غبطة أبينا البطريرك يونان: "يحقّ لنا، نحن المسيحيين، بما أنّ لنا هذه المسؤولية، كرسي رئاسة الجمهورية، أن نتساءل لماذا هذا الانتظار كي يظلّ من تبقّى من شبابنا في الوطن يفكّرون بالهجرة، ويستصدرون جوازات السفر، ويستدينون كي يسافروا... فالعالم كلّه يستهزئ بنا لأنّنا لا نعرف، خاصّةً الزعماء المسيحيون لا يعرفون أن ينسوا مصالحهم، أكانت شخصية أو عشائرية أو حزبية، حتّى يُجمِعوا على اختيار شخص كفوء ومناسِب لرئاسة الجمهورية، إنقاذاً للبنان".
في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الجمعة 7 نيسان 2023، احتفل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، برتبة السجدة للصليب ودفن المصلوب يوم الجمعة العظيمة، وذلك في كنيسة مار بهنام وسارة، الفنار – المتن، جبل لبنان.
عاون غبطتَه المونسنيور حبيب مراد القيّم البطريركي العام وأمين سرّ البطريركية، والأب ديفد ملكي كاهن رعية مار بهنام وسارة، والأب كريم كلش أمين السرّ المساعد في البطريركية. وشارك في الرتبة بمحبّة أخوية صاحب النيافة مار ثيوفيلوس جورج صليبا مطران أبرشية جبل لبنان وطرابلس للسريان الأرثوذكس، بمشاركة الراهبات الأفراميات، والشمامسة، وجموع غفيرة من المؤمنين من أبناء الرعية.
خلال الرتبة، أُنشِدَت الترانيم بلحن الحاش (الآلام). وبعد القراءات والإنجيل المقدس، ألقى غبطة أبينا البطريرك موعظة الجمعة العظيمة، بعنوان "إنّ كلمة الصليب عند الهالكين جهالة، أمّا عندنا نحن المخلَّصين فهي قوة الله"، موجّهاً في مستهلّها الشكر إلى "صاحب النيافة المطران مار ثيوفيلوس جورج صليبا، والذي يشاركنا دوماً في صلواتنا ورُتَبِنا عندما تسمح له الفرص، نشكره من كلّ قلبنا، ونهنّئه أيضاً لأنّه منذ أيّامٍ قليلةٍ احتفل باليوبيل الذهبي لتأسيس أبرشيته واستلامه رعايتها، وأيضاً للمؤلَّفات التي كتبها وأبدع فيها أمانةً للتراث السرياني"، مثمّناً "أداء جوقة الترتيل في الرعية للترانيم السريانية العريقة في هذه الرتبة".
ونوّه غبطته إلى أنّنا "نحن في هذا اليوم المبارك الذي نسمّيه الجمعة العظيمة، نأتي إلى الكنيسة كي نسجد للصليب الذي به الرب يسوع خلّصَنا. نعم الصليب سرّ لا يقدر كلّ واحد أن يفهمه، فكيف أنّ كلمة الله، الإله والإنسان، أراد ونوى أن يُصلَب فداءً عن العالم، عنّا نحن البشر. فالبارحة كنّا في خميس الأسرار، في العلّية التي نسمّيها علّية الأسرار، حيث أسّس يسوع سرّ الإفخارستيا، وقال لتلاميذه: هذا جسدي وهذا دمي، أعطيكم إيّاهما لأنّي سأتقدّم إلى الفداء يوم الجمعة. وفعلاً هذا ما حصل، مع أنّ التلاميذ لم يفهموا ما كان يسوع يقوله لهم، وما كان هذا التدبير الخلاصي، لم يستطيعوا أن يفهموا ذلك إلا بعد قيامته من بين الأموات".
ولفت غبطته إلى أنّه "لا يزال من الصعب جداً علينا اليوم أيضاً أن نفهم الصليب، ومع الصليب الآلام، ومع الآلام الموت. لكنّنا كلّنا ندرك أنّنا نعيش على هذه الأرض الفانية التي ليست كاملة، ونحن معرَّضون لمختلف أنواع الآلام، إن كانت نفسية أو شخصية أو معنوية، من قِبَل الآخرين، أو طبيعية بسبب الكوارث التي تحلّ بالطبيعة، أو التي يصنعها الإنسان الخاطئ، كما أنّنا دوماً مجرَّبون بهذه الأحداث الأليمة في العالم. لا يمكننا أن نغمض عيوننا أو أن نسدّ آذاننا، لأنّ هناك الكثير من الشرور التي تحمل الآلام للناس الأكثر ضعفاً والذين لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم".
وأشار غبطته إلى أنّ "الصليب بالنسبة لنا هو قوّة الله، لأنّ بالصليب يسوع خلّصنا. كما تعلمون، في بعض البلدان يشاركون يسوع في مثل هذا اليوم في آلامه حتّى الصلب، مثلاً في الفلبّين، البعض يتمثّلون بيسوع ويريدون أن يتمّ صلبهم، مع أنّ الكنيسة لا تقبل بذلك، لأنّ الصلب تمّ مرّة واحدة، ويسوع فدانا بذبيحة نفسه. فنحن نأتي ونصلّي ونطلب منه أن نشترك بآلامه روحياً، ونسأله أن يخفّف عنّا الألم كي نستطيع أن نتحمّله، ونطلب منه أن نجد في ذبيحة الصليب خلاصاً لنا وللكثيرين من المؤمنين في العالم".
