يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال القداس الحبري الرسمي الذي احتفل به غبطته بمناسبة عيد القديس مار أفرام السرياني، شفيع كنيستنا السريانية وملفان الكنيسة الجامعة، وذلك مساء يوم السبت 17 شباط 2024، في كاتدرائية مار جرجس التاريخية، الخندق الغميق – الباشورة، بيروت:
موعظة غبطة البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان
في قداس عيد مار أفرام السرياني 2024/2/17
كاتدرائية مار جرجس، بيروت
"حينئذٍ يضيء الأبرار كالشمس في ملكوت أبيهم" (متى 13: 43)
صاحب الغبطة والنيافة أخانا الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، بطريرك أنطاكية وسائر المشرق للموارنة
صاحب السيادة المطران باولو بورجيا، السفير البابوي في لبنان
أصحاب النيافة والسيادة ممثّلي أصحاب القداسة والغبطة الإخوة البطاركة
أصحاب النيافة والسيادة المطارنة الأجلاء
الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات الأفاضل
أيّها الإخوة والأخوات المبارَكون بالرب
يصف الرب يسوع حالة الأبرار الذين تحمّلوا ضيقات العالم وتحدّياته وغلبوه بالصبر والاحتمال، بأنّهم يضيئون بل يشعّون ويتلألأون كالشمس في ملكوت الله، وهذا أبلغ تعبير عن مشاركة الإنسان لله في مجده الأبدي. هذه الإضاءة لا تأتي من فراغ، بل هي ناتجة عن حياة البرّ والقداسة في خضمّ ظلمة هذا العالم، وهذا مصدر العزاء الذي يتوق كلّ مؤمن إلى نيله. مار أفرام هو أحد هؤلاء الأبرار الذين غلبوا العالم وتحدّياته، وها هو يضيء متلألئاً كالشمس في ملكوت الله.
يسرّنا أن نجتمع معاً في مساء هذا اليوم المبارك، السبت الأول من زمن الصوم الكبير، لنحتفل معاً بعيد شفيع كنيستنا السريانية وملفان الكنيسة الجامعة، القديس مار أفرام السرياني. فيطيب لنا أن نرحّب بكم جميعاً، بدءاً بأخينا صاحب الغبطة، وسيادة السفير البابوي، وأصحاب النيافة والسيادة والآباء والحضور جميعاً، من إكليروس وعلمانيين قادمين من جميع رعايا أبرشية بيروت البطريركية، ومن إرسالية العائلة المقدسة للمهجَّرين العراقيين في لبنان. ويزداد سرورنا إذ نُحيِي هذا الاحتفال السنوي للمرّة الثانية على التوالي في هذه الكاتدرائية التاريخية العريقة، المسمّاة على اسم القديس جرجس الشهيد العظيم، شفيع العاصمة بيروت العزيزة، هذه الكاتدرائية التي رمّمناها بعدما نالت منها يد التدمير والتخريب، فهُدِمت بالكامل خلال سنوات الحرب المشؤومة التي حلّت بلبنان، وبقيت مدمَّرةً لسنوات طويلة، إلى أن أعاننا الرب وأنجزنا إعادة بنائها، محافظين على طابعها الكنسي الأصيل، لتبقى شاهدةً لحضورنا السرياني المتجذّر في عمق لبنان الغالي وفي قلب عاصمته الصامدة.
نعم، أيّها الأحبّاء، لقد أضاء مار أفرام وتلألأ في ملكوت الآب السماوي بما حباه الله من فضائل وحياة زاخرة بالأعمال الجليلة:
هو ابن نصيبين الذي تلألأ بروحانيته السريانية الأصيلة التي زرعها في مدرستها وفي التلاميذ الذين تتلمذوا على يده، ثمّ حملها معه إثر الاضطهاد والتهجير إلى الرها، فأسّس مدرستها ناقلاً إليها العلوم والمعارف.
إنّه المتلألئ بتأمّله في الكتاب المقدس، وتعمّقه في دراسة أسفاره وتفسيرها، حتّى قيل إنّه لو فُقِدت نُسَخ الكتاب المقدس بأكملها، لتمكّنّا من جمعها من مؤلّفات مار أفرام.
تلألأ أفرام بنسكه وزهده وتكرُّسه الكلّي للرب، إذ قضى حياته بالصوم والصلاة، فقد تتلمذ على يد معلّمه القديس مار يعقوب أسقف نصيبين، ورافقه إلى حضور مجمع نيقية المسكوني الأول، حيث جهد الآباء لتثبيت الإيمان بالرب يسوع ومساواته لله الآب. ثمّ تابع أفرام مسيرة حياته، شاخصاً إلى النسك والزهد والتقشّف، بما حباه الله من تواضع ووداعة، ما حدا به إلى أن يبقى شمّاساً، إذ اعتبر نفسه غير مستحقّ لموهبة الكهنوت العظيمة التي تغنّى بها في أحد أشعاره، فوصف الكاهن بقوله:
ܟܳܗܢܳܐ ܪܰܒ ܡܶܢ ܡܰܠܰܐܟ̈ܶܐ ܘܰܡܥܰܠܰܝ ܡܶܢ ܢܽܘܪ̈ܳܢܶܐ الكاهن أعظم من الملائكة وأسمى من النورانيين.
ويتابع متأمّلاً بعظمة موهبة الكهنوت: ܥܰܠ ܦܰܓܪܳܐ ܫܰܪܝܳܐ ܢܽܘܪܳܐ ܘܥܰܠ ܟܳܣܳܐ ܫܰܠܗܶܒܺܝܬܳܐ܆ ܘܒܶܝܬ ܢܽܘܪܳܐ ܠܫܰܠܗܶܒܺܝܬܳܐ ܩܳܐܶܡ ܟܳܗܢܳܐ ܘܰܡܚܰܣܶܐ ها هي النار حالّة على الجسد واللهيب على الكأس، وما بين النار واللهيب يقف الكاهن مستغفراً عنه وعن الشعب الذي أُوكِل إليه.
تلألأ أفرام ملفاناً أي معلّماًللبيعة الجامعة، فقد أغنى الكنيسة قاطبةً بكتاباته، من ميامر، أي أشعار، ومداريش، أي أناشيد ونصوص مكتوبة. وهو الشاعر المُلهَم والمُتولّه بمديح العذراء مريم، لا بل إنّه المريمي بامتياز، وهو المدافع الصلب عن إيمان الكنيسة وعقائدها، والعاشق للغة السريانية، لغة الرب يسوع ووالدته العذراء مريم ورسله القديسين.
ولأهمّية تعاليمه وتأثيرها في حياة الكنيسة والمؤمنين، أعلنه قداسة البابا بنديكتوس الخامس عشر عام 1920 ملفاناً للكنيسة الجامعة، بناءً على التماسٍ من سلفنا الأسبق المثلَّث الرحمات البطريرك مار اغناطيوس أفرام الثاني رحماني.
تلألأ أفرام كونه أوّل من أسّس جوقة للفتيات، بغية تسبيح الله وتمجيده بالترنيم اللائق، فأعطى المرأة المكانة اللائقة التي تستحقّها في الكنيسة.
لم يُثنِ التبحّر بالعلم والفضيلة قديسَنا العظيم عن الاهتمام بالحياة الراعوية للمؤمنين، فتلألأ في هذا المضمار أيضاً، حيث هبّ لمساعدتهم إبّان محنة النزوح والتهجير من نصيبين إلى الرها، حتّى وجدوا فيه نِعْمَ الأب والأخ والسند الذي خفّف آلامهم وبلسمَ جراحاتهم، لا سيّما الفقراء والمعوزين والمرضى، فتماهى معهم إلى أن أصيب هو نفسه بداء الطاعون وهو يساعد في مداواة المصابين به، وفاضت روحه عابقةً بعطر القداسة.
وقد أودع أفرام تلاميذه وصيته الأخيرة، حثّهم فيها على المواظبة على الصلاة ليلاً ونهاراً، فلا يكونوا متكاسلين أو متهاونين، موصياً إيّاهم بدفن جسده في مقبرة الغرباء لشدّة تواضعه، وإقراراً منه بعدم استحقاقه أن يُدفَن تحت هيكل الله المقدس.
خلاصة القول، إنّ مار أفرام السرياني الذي أضاء في سماء الكنيسة متلألئاً ببرارته وقداسته، يُعَدُّ بلا منازع أحد أعلام السريان عبر العصور، وقد أُطلِقت عليه تسمية "كنّارة الروح القدس"، ولم يجارِه في هذا اللقب سوى القديس مار يعقوب السروجي في القرن السادس، وكلاهما تتغنّى الكنائس السريانية بكتاباتهما شعراً ونثراً، وترنّمها في صلواتها صباحاً ومساءً.
أيّها الأحبّاء،
فيما نحيي هذه المناسبة المقدسة، لا تغيب عن فكرنا الأوضاع العصيبة التي نتخبّط فيها في لبنