الصفحة الرئيسية البطريركية الأبرشيات الاكليريكيات الرهبانيات الأديرة ليتورجيا
 
التراث السرياني
المجلة البطريركية
المطبوعات الكنسية
إتصل بنا
كلمة صاحب السيادة مار أفرام إيلي وردة في رتبة توليته وتنصيبه مطراناً لأبرشية القاهرة ونائباً بطريركياً على السودان، القاهرة – مصر

 

    يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للكلمة الروحية التي ألقاها صاحب السيادة مار أفرام إيلي وردة، في رتبة توليته وتنصيبه مطراناً لأبرشية القاهرة ونائباً بطريركياً على السودان، والتي ترأّسها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي، وذلك مساء يوم الجمعة 7 تشرين الأول 2022، في كاتدرائية سيّدة الوردية – حيّ الظاهر، القاهرة، مصر:

 

    "أشكر الرب اليوم الذي بعنايته وتدبيره اختارني أنا الضعيف في بشريتي والقوي به، أن استلم مقاليد هذه الأبرشية المباركة. لقد قبلت هذه المهمة الجليلة من دون أن أطرح السؤال إذا كان هذا المكان يناسبني أم لا، لأني على يقين بأن الله اختار وقرر، ليكن اسم الرب مباركاً، لأن فرحتي هي هو وكلُ من ألتقي به، فَهُو فرحتي وسعادتي، إذ أني لا أتوق إلى طموحاتشخصية بل إلى خدمة أبرشيتي بحكمة وعزم ومحبة حقيقية بكل ما يهبني الرب من نعم ضرورية لهذه الرسالة الجليلة.

 

    لله اسم واحد لا غير، يدعى المحبة اللامتناهية، المحبة التي لا بداية لها ولا نهاية، المحبة الأصيلة والحقيقية، التي لها وجه إلهي متجسد، يدعى الرب يسوع المسيح، عمانوئيل، الله معنا، وإذا كان الله معنا فمن علينا، وعندما نختبر ونعيش هذا الوجه، الذي هو وجه كل إنسان، وبخاصة المتألم والمعذّب منه، الذي يعكس هذا الوجه الحي، فلا شيء يفصلنا عنه، لا الاضطهاد ولا الضيق ولا الجوع ولا السيف ولا الحرب ولا حتى الموت. 

    وجه الحب هذا لديه أداة واحدة ألا وهي الصليب المقدس، صليب المجد، صليب الخلاص الذي به نكتشف ونختبر ونعيش معاني ومضمون الحب الإلهي. فهو قبل كل شيء علامة الانفتاح والتلاقي والاحترام، علامة التضحية والبذل وعطاء الذات، علامة المسؤولية والالتزام والأمانة، علامة الحق والعدل والمساواة، علامة التواضع لئلا نتكبر ونتباهى بأنفسنا، فنتعالى على الآخرين، فتتحوّل العلاقة من صديق إلى صديق إلى سيّد وعبد، سبب كل استعباد وذل وقهر وعذاب وخراب وثورات، فالصليب هو علامة التعزية والشفاء والخلاص. ألَم يَقُل معلمنا الإلهي إنني لم آت لأدعو الأصحاء بل المرضى؟، وحده الله صالح هو وكلنا خطأة، أي مرضى متألمين، مجروحين. نعم بالصليب أراد الله أن يدين الخطيئة لا الخاطئ، أن يدين الظلم لا الظالم، أن يحكم على المرض ويخلص المريض. نعم أحبائي هذا هو إيماننا ورجاؤنا، وهذه هي محبتنا التي لا تقبل أية مساومة أو أي تحيزُّ. هذا هو الإنجيل المقدس، البشرى السارة لخلاص وفرح الجميع، الذي من نبعه أستقي دوما حياتي واليوم مهامي الاسقفية في التعليم والتدبير والتقديس، والعناية بإخوتنا وأخواتنا، دون تمييز، وخاصة بالفقراء والمرضى والارامل واليتامى والمعذبين والمقهورين وذوي الحاجات الخاصة، لأنني، كما يقول الرب يسوع في الإنجيل، لن أدخل اليوم هذه الحظيرة، هذه الأبرشية المباركة كلص وسارق، أو كأجير، وإنّما كالراعي الصالح الذي يدخل من الباب الرئيسي على مرئ من الجميع، لا للتباهي والتفاخر، لأنني أرسلت للجميع، فأعرف خرافي وخرافي تعرفني، وأبذل نفسي من أجلها، وليس فقط لأجلها وحدها، وإنما من هم خارجها، لم يتعرفوا عليها بعد، فنبلغ إلى غاية حياتنا ومسيرتنا أن نكون رعية واحدةفي تدبير ورعاية الراعي الواحد. 

 

    واسمحوا لي الآن أن أشيد بالذكر الحسن أسلافي الأحبار الأجلاء الذين خدموا هذه الأبرشية، حبيبة الله، بقلب الراعي الصالح، فإني أشعر اليوم بحضورهم الروحي معي، فهم لي منذ هذه اللحظة السند الكبير بسهرهم علي لمتابعة المهام الاسقفية التي مارسوها بكل مثالية وتفان وروحانية وتواضع، فبفضلهم استلم اليوم مقاليد هذه الأبرشية لأكمل ما بدأوا به وأسير على خطاهم، فهم تعبوا وافنوا حياتهم  في الخدمة، وهم المثلثو الرحمات : مار اقليميس ميخائيل بخاش، وأخوه مار ربولا يوسف (رزق الله) بخاش، ومار باسيليوس بطرس (شارل) هبرا، ومار باسيليوس موسى داوود (البطريرك والكاردينال فيما بعد) والذي كان له الدور الكبير في تنظيم وتطوير وازدهار هذه الأبرشية المباركة من جميع النواحي الروحية والراعوية والرسولية والخيرية والإستشفائية والعمرانية والإنسانية والاجتماعية، ومار اقليميس يوسف حنوش. رحمة الله العادلة تشملهم وتكللهم بأعمالهم الطيبة، كل واحد بحسب النعمة والوزنة التي أعطيت له، فأثمروا بها ثمار الملكوت السماوي. أريد هنا أن أنحني بكل إجلال ورهبة أمام المثلثي الرحمات أصحاب الغبطة بطاركة كنيستنا السريانية الكاثوليكية، للاهتمام البالغ بجماعتنا السريانية الكاثوليكية في أصقاع مصر الحبيبة، والسودان العزيز، حيث كانت حتى سنة ١٩٦٥ نيابة بطريركية، في عهدة ورعاية السيد البطريرك مباشرة، للإهتمام بأحوال وحاجات أبنائهم وبناتهم الذين نزحوا من أراضيهم وديارهم وأتوا بلاد الانتشار، منهم من نزح إلى مصر المضيافة، منوّها أنّ أوّل جماعة كاثوليكية وجدت في مصر بعد الاتحاد بالكرسي الروماني، كانت جماعتنا السريانية، والتي زادت أعدادها خاصة بعد المجازر الشنيعة والظلم الذي نزل بهم دون رحمة من الأيادي الغادرة، المجرمة، ليؤمّنوا لهم الخدمة الروحية والراعوية مشجعين إياهم على الثبات في إيمانهم القويم والتمسك بهويتهم وبتراثهم السرياني العريق، تراث آبائنا القديسين، وهنا أريد أن أحيي بكل إجلال ووقار صاحب الغبطة مار إغناطيوس يوسف الثالث يونان، بطريركنا الكلي الطوبى، للدور الأبوي والراعوي البالغ الأثر، وللشجاعة والجرأة المميزتين للمطالبة بحقوق أبنائه وبناته في أرض الآباء والاجداد من دون تعب أو كلل أو تراجع. أشكركم يا صاحب الغبطة لكل ما قدمتموه وتقدموه في سبيل استمرارية كنيستنا السريانية الكاثوليكية ورسالتها وإشعاعها في العالم، وأشكركم خاصة لترؤسكم اليوم هذا الاحتفال المقدس وتسليمي مقاليد هذه الابرشية، وأشكر من عمق القلب كل من رافقكم من أصحاب السيادة، إخوتي الأساقفة الأجلاء، والوفد المرافق لكم من الدائرة البطريركية، وخاصة من أتى منهم صابرين على العقبات التي واجهوها، مصرّين على المجيء، متكبدين عناء السفر، ليشاركونني فرحتي اليوم، معبّرين لي عن محبتهم الاخوية وصلواتهم ودعمهم لرسالتي الجديدة. بارككم الرب جميعا بكل عطية ونعمة روحية لمتابعة المسير. واسمحوا لي أحبائي أن أوجه بشكل خاص كل الشكر والامتنان الكبير لأخي وصديقي، النائب البطريركي في القدس، سيادة أخي المطران مار يعقوب أفرام سمعان، لكل المحبة والطيبة والسهر والتدبير الحكيم المثمر في إدارة وترميم هذه الأبرشية وتنظيم مؤسساتها كمدبّر بطريركيّ على هذه الأبرشية المباركة والنيابة البطريركية على السودان، طوال فترة شغور كرسيها الأسقفي منذ أكثر من سنتين. فلك مني ايها الأخ الحبيب كل المودة والتقدير والاحترام، وكافأك الرب يسوع، رئيس الأحبار، لكل أتعابك وجهودك الجبّارة التي نالت إعجاب وتقدير الجميع. كما أتوجه بالشكر الجزيل والإمتنان لكل من أسعدني وشرّفني اليوم في احتفال توليتي من أصحاب السيادة ممثلي أصحاب الغبطة، وأصحاب السعادة والسيادة من مختلف الطوائف المسيحية وغيرها وممثليهم، وبخاصة صاحب السعادة السفير البابوي وسفير بلدي لبنان المجروح والمتألم، لكل الآباء الكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات، والأهل والأصدقاء الذين استطاعوا المجيء من قريب ومن بعيد، ومن منهم لم تسنح لهم الظروف للحضور الجسدي ولكن الحاضرين معنا بوحدة القلب والروح، ليغمروني جميعا بمحبتهم وعطفهم ومودتهم وصلواتهم، وأخص بالذكر والدتي الحبيبة كلاديس، الحاضرة معنا، الساهرة دوما علي، والتي تبث فيّ الحياة في كل لحظة بعاطفتها وحنوها وتضحياتها التي لا حدّ لها، لأبقى دوما سعيدا في حياتي وثابتا في إيماني وأمينا في رسالتي، وإخوتي ملائكتي الحرّاس الذين يغمرونني بمحبتهم الفياضة وعنايتهم الدؤوبة ودعمهم وعطاءاتهم التي لا تنضب، ومن غادروا هذه الفانية أختي ووالدي وأخي، وهم أحياء أبدا في رحمة وحنوّ الله، يرافقونني دوما في مسيرتي، شفعاء لي عند أبي الأنوار.   

 

    يقول الرب يسوع "اسألوا تعطوا اطلبوا تجدوا اقرعوا يفتح لكم" 

    بهذا يُظهر المعلم الإلهي الدعوة السامية لكل إنسان منذ نعومة أظافره في البحث عن الحقيقة والأنسنة والعلم والمعرفة واكتشاف الجمال والابداع واكتناز الفضائل والقيم، وهذا لا يتم إلاّ عبر المؤسسات التربوية. وأريد هنا أن أحيي من صميم القلب وأعبر عن شكري العميق للجسم الإداري والتربوي والتعليمي والطلابي في مدرستنا الفاضلة، مار ميخائيل. أدامكم الرب جميعا في هذه الرسالة السامية وبارك بشفاعة الملاك ميخائيل، رئيس الملائكة، كل جهودكم واتعابكم لتنشئة الطلبة، رجال ونساء الغد، لمجتمع حضاريّ أفضل، بمزيد من الحب، ومن العدل، ومن الإنسانيّة، حيث الأمن والسلام والإستقرار والإزدهار وغبطة الحياة.

 

    اليوم، في حفل تنصيبي على هذه الابرشية المباركة، يُصادف فيه عيد  سيدة الوردية، شفيعة هذا الكرسي الأبرشي، الذي فاح عطر بتوليتها، وطهارتها، وقداستها، وهي الفتاة النقيّة التي اصطفاها الله، لتكون أُماً لكلمته الإلهية المتجسد، الرب يسوع المسيح، الذي جعلها أماً للكنيسة الجامعة، كونها جسد المسيح السري،  وهي الحبل بلا دنس، ومنحها نعمة خاصة، ان تشارك آلام ابنها الوحيد الخلاصية، والتي تسهر على الكنيسة كمثال أعلى للتلميذ الأمين والحكيم والحرّ والمطيع، الذي بحرارة إيمانه يميّز إرادة الله فيختارها بحرية تامة، ويقول دوما نعم لهذه الارادة، كمريم، بقلب ثابت، وثقة لا تتزعزع، مهما كانت المخاطر والتحديات والعقبات، لأن الكلمة الأخيرة هي للقائم والمنتصر على الموت، ومعه نرفع رؤوسنا لان خلاصنا قد اقترب. 