وتطرّق غبطته إلى الأوضاع في لبنان، فقال: "جميعكم تعرفون الآلام اليوم في لبنان، وكم نعاني من هذا الوضع المخيف ومن هذا الجمود السياسي والانهيار الاقتصادي. الجميع يتكلّمون ويتساءلون كم هو سعر صرف الدولار اليوم بالنسبة إلى الليرة اللبنانية، وكيف سندفع الفواتير، وكيف سنستطيع أن نغذّي ونطعم عائلاتنا ونشتري الأدوية. لا لزوم لتكرار ذلك لأنّكم تعيشونه. لكن لنا الحقّ، نحن الذين نحبّ لبنان، أن نتساءل: لماذا هذا الجمود، وبشكلٍ خاص في عدم انتخاب رئيسٍ للجمهورية يشارك مع الآخرين في إيجاد الحلول. طبعاً لن يكون مثل الساحر ويحلّ المشاكل كلّها، لكن على الأقل سيجعل من هذا البلد مستقرّاً نوعاً ما، حتّى يقدر أن يتوصّل إلى حلّ بعض المشاكل، إن لم تكن كلها".
وتابع غبطته: "لا يمكننا اليوم أن ندّعي أنّهم من الخارج يؤثّرون علينا كيلا يتمّ انتخاب رئيس للجمهورية، بالطبع لا يوجد بلد معزولاً عن العالم وعن البلدان التي تحيط به، لكن يجب أن نعرف أنّ موضوع انتخاب رئيس الجمهورية متعلّق بالمسيحيين أولاً، ومتعلّق خاصةً بالطائفة التي عُهِد إليها بكرسي رئيس الجمهورية. ويجب أن تعرف هذه الطائفة كيف تنسى كلّ ما يفرّقها، وتتّحد برؤسائها الكنسيين والمدنيين والحزبيين، كي يجدوا الحلّ بشخصٍ يكون محايداً مع الجميع. أمّا الادّعاء أنّ لبنان هو بلد ديمقراطي ويسير وفقاً لنظام الأحزاب والسياسة الحزبية، فهذا نوعٌ من الحلم، لأنّ في منطقتنا، في لبنان وسواه من بلدان المنطقة، الطائفية هي التي تسيطر".
وأردف غبطته: "لذلك يحقّ لنا، نحن المسيحيين، بما أنّ لنا هذه المسؤولية، كرسي رئاسة الجمهورية، أن نتساءل لماذا هذا الانتظار كي يظلّ من تبقّى من شبابنا في الوطن يفكّرون بالهجرة، ويستصدرون جوازات السفر، ويستدينون كي يسافروا، حتّى أنّ مدارسنا مستمرّة في هذه الضائقة المخيفة، ولا نعرف كي نحافظ عليها، ولا كيف نستطيع أن نؤدّي واجباتنا تجاه المعلّمين والمعلّمات ونقبل التلاميذ".
وشدّد غبطته على أنّ "الموضوع إذاً هو بيد المسيحيين، وعندما يقرّ رأي المسيحيين على شخص نزيه وكفوء وغير حزبي يقدر أن يستلم هذه المسؤولية، لا بدّ وأن يفهم إخوتنا في الطوائف الأخرى هذا الوضع، وأن يساعدونا كي نتمكّن من إيجاد هذا الحلّ لرئاسة الجمهورية. لستُ برجل سياسي، ولكنّي أعرف وأسمع ما يجري، فالعالم كلّه يستهزئ بنا لأنّنا لا نعرف، خاصّةً الزعماء المسيحيون لا يعرفون أن ينسوا مصالحهم، أكانت شخصية أو عشائرية أو حزبية، حتّى يُجمِعوا على اختيار شخص كفوء ومناسِب لرئاسة الجمهورية، إنقاذاً للبنان".
وختم غبطته موعظته بالقول: "نعم نتحمّل الصليب كي نستطيع أن نشارك يسوع ونعانق آلامه وجراحاته، حتّى نقدر أن نكون حقيقةً تلاميذاً ليسوع وإخوةً له، لأنّ يسوع سلّم العذراء أمّه إلى يوحنّا الحبيب. ومنذ ذلك الوقت أصبحت أمّاً له فعلاً، لأنّه أخذها إلى بيته حسبما سمعنا من الإنجيل. نحن إذاً إخوة يسوع وأخواته، نحن أولاد مريم، نتضرّع إلى يسوع، بشفاعة والدة الإله مريم، أن يتحنّن على لبنان، ويشفق علينا وعلى شبابنا وأطفالنا، كي نستطيع حقيقةً أن نشارك الآخرين في خدمة بلدنا وازدهاره، بالطريقة الصحيحة، بالمحبّة والوفاق والسلام".
وبعد الموعظة، أنشد غبطته بالسريانية نشيد السجود للصليب: "ܣܳܓܕܺܝܢܰܢ ܠܰܨܠܺܝܒܳܐ سوغدينان لصليبو" (فلنسجد للصليب الذي به خُلِّصنا، ومع لصّ اليمين نهتف: أذكرنا في ملكوتك). ثمّ جثا غبطته وقبّل الصليب، وفعَل مثله صاحب النيافة والآباء الكهنة، فيما الجميع يردّدون النشيد عينه بالسريانية والعربية. وبعد ذلك قام غبطته بغسل المصلوب بماء الورد، ونَضَحَهُ بالزيت، ورشَّ عليه البخور والطيوب.
بعدئذٍ أقيم زيّاحٌ بنعش المسيح المصلوب داخل الكنيسة، ثمّ أقام غبطته رتبة دفن المصلوب واضعاً إيّاه في قبرٍ خاص تحت المذبح، وختمَه وبخّره.
وفي الختام، منح غبطته المؤمنين بركة آلام الرب يسوع وموته الخلاصي بالصليب المقدس.
|