يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال القداس الحبري الرسمي الذي احتفل به غبطته بمناسبة عيد مار أفرام السرياني شفيع كنيستنا السريانية وملفان الكنيسة الجامعة، وذلك مساء يوم السبت 25 شباط 2023، في كاتدرائية مار جرجس التاريخية، الخندق الغميق – الباشورة، بيروت:
موعظة غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان
في عيد مار أفرام السرياني 25/2/2023
كاتدرائية مار جرجس، بيروت
==========
- ترحيب بالإيطالية بالسفير البابوي Paolo Borgia وبمساعده Giovanni Bicchieri
- الترحيب بالمشاركين، أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات، والمؤمنين الأحبّاء
"أطلبوا أولاً ملكوت الله وبرّه" (متّى 6: 33)
يدعونا الرب يسوع في موعظته الشهيرة على الجبل حسب الإنجيلي متّى، أن نتحرّر من ربقة المادّة، وننطلق في عالم الروح، حيث يعدنا خالقنا ومدبّرنا بالسعادة والبرارة، وهو يحثّنا على السعي نحو الملكوت كهدفِ حياتنا الأسمى. وهذا هو معنى الصوم، مسيرةٌ روحية نحو الملكوت، تحثّنا عليها الكنيسة كي ننقّي أفكارنا ونلطّف أقوالنا ونمارس المسامحة وأعمال المحبّة والرحمة، فنحيا حياة "البرّ والسلام والفرح في الروح القدس" (راجع رومانيين 14: 17).
لقد جعل الرب يسوع الأولوية في حياة الإنسان أن يطلب ملكوت الله، وكأنّ به يقول لتلاميذه، ولنا نحن أيضاً معهم: كونوا منشغلين في حياتكم بأمور الله، والله نفسه سيتولّى أموركم. أنظروا إلى زنابق الحقل، كما يقول يسوع، فإنّها لا تغزل، ولو أنّها تعود وتفنى بعد أيّام، إلا أنّها بجمالها تشهد لجمال الله وبرّه. فإن كانت غاية حياتنا ملكوت الله وبرّه، فلا بدّ من أن نعيش القناعة في سعينا للطعام والكساء، وأن نبقى دوماً متّحدين مع الرب، وأن نسعى لخدمة كنيسته، ناثرين حولنا البسمة والرجاء، لا سيّما في زمن التحدّيات والآلام.
أيّها المبارَكون بالرب
نجتمع اليوم في كاتدرائية مار جرجس التي استطعنا بعونه تعالى أن نرمّمها ونكرّسها قبل أربعة أشهر، لنحتفل بعيد مار أفرام شفيع كنيستنا، واحدٌ من أشهر آباء الكنيسة الأولين، الذي سمّاه البابا بنديكتوس الخامس عشر عام 1920، ملفاناً أي معلّماً للكنيسة الجامعة شرقاً وغرباً. شمّاسُ نصيبين، أي الخادم، عاش سماءه على الأرض، وضحّى بكلّ شيء لنيل ملكوت الله وتكرّسِهِ كلّياً للكنيسة.
عندما نتأمّل حياة هذا القديس، نعود بالذاكرة إلى القرن الرابع الميلادي، ونجد الكنيسة تسعى جاهدةً لتخطّي مآسي الاضطهادات في القرون الثلاثة الأولى، بعد أن قدّمت من الشهداء ما لا يحصيه عدٌّ، مُشدِّدةً إيمانَ أبنائها وبناتها على الأرض، كي يشاركوا الكنيسة الممجَّدة في السماء. في هذه الأجواء وُلِد مار أفرام في نصيبين (اليوم المدينة التركية المقابلة للقامشلي في سوريا)، وتتلمذ على يد أسقف مدينته مار يعقوب النصيبيني، الذي وشّحه بالإسكيم الرهباني، ورسمه شمّاساً. واصطحبه إلى مجمع نيقية المسكوني الأول عام 325، حيث دافع عن الكنيسة وصان إيمانها، والتقى كبار الآباء يومذاك.
بعدئذٍ عيّنه القديس يعقوب معلّماً في مدرسة نصيبين، نعم، في نصيبين، تلك المدينة حيث كانت هناك جامعة قبل أكثر من 1700 سنة، وإذا كنّا اليوم نفتخر بجامعاتنا، فنحن ذوو الثقافة والحضارة السريانية أسّسنا جامعات قبل جامعات الغرب التي يفتخرون بها. ثم سلّم يعقوب النصيبيني تلميذه أفرام إدارة هذه الجامعة. وعندما احتلّ الفرس المدينة وأخضعوها لحكمهم سنة 363، غادرها مار أفرام إلى الرها حيث أسّس مدرسةً لاهوتية، وعاش تكرّسه كاملاً للرب والكنيسة.