 

    "افعلوا ما يأمركم به"، هذا ما قالته العذراء مريم للخدام في عرس قانا الجليل حيث نفدت خمرة الحب والفرح والشراكة، ولكن لن يفت الأوان، فالرجاء لا يزول ولا يخيب المؤمن. عين ام الكنيسة وأمنا السماوية، العذراء مريم، ساهرة دون نعاس وانقطاع، لتحمي أبناءها وبناتها من اندساس أيادي الشر والغدر والتفكيك، وخاصة تفكيك المؤسسة الزوجية والبيتية، فأريد هنا أن أوجه كل التحية والامتنان والتقدير لكهنة أبرشيتي العزيزة، ابونا ميشال، ابونا مانوللو، ابونا شفيق وابونا سالفاتوري، هؤلاء الآباء  الخدام الصالحون والنشيطون والأمناء، لحسهم الروحي والراعوي المميز بالمحبة والعطاء والتضحية والتفاني، واضعين خدمتهم تحت أنظار وسهر وعناية أمنا العذراء مريم سيدة الوردية وشفاعتها، و وأوجه أيضا شكري وتقديري للشمامسة والعاملين في خدمة هذه الابرشية المباركة، من متطوعين وموظفين، وخاصة اللجان المختلفة الخيرية، والإستشفائيّة (المستوصف والعيادة الطبيّة)، والكشفية، والتعليم المسيحي، والجوقة، والأخويات، والشبيبة، والحركات الرسولية، والقيمين على الاوقاف، لكم أقول من عمق القلب شكرا، ومعكم سنتابع مسيرتنا الخلاصية بالتعاون المستمر المنظم وبالمواظبة وبكل فرح وتهليل. 

 

    والآن مسك الشكر لكم يا أبناء وبنات أبرشيتي المباركة، أنتم الذين قد استقبلتموني كصورة مسبّقة لعرس الملكوت، بحفاوة، بالطبول والزغاريد، وقبلتموني في قلوبكم النيّرة، الطيّبة، حيث كنوز الصالحات، كأب ورأس وراع. من دونكم الحركة تبقى حركة ولكن دون بركة ودون ثمارا تليق بالملكوت. سنتعرّف على بعضنا البعض ونبني جسور المحبة والأخوة والثقة والإحترام، فنعمل ونخدم سويّة يدا بيد بروح الوحدة والألفة، كلّ بحسب موضعه، كموقع الرأس وتموضع باقي أعضاء الجسد، الذي يعمل ويفيض حياة باللحمة والإنسجام، فنكون الشهادة الصادقة والحقيقية لحضور الرب يسوع المخلّص والمنجّي، في وسط عالم تعصف فيه الرياح العاتية، الهوجاء، المخرّبة والمدمّرة، فنعمل على إعلاء بنيان هذه الأبرشية لمجد الله الذي لا يمكن أن يتمجّد إلا في خدمة وخلاص إخوته وأخواته البشر، أبناء وبنات الله.  

 

    فيا سيدة الوردية، فمعك نريد أن نتأمل محطات التدبير الخلاصّي الذي حققه ابنك بسرّ موته وقيامته المجيدة، من خلال أسرار ورديتك الأربع : الفرح، والحزن، والمجد، والنور. فنعرف أن نفرح معك، ونحزن معك، ونمجد معك، وندخل مثلك في عمق النور السماوي حيث كمال الحب وتمام العلم والمعرفة، والوحدة التي لا تنفصم والشراكة الأخوية التي لا تنقطع، فتولد الخليقة الجديدة، متحررة من آلام المخاض، بكل بهائها وجمالها وقمة مجدها الأبدي. آمين".

 

إضغط للطباعة