطوان شهدا، رئيس أساقفة حلب الحاضر معنا.

    وبعد أن قضى ما يقرب من 12 عاماً كطالباختصاص وكاهن رعية مار أفرام في باريس، حيث واظبَ على نشر التراث السرياني، لغةً ونشيداً وتاريخاً، انتخبه سينودس كنيستنا مطراناً رئيس أساقفة لأبرشية الحسكة ونصيبين، وتمّت سيامته الأسقفية بوضع يد المثلّث الرحمات مار اغناطيوس أنطون الثاني حايك في 18 حزيران 1997 في كنيسة مار بطرس وبولس في القامشلي. وخدم الأبرشية 22 عاماً في ظروف بالغة الصعوبة ومحفوفة بالمخاطر، وكان المدافعَ عن الحقيقة والعدل والمساواة في المواطنة والحقوق، أينما كان في المؤتمرات الوطنية والدولية.

    وبالرغم من النكبات التي حلّت بوطنه سوريا وبأبرشيته، طوال الحرب المشؤومة التي قتلت ودمّرت وهجّرت، ثابر المثلّث الرحمات، على خدمة أبرشيته، ومدينته الحسكة بكلّ طوائفها، وذلك بروح الراعي الصالح الذي يسعى للتعرّف على رعيته، ويبذل كلّ ما في وسعه لمساعدتها وبثّ الرجاء في النفوس، في تلك السنوات المرعبة. يكفي أن نذكر الهجمات التكفيرية الهدّامة التي حلّت بقرى الخابور المسيحية، والتي دفعت غالبية سكانها إلى النزوح والتشرّد. وقد بقي ثابتاً وصامداً يرعى أبرشيته ويهتمّ بشؤون المؤمنين وحاجاتهم.

    وفي سعينا كما حاول أسلافنا البطاركة، إلى إصلاح ما لزمَ من تراثنا الليتورجي العريق والحفاظ على جماليته، والكشف عن كنوزه الروحية والرعوية لإشراك المؤمنين وتقديسهم، قمنا بإنشاء "لجنة طقسية سينودسية"، وسمّينا المثلّث الرحمات رئيساً لهذه اللجنة الليتورجية. وها هنا يشاركنا الصلاة مار يوحنّا بطرس موشي، رئيس أساقفة الموصل وتوابعها، ونائب رئيس هذه اللجنة، التي انكبّت طوال سنوات بأعضائها من الأساقفة والكهنة والرهبان، على البحث والدرس واختيار ما يناسب من عبارات تقدّم لنا تراثنا السرياني، كينبوع قداسة وروحانية تروي ظمأ المؤمنين إلى عيش سرّ الذبيحة الإلهية.

    حسّه المرهَف لمعاناة ذوي الإحتياجات الخاصة دفعه إلى تأسيس مركز "مار أسيا الحكيم" للعلاج الفيزيائي، والمستوصف المجّاني في الحسكة، للتخفيف من معاناة المتوجّعين والمهمَّشين. كما دعم عدداً من العائلات الشابّة، لتأمين السكن اللائق لها.

    نعزّي نفسنا ومجمع أساقفتنا، بغياب مار يعقوب بهنان من بيننا، ونخصّ بالذكر الأسافقة آباء المجمع الحاضرين معنا: مار أثناسيوس متّي متّوكة، مار ربولا أنطوان بيلوني، مار ديونوسيوس أنطوان شهدا، مار غريغوريوس بطرس ملكي، مار يوحنّا بطرس موشي، ومار متياس شارل مراد.

    ونقدّم التعازي إلى ذويه الأحبّاء، إخوته وأخواته وعائلاتهم، الحاضرين بيننا، وأولئك المنتشرين في بلاد أخرى. وبشكل خاص نودّ أن نعزّي شقيقته الدكتورة ماري. ونشكرها ونقدّر مرافقتها له في السنوات الأخيرة، باذلةً الكثير من العناية به، وكانت له مثال الأخت الرؤوف.

    كما نعزّي رعية مار بطرس وبولس التي خدمها ككاهن، في القامشلي، ورعية مار أفرام في باريس مع راعيها الخوراسقف إيلي وردة، والذي رافقه في الأشهر والأسابيع الأخيرة. وقد زاره أيضاً في المستشفى المطران مار فلابيانوس رامي قبلان، المعتمَد البطريركي والزائر الرسولي في أوروبا. كما نعزّي أبرشية الحسكة ونصيبين المتمثّلة بيننا بالخوراسقف جوزف شمعي، المدبّر البطريركي.

    نحن شعبُ إيمانٍ ورجاءٍ، لذلك عندما نفقدُ عزيزاً، نجدّدُ فعلَ إيماننا وثقتنا بالمعلّم الإلهي القائل "أنا معكم كلَّ الأيام وحتّى انقضاء الدهر" (مت 28: 20). ولأنّ مسيرتَنا الأرضية، مهما طالت أو قصرت، عليها أن تتكلّل بنور القيامة، وتكون انعكاساً لمحبّة الله للبشر، فنحن قادرون بنعمته تعالى على تحمُّل فراق الأحبّاء مهما كان قاسياً علينا، متذكّرين أنّنا جميعاً أهل السماء، وحياتنا على هذه الفانية ما هي إلا مسيرة نحو الأبدية.

    "وإن كان جسمكِ بعيداً منّا، صلواتك تصحبنا وتكون معنا". هذا هو النشيد الذي نعرفه جميعنا وبه نكرّم والدة الله مريم العذراء. وقليلون منّا عارفون بأنّه مُستقى من نشيد سرياني قديم يبدأ ب: "ܐܶܢ ܦܰܓܪܶܟܝ ܪܰܚܺܝܩ ܡܶܢܰܢ ܩܰܕܺܝܫܬܳܐ܆ ܨܠܰܘ̈ܳܬܶܟܝ ܥܰܡܰܢ ܐܶܢܶܝܢ ܒܟܽܠ ܥܶܕ̈ܳܢܺܝܢ". كم كان المثلّث الرحمات يحبّ أن يردّد هذا الابتهال إلى العذراء مريم، ويُنشده بصوته الرخيم، وبنصّه السرياني الأصيل! وها هو اليوم يتمتّع وجهاً لوجه بالنور الإلهي في الملكوت، مع العذراء أمّه السماوية التي ستكون دوماً معه، فهي "أمّنا ورجانا وملجانا".

    فلنبتهل بالصلاة إلى الرب يسوع، بروح الإيمان والرجاء، كي يمنح فقيدنا الغالي الرحمة والسعادة الأبدية، بشفاعة أمّنا العذراء مريم، سيّدة النجاة، وجميع القديسين والشهداء.

    فليكن ذكره مؤبّداً. المسيح قام، حقّاً قام.

 

إضغط للطباعة