في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم السبت 31 تمّوز 2021، احتفل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي، بالقداس الإلهي بمناسبة تكريس الشرق للعائلة المقدسة ومباركة مسيرة الحجّ في لبنان لأيقونة "العائلة المقدسة للمشيئة الإلهية" المرصَّعة بذخيرة من بازيليك البشارة في الناصرة، وذلك على مذبح كاتدرائية سيّدة البشارة، المتحف – بيروت.
عاون غبطتَه في القداس أصحابُ السيادة: مار ربولا أنطوان بيلوني، وشكرالله نبيل الحاج رئيس اللجنة الأسقفية "عدالة وسلام" في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، ومار متياس شارل مراد النائب العام لأبرشية بيروت البطريركية ونائب رئيس اللجنة الأسقفية "عدالة وسلام" ورئيس اللجنة المنظِّمة لزيارة أيقونة العائلة المقدسة المنبثقة من لجنة "عدالة وسلام".
كما شارك في القداس صاحبُ السيادة المطران بطرس مراياتي رئيس أساقفة أبرشية حلب للأرمن الكاثوليك والمدبّر البطريركي للكنيسة الأرمنية الكاثوليكية، وصاحبُ السيادة مار أثناسيوس متّي متّوكة، وعددٌ من الآباء الخوارنة والكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة من مختلف الكنائس في لبنان، وجموعٌ من المؤمنين.
وفي موعظته بعد الإنجيل المقدس، تحدّث غبطة أبينا البطريرك عن أيقونة "العائلة المقدسة للمشيئة الإلهية" "التي كُرِّمت أولاً في بازيليك سيّدة البشارة في الناصرة يوم الأحد 27 حزيران الماضي، وهي تمثّل الربَّ يسوع والعذراء والدة الله ومار يوسف الحامي ليسوع ومريم. وقد زرنا الأراضي المقدسة في مطلع شهر تمّوز الحالي، واحتفلنا بالقداس الإلهي في بازيليك البشارة في الناصرة، وفي ختامه أنشدنا أمام موضع البشارة، تشمشت (خدمة) العذراء مريم باللغة السريانية، لغة الرب يسوع وأمّه العذراء مريم والرسل الأطهار".
وأشار غبطته إلى أنّنا "نستقبل هذه الأيقونة في لبنان بالفرح، متذكّرين قول مار بولس في رسالته إلى أهل فيلبي "إفرحوا"، فمهما كانت آلامنا وأوجاعنا، فإنّنا نبقى الشعب العامر بالفرح، لأنّنا ندرك أنّ الرب يسوع معنا ولا يتركنا، وحتّى في أوقات الملمّات والضيقات والألم والوجع والجوع، لأنّنا أحبّاء لدى الرب يسوع"، عالمين "كم يعاني هذا البلد الصغير منذ سنوات، من أعاصير مخيفة تهدّد وجوده، وتقضي على الرسالة التي تَميّز بها في محيطه، لا سيّما التوافق على عيشٍ واحد، غايته الحفاظ على الوطن، بالمواطنة الصحيحة الفاعلة".
ونوّه غبطته إلى أنّ "أيقونة العائلة المقدسة هذه، محورُها الرب يسوع، كلمة الله المتأنّس، الإله الكامل والإنسان الكامل... نتضرّع إليه كي يرحمنا، ويغفر لنا، ويتمّم فينا نِعَمَ الفداء بذبيحته الوفائية عنّا، بموته وقيامته، وكي يبقى معنا كما وعدنا إلى انقضاء الدهر. ونكرّم أمّه العذراء مريم الكلّية القداسة بأحلى الأسماء، ... وهي القديرة بشفاعتها الأمومية من أجلنا لدى ابنها، يسوع الفادي. ونلجأ إلى مار يوسف، الرجل البارّ كما يصفه الإنجيل المقدس، ... متضرّعين إليه كي يحمينا ويرافقنا في عتمات هذا الطريق الذي علينا أن نسلكه".
ولفت غبطته إلى ننظر إلى "حياة الشركة الإلهية التي عاشها يسوع ومريم ويوسف في الناصرة. لم ينقل الإنجيل سوى كلمات نادرة تلفّظتْ بها مريم، لأنّها كانت تعمل بالخفية وتتأمّل بسرّ ابنها يسوع بالصمت. فيما يوسف، لا كلمة واحدة منه، بل كان يعمل نجّاراً بصمت. أمّا يسوع، فيقول لنا الإنجيل إنّه عُرِف ابناً ليوسف النجّار، وعاش في الخفية يعمل مع يوسف، ويُعرَفُ بمهنته "أليس هذا ابن النجّار؟"، وما أن بلغ الثلاثين حتّى بدأ حياته العلنية بالكرازة ثلاثَ سنوات. كان عليه أن يعلّم، ولكنّه لم يهدأ بعمله، مجسّداً تعاليمه بأعماله الخلاصية، التي تكلّلت بآلامه وموته وقيامته".
وأكّد غبطته أنّنا "نلجأ إلى العائلة المقدسة، كي نلقي تحت أقدامها، أوجاعنا، قلقنا، ضعفنا، آمالنا ورجاءنا في هذه الأوقات الصعبة التي نمرّ فيها. نسأل يسوع فادينا أن يرحمنا ويشفق على ضعفنا، فيحوّله إلى قوّة نجابه بها الملمّات المخيفة التي تحيط بنا. كما نضرع إليه أن يعزّينا في أحزاننا، ويبعث فينا الرجاء الحقيقي "فوق كلّ رجاء". ونسأل العذراء مريم أمّنا السماوية الممتلئة نعمةً، أن تستجيب إلى صلواتنا وتصغي إلى ابتهالاتنا، فهي الأمّ الحنون القادرة بالإله الكلمة الذي حلّ في حشاها. وإلى مار يوسف الذي حظي أن يكون مربّي يسوع فادينا، وحامي مريم أمّه، وقد رافق يسوعَ لسنوات، ... تتّجه أنظارنا، بشكلٍ خاص في هذه السنة المخصَّصة لتكريمه، ونسأله أن يرافقنا بحمايته المطمئِنة، ويعلّمنا الاتّكال التامّ على الرب والعمل بمشيئته، مهما أظلمت الدنيا حولنا، ومهما أُغلِقت أبواب الفرج أمامنا".
وذكّر غبطته "بأنّ علينا أن نتمّم عمل خلاصنا دون ضجّةٍ أو اعتدادٍ بالنفس، وأن نعمل قبل أن نتكلّم، وعلى كلامنا أن يحثّنا على العمل الدؤوب لنشر الخير حولنا والمشاركة في نِعَم الفداء. فهلّا تعلَّمنا من هذه الأيقونة أن نعيش في لبنان، دعوتَنا إلى القداسة، وقبل أن ننتقد، ونتخوّف، ونقلق تجاه الآخرين، علينا أن نقوم بمسؤولياتنا بأمانةٍ وسخاءٍ ومصداقية، ونعمل كي يبقى وطننا لبنان شعلةً في منطقته، ومثالاً للعيش الواحد ما بين جميع المواطنين، مهما كانت ديانتهم وعرقهم ولغتهم"، معتبراً "أنّ وطننا يمرّ اليوم بأخطر مراحل تاريخه الحديث، وهو يحتاج أكثر من أيّ يومٍ مضى إلى النِّعَم من العائلة المقدسة التي تطلّ علينا وتتابع حياتنا في هذه الزمن الصعب.
وركّز غبطته على الحاجة الملحّة "اليوم إلى الاقتداء بالعائلة المقدسة، نحمل بشجاعةٍ أيقونتها، ونستلهم منها ما حملَتْه لنا بشرى الإنجيل منذ ألفي سنة"، مشدّداً على أنّ "العائلة المسيحية تجتاز أخطر المراحل في عصرنا، ومن واجبنا أن ندافع عنها، إذ عليها أن تعيش بأمانةٍ دعوتها كي تكون "الكنيسة البيتية". فلا يُخدَع الشبّان والشابّات بما يسوّقه العديد من وسائل الإعلام، ومنظّمات وحكومات في بلدان غربية، وحتّى مرجعيات دينية، أنّه باسم الحرّية يُسمَح لأيّ شخص أن يؤسّس عائلة كما يحلو له ويتبنّى أولاداً كما يحلو له، في مفاهيم تناقض ما آمنت به وعاشَتْه المسيحية منذ ألفي سنة: بأنّ العائلة بحسب الحقّ الطبيعي والوحي الإلهي وتعليم الكنيسة، هي الوثاق الذي يجمع بين رجلٍ وامرأة، في الحبّ المتبادَل وفي قبول ثمرة هذا الحبّ: الأولاد الذين هم عطيّة الله، أبناءٌ وبناتٌ له، فهم، أي الأولاد، ليسوا لعبةً بين أيدي بالغين من جنسٍ واحدٍ، بل يحتاجون، وبحقّ إلهي، إلى أب وأمّ يتفانيان في تنشئتهم، كي ينموا ويكتملوا في إنسانيتهم ومسحيتهم كأولادٍ لله!".