لم تكن الرهبانية لدى مار أفرام صلاةً وعبادةً ونسكاً فحسب، بل أيضاً خدمةً متفانيةً للقريب، تذكّرنا بما نسمّيه اليوم ب"الحركات الرسولية" المتعدّدة المواهب من تكرُّسٍ للحياة الروحية والتأمّلية والرسالة وأعمال الرحمة. كما نجده يجمع الصدقات والمعونات من الأغنياء لمساندة المعوزين، لا سيّما بين الذين أُرغِموا على النزوح معه. وبتفشّي وباء الطاعون، بادر إلى إنشاء ملجئٍ، وشرع يعتني بالمرضى، حتّى أصيب هو نفسه بهذا الوباء. وكان أوّل من أسّس جوقة ترتيل من العذارى، ممّا يدلّ على تقديره لمكانة المرأة في الكنيسة، وعلى سعة فهمه العميق للكتاب المقدس.
هذا هو مار أفرام، إنّه "شمس السريان" و"كنّارة الروح القدس"، كما دعاه القديس يوحنّا الذهبي الفم. وها هي الكنيسة تترنّم بالألوف المؤلَّفة من أناشيده وأشعاره، وتغتني بمؤلّفاته وعظاته وتفاسيره للكتاب المقدس، حتّى قال أحدهم: "لو فُقِدت نسخة الكتاب المقدس بالسريانية، لاستطعنا جمعها ثانيةً من مؤلّفات مار أفرام".
في إرشاد البابا بندكتوس السادس عشر، هذا البابا الذي كان متعمّقاً في اللاهوت والتاريخ الكنسي وعلم الآباء، ذكر أنّه عادةً يُعتبَر الإيمان المسيحي نتيجةً لحضارة وثقافة أوروبا، لكنّه اعتبر أنّ الإيمان المسيحي أتى من العهد القديم ومن الثقافة الساميّة، ومار أفرام السرياني هو أحد أبرز أولئك الذين عبّروا لنا عن الكتاب المقدس بلغته وبثقافته الأصلية السريانية (مقابلة الأربعاء 28 تشرين الثاني 2007).
أيّها الأحبّاء
في كنيستنا اليوم رهبانيتان أفراميتان بحاجة ماسّة إلى دعواتٍ للتكرُّس الرهباني. الأولى "الرهبان الأفراميون" الذين يعود تأسيسهم إلى مطلع القرن الثامن عشر، عندما قَدِم شبّانٌ من حلب وماردين إلى لبنان ليعيشوا تكرّسهم الرهباني، فأسّسوا ديراً لهم في الشبانية - المتن. هذا الدير أصيبَ جرّاء الفِتن الطائفية بنكستين، الأولى عام 1840 والثانية عام 1860 حيث قُتِل بعضُ الرهبان وطُرِد آخرون، فتوجّهوا إلى ماردين حيث أسّسوا "دير مار أفرام" الذي تهجّر رهبانه في زمن السوقيّات. وبعونه تعالى، استطعنا أن نسترجع كنيسة الدير ونرمّمها، واحتفلنا بتكريسها في تشرين الأول للعام المنصرم، وذلك بمشاركة أساقفة وكهنة ومؤمنين تجاوز عددهم المئتين، ولكنّ الجزء الأكبر من الدير لا يزال مُحتلّاً.
كما استطعنا مؤخَّراً أن ننهي ترميم وتأهيل دير مار أفرام في الشبانيّة في لبنان، وسيعود إليه الرهبان الأفراميون ليسكنوا فيه ويقدّموا الشهادة الحقيقية للرب يسوع والكنيسة، أمانةً للذين أسّسوا هذا الدير وكانوا روّاداً ميامين، جاؤوا كي ينشروا المحبّة بين مختلف فئات المجتمع. وكذلك فإنّ الرهبان الأفراميين يخدمون في العراق أيضاً في دير مار بهنام في قره قوش - بخديده.
أمّا الرهبانية الثانية فهي "الراهبات الأفراميات، بنات أمّ الرحمة"، التي تأسّست في ستّينيات القرن الماضي، للتكرّس في تربية النشء في الرعايا، ولديها إرسالياتها في لبنان وسوريا والعراق.
واجبنا أن نصلّي دوماً من أجل الدعوات الكهنوتية والرهبانية. نحن نعلم كم هي الدعوات في تناقُص، وذلك بسبب روح العلمنة، وانتشار المادّية والنظرة الخاطئة للحرّية، وهذه تيّارات مضلِّلة تأتينا بشكل خاص من الغرب الذي يبتعد عن روح الإنجيل، بادّعائه أنّه من الضروري التأقلم مع روح العالم.
ولا يمكننا أن نغفل عن التحدّيات التي نجابهها في لبنان، حيث الأزمة المخيفة معيشياً وسياسياً، لا سيّما إحجام النواب المنتخَبين من الشعب عن القيام بدورهم وواجبهم الوطني بانتخاب رئيس جديد للجمهورية على الفور، ومن ثمّ تشكيل حكومة جديدة تنهض بالبلاد، اقتصادياً وحياتياً. فللأسف كلّ مسؤول يتغنّى بحزبه ويعتبر أنّه الحزب الأفضل والوحيد الذي يدافع عن خير لبنان.
ولا بدّ لنا من أن نشير بألم إلى ما تعانيه أغلبية الموطنين من المعيشة الموجعة، إذ أنّ هناك من استطاع أن يهرّب بشطارة أمواله، وبقينا للأسف ننتظر الرحمة، خاصّةً وأنّ المصارف تستغلّ الذين أودعوا أموالهم لديها، وهي لا تزال مغلقة حتّى اليوم.
لذا نناشد جميع المسؤولين أن يحكّموا ضميرهم وحسّهم الوطني، كي ينتظم عمل المؤسّسات، ويعود لبنان إلى سابق عهده من التطوّر والازدهار، هذا البلد الذي كان يوماً صلة الوصل بين الشرق والغرب وسويسرا الشرق.
أمّا في سوريا، فجاءت نكبة الزلزال المروّعة لتزيد المآسي والصعوبات التي يعانيها الشعب، اقتصادياً ومعيشياً.
وفي العراق، حيث نلمس تحسُّن الأوضاع، راجين أن يستمرّ هذا الانفراج فيه، وينعكس على حياة المواطنين.
لنتذكّر على الدوام قول مار بولس الذي سمعناه: "... لِنُظهِرْ أنفُـسَنا في كلِّ شيءٍ أنّنا خُدّامُ اللهِ بالصبر الكثير، بالشدائد والفاقة، بالحَبس والجَلدِ، بالوثاق والفِتَن والتعب، بالسهر والصوم...".
لا ننسى أن نشكر الذين تعبوا في تنظيم هذا الاحتفال من الكهنة والراهبات والحركات الرسولية والشمامسة والجوقة، وتلفزيون نورسات، وندعو لهم جميعاً بالخير والبركات على الدوام.
ويطيب لنا أن نتوجّه بالمعايدة إلى أبنائنا وبناتنا السريان في لبنان وفي شرقنا الغالي وبلاد الانتشار. نهنّئ خاصّةً أبناءنا الرهبان الأفراميين وبناتنا الراهبات الأفراميات، وكلّ من يحمل اسم أفرام، ونهنّئكم جميعاً.
كما نسأل الله أن يحمي بلادنا والعالم كلّه من خطر الزلازل والكوارث الطبيعية والأمراض والأوبئة، ويرحم جميع ضحايا الزلزال في تركيا وسوريا، ويشفي المصابين، ويعضد المتضرّرين، ويبارك كلّ من يساهم في تقديم المساعدة لمن هم في حاجة.
أحبّائي،
فلنرفع قلوبنا إلى الله عاملين بما يوصيه مار أفرام السرياني الملفان تلاميذَه والمؤمنين في كلّ جيل: «ܗܘܰܘ ܐܰܡܺܝܢܺܝ̈ܢ ܒܰܨܠܽܘܬܳܐ ܐܺܝܡܳܡܳܐ ܘܠܶܠܝܳܐ... ܕܰܐܝܢܳܐ ܕܡܰܚܶܒ ܠܳܗ̇ ܣܰܓܺܝ܆ ܡܶܢܳܗ̇ ܡܶܬܥܰܕܰܪ ܒܰܬܪ̈ܰܝܗܽܘܢ ܥܳܠܡ̈ܶܐ»، وترجمتها: "كونوا مواظبين وأمناء على الصلاة ليلاً ونهاراً... لأنّ الذي يحبّها ويتقيّد بها، تعينه في العالمين".
ليقبل الرب يسوع القائم من بين الأموات صومنا وصلاتنا وما نقوم به من أعمال محبّة ورحمة، تحت حماية والدة الله مريم العذراء، سيّدة النجاة، وبشفاعة مار أفرام ومار جرجس وجميع القديسين والقديسات.
وليبارككم الثالوث الأقدس: الآب والابن والروح القدس الإله الواحد، آمين.
|