يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة الروحية التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي، خلال القداس الإلهي الذي احتفل به غبطته بمناسبة افتتاح أعمال السينودس السنوي العادي لأساقفة الكنيسة السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وذلك مساء يوم الأحد 12 أيلول 2021، في كنيسة دير سيّدة النجاة البطريركي – الشرفة، درعون – حريصا:
موعظة الليترجية الإلهية
في افتتاح السينودس 2021 - الأحد 12 أيلول،
دير سيّدة النجاة، الشرفة، الساعة الخامسة
كلمات الترحيب: إخوتي أصحاب السيادة الأجلاء آباء السينودس السرياني الأنطاكي المقدس، الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والمؤمنين الأحبّاء
نفتتح "سينودس أساقفة كنيستنا السنوي العادي"، بالذبيحة الإلهية التي تجمعنا وتوحّدنا، نحن آباء كنيستنا السريانية، وذلك بعد غياب العام المنصرم 2020، بسبب الآفة الوبائية التي حلّت في العالم، سائلين الله أن يزيل هذا الوباء ويشفي جميع المصابين به، ويلهم الأطبّاء والإختصاصيين لإيجاد العلاج الشافي.
في هذه الذبيحة الإلهية، نصلّي من أجل إخوتنا الأحبار المتوفّين الذين نفتقدهم، وقد سبقونا إلى الحياة الأبدية، وهم المثلّثو الرحمات: مار اقليميس يوسف حنّوش، مار يعقوب بهنان هندو، مار إيوانيس لويس عوّاد، ومار ثيوفيلوس فيليب بركات. الراحة الدائمة أعطِهِم يا ربّ، ونورك الأبدي فليُضئ لهم.
"اثبتوا فيّ وأنا أثبت فيكم. وكما أنّ الغصنَ، إن لم يثبت في الكرمة، لا يستطيع أن يثمر من نفسه، فكذلك لا تستطيعون أنتم أن تثمروا إن لم تثبتوا فيَّ"
يشبّه يسوع نفسه بالكرمة، وأبوه السماوي هو الغارس. أمّا التلاميذ فهم أغصان الكرمة، وعلى هذه الأغصان أن تبقى ثابتةً في الكرمة، كي تُعطي ثمراً وتدوم ثمارها. الجماعة المسيحية التي آمنت وقبلت سرّ موته وقيامته، مدعوّةٌ بدورها كي تثبت فيه، فتشعّ بنوره الإلهي أمام العالم كلّه.
لقد سبق أن تكلّم الأنبياء عن شعب الله المختار، ووصفوه بالكرمة التي يبسَتْ، فلا هي تعطي ثمراً، ولا خشبُها، أي أغصانها، ينفعُ لشيءٍ سوى أن يُحرَق.
أمّا الكرمة التي سمعناها في إنجيل يوحنّا، فهي يسوع نفسه، الذي هو الحياة، ونحن الأغصان التي تستمدُّ الغِذاءَ منها، فلا بُدَّ وأن نَـزخُر نحن أيضاً بثمار الحياة، وأن نُعطي ثمراً كثيراً ودائماً، ثمراً روحياً يُقَدِّسُنا ويُحيينا.
في هذا المثل الرائع، يؤكّد لنا يسوع أنّ ثباتنا فيه، كالأغصان بالكرمة، يجعلنا ثابتين في أبيه السماوي، كما هو ثابتٌ في محبّة الآب، وهو والآب واحدٌ.
والمحبّة التي يُعلّمنا إيّاها يسوع، ليستْ مجرَّد ألفاظٍ، بل محبّةً تُمتَحَن بالبَذل والتضحية: "ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم مِن أن يَبذلَ نفسَه عن أحبّائه".
وإذ تحتفل الكنيسة بعد يومين بعيد ارتفاع الصليب المقدس، فإنّنا نُحيي عظمةَ الحبّ، الذي بهِ فدانا يسوع، باذلاً ذاتَه ذبيحةً وفائيةً من أجلنا. ونحن في كلّ يوم جمعة، نُردّدُ مُنشِدين في طقسِنا السرياني: "ܨܠܺܝܒܳܐ ܐܳܬܳܐ ܕܫܰܝܢܳܐ ܨܠܺܝܒܳܐ ܢܺܝܫܳܐ ܕܙܳܟ̣ܽܘܬܳܐ܆ ܨܠܺܝܒܳܐ ܕܒܶܗ ܗܽܘ ܦܪܺܝܩܺܝܢܰܢ܆ ܘܒܶܗ ܟܽܠܰܢ ܡܶܫܬܰܒܗܪܺܝܢܰܢ" أي "الصليب آيةُ الأمان، الصليب علامة الغلبة، بالصليب نلنا الخلاص، وبه كلّنا نفتخر".
على الصليب، قرّب فادينا ذاته ذبيحة حبٍّ مرّةً واحدةً، وفي سرّ الإفخارستيا، أعجوبة المحبّة الإلهية، نتناول الرب سرّياً، ونتّحد به حقيقةً، كما طلب منّا في العشاء الأخير. في هذا الأحد، تُختَتَم احتفالات المؤتمر القرباني الدولي في هنغاريا، بمشاركة الآلاف من بلدان العالم. وهي مناسبةٌ كي نرفع قلوبنا إلى الرب المسيح فادينا، كرمةِ الحياة، ونسجد له بكلّ خشوعٍ وبالشكر العميق، لأنّه شاء أن يبقى معنا في سرّ جسده ودمه الأقدسين، كي نثبتَ فيه كالأغصان في الكرمة. إذ لسنا نحن نحيا بذاتِنا، بل هو المسيح الحيُّ فينا.
بتكريمنا صليب الخلاص، نجدّد إيماننا بغلبة الحياة على الموت، والانتصار الروحي على قوى الشرّ التي تُهدّدنا، أفراداً وجماعةً كنسيةً، منشدين في صلوات الفرض أيّام الجمعة، أبيات المزمور:
"ܒܳܟ ܢܕܰܩܰܪ ܠܰܒܥܶܠܕ̈ܒܳܒܰܝܢ܆ ܘܡܶܛܽܠ ܫܡܳܟ ܢܕܽܘܫ ܠܣܳܢܐܰܝܢ..." أي"بِكَ نُقارِعُ أعداءَنا، ومن أجل اسمِك نقهر مُبغِضينا..."
"ܒܰܨܠܺܝܒܳܟ ܡܳܪܰܢ ܥܺܕܬܳܐ ܐܶܬܦܰܪܩܰܬ݀܆ ܘܒܶܗ ܗ̱ܘ ܡܶܫܬܰܒܗܪܳܐ܆ ܘܰܒܚܰܫ̈ܰܘܗ̱ܝ̱ ܬܰܠܝܳܐ.ܘܰܚܢܰܢ ܕܶܐܚܰܕܢܰܢ ܓܰܘܣܳܐ ܒܰܨܠܺܝܒܳܟ܆ ܒܶܗ ܡܳܪܝ̱ ܢܰܛܰܰܪ ܠܰܢ ܡܶܢ ܒܺܝܫܳܐ ܘܚܰܝܠܶܗ܆ ܗܰܠܶܠܽܘܝܰܗ ܒܟܶܢܦܰܘ̈ܗ̱ܝ̱ ܕܰܨܠܺܝܒܳܟ ܣܰܬܰܪ ܠܰܢ ܡܳܪܝܳܐ". "بصليبك يا ربّنا نالت الكنيسة الخلاص، وبه تفتخر وبآلامه تتعلّق. ونحن الذين اتّخذنا صليبك ملجأً، احفظنا به من الشرّير وقوّته، هللويا استرنا يا ربّ في أكناف صليبك".
في الرسالة التي استمعنا إليها، يحثّنا مار بولس رسول الأمم على أن: "احتملوا بعضكم بعضاً... البسوا فوق ذلك كلّه ثوب المحبّة، فإنّها رباط الكمال".
نعم، هي الدعوة موجّهةٌ إلى كلّ واحدٍ منّا كي يعيش الشراكة مع الآخر إلى أبعد الحدود، يفرح لفرحه، يحزن لحزنه، يحتمل هفواته وزلاته، يسند ضعفه، ويقف إلى جانبه لتخطّي الصعاب. يُعينه في كلّ ذلك الثبات بالمحبّة التي تجمع بين أتباع الرب يسوع وتلاميذه، هذه المحبّة التي تصل إلى حدّ بذل الذات في سبيل الآخر: "ليس لأحدٍ حبٌّ أعظم من أن يبذل نفسه في سبيل أحبّائه". فالمحبّة هي الأساس وعليها يُبنى الكمال، فيعمّ السلام بين الجميع، وتتجلّى الوحدة بأبهى صورها، فيلهجون بشكر الرب كلّ حين.
في هذه الأيّام، لا بدّ لنا ونحن نعاني الأمرَّين في لبنان، أن نعقد الآمال على تأليف الحكومة الجديدة، كي تقوم بإعادة أبسط مقوّمات الحياة إلى المواطنين، وتوقف الإنحدار المريع نحو قعر الهاوية، وتعمل جاهدةً على توفير أبسط متطلّبات العيش الكريم، رغم أنّنا نسجّل للمسؤولين في هذا الوطن، مرّةً أخرى أيضاً، التمادي في تهميش السريان وحرمانهم من حقّهم المشروع أن يتمثّلوا في الحكومة، كما في سائر وظائف الدولة.
الشعب اللبناني موجوعٌ ويائسٌ، وهو مشرفٌ على حافّة الإنهيار، لأنّه مُبتلى بمسؤولين خانوه ولعبوا بمصيره، وما زالوا يكتفون بالأقوال والوعود، للدفاع عن أبسط حقوقه المدنية. هذا الشعب المظلوم يريد من هذه الحكومة الجديدة أن تعيد بناء لبنان على صخر المواطنة الصحيحة والشريفة، وليس على رمل المحسوبيات والاستزلام والفساد.
ونحن السريان، كأبناءٍ وبناتٍ أصيلين للبنان العريق في الحضارة، نريدُ أن تبقى كنيستُنا الكنيسةَ الشاهدةَ لإنجيل المحبّة والحقيقة، والشهيدةَ من أجل مَن هو المحبّة والحقيقة، يسوع الربّ الفادي، الذي بموته وقيامته منح العالم الحياة. وسنظلّ فخورين بشهدائنا وشهيداتنا فهم "الذين اختارهم الله فقدّسهم وأحبّهم"، و"لبسوا عواطف الحنان واللطف والتواضع والوداعة والصبر"، حسبما جاء في رسالة مار بولس التي سمعناها.
نسألُ الربَّ يسوعَ، الراعي الصالح، أن يبارك أعمال هذا السينودس، كي تكون لخير كنيستنا وأبنائها وبناتها، في لبنان وسوريا والعراق والأراضي المقدسة والأردن ومصر وتركيا وبلاد الانتشار، في أوروبا والأميركتين وأستراليا، وذلك بِهَدي أنوار روحه القدوس، وبشفاعة أمّنا مريم العذراء سيّدة النجاة، ومار أفرام السرياني ملفان الكنيسة الجامعة، والطوباوي مار فلابيانوس ميخائيل، وجميع القديسين والشهداء، آمين.
|