واعتبر غبطته "أنّنا في لبنان أصبحنا أضحوكةً للعالم، بسبب ما ألمّ بنا من نكبةٍ ماليةٍ ومعيشيةٍ، بعد أن كان لبنان يُلقَّب ب "سويسرا الشرق". لكن للأسف، ونقولها بكلّ جرأةٍ بأنّ المسؤولين في هذا البلد لم يكونوا على مستوى المسؤولية. تكفي الضبابية التي لا تزال تخيّم على الانفجار، وبالأحرى التفجير المخيف الذي حلّ بمرفأ بيروت منذ عام. كم نحتاج إلى هذه الأيقونة، كي تذكّر جميع المسؤولين في لبنان، بأنّ عليهم العمل قبل الكلام، وأنّ لضحايا هذا التفجير، الحقّ أن يعرفوا المسبّبين والمقصرّين، الذين يجب أن تتمّ محاسبتهم ومعاقبتهم".
وأردف غبطته عن الوضع في لبنان: "كم من مرّةٍ سمعنا المسؤولين المتسلّطين، يتغنّون بأمانتهم للدستور والميثاق والصيغة! كم وكم سمعنا وقرأنا عباراتهم الرنّانة، وكأنّهم يقطنون كوكباً آخر، بعيداً عن لبناننا الذي يكاد يلفظ أنفاسه الأخيرة! يشتكي الكلّ من الكلّ، ولا أحدَ مُتَّهَمٌ! يتباكون على ما وصلت إليه البلاد، وليس من يضع يده على الجرح، ويدعو بنزاهةٍ لحلّ القضايا المستعصية، واحدةً واحدة!".
وتوجّه غبطته بالسؤال "إلى المسؤولين في لبنان، أكنّا رعاةً كنسيين أو من المجتمع المدني، كيف يتمّمون واجباتهم الوطنية، خاصّةً وأنّهم منتمون إلى طائفة! فعليهم أن يصغوا إلى رئيسهم الكنسي، ويغيّروا سلوكهم، ويعملوا جهدهم كي يحلّوا المشاكل المستعصية في الوطن"، لافتاً إلى أنّه لا يكفي "أن ننعت الجميع بالفساد، ونتجاهل تسمية مَن أفقر البلد بفساده وتقصيره؟! أما فهمنا أنّه حان وقتُ العمل الجادّ والاستغناء عن الكلام بتبادُل التُّهم للداخل والخارج!".
وختم غبطته موعظته بالتضرّع "إلى العائلة المقدسة، مستمدّين منها المعونة في هذه الأيّام العصيبة، كي ترافقنا وتعضدنا وتشفع بنا وبعائلاتنا ومجتمعنا ووطننا، وتنتشله من حالة الانهيار التي يتخبّط بها" (تجدون النص الكامل لموعظة غبطته في خبر آخر على صفحة الأخبار الرسمية في موقع البطريركية هذا).
وكان سيادة المطران شارل مراد قد ألقى كلمة في بداية القداس، رحّب فيها بالحضور باسم اللجنة الأسقفية "عدالة وسلام"، شاكراً غبطةَ أبينا البطريرك على ترؤُّسه هذه المناسبة الروحية، وعرض تفاصيل زيارة أيقونة "العائلة المقدسة للمشيئة الإلهية" إلى لبنان، التي كتبها خصّيصاً للعائلة المقدسة الأب سمير روحانا كاهن رعية الروم الكاثوليك في جبل الكرمل. وشرح بإسهاب أقسام الأيقونة، متأمّلاً برموزها السامية، وطالباً شفاعة العائلة المقدسة من أجل لبنان ومنطقة الشرق الأوسط برمّتها.
وبعدما منح غبطة أبينا البطريرك البركة الختامية، تبارك الجميع من أيقونة العائلة المقدسة، سائلين الله أن تكون سبب نعمة وبركة للبنان والشرق والعالم.
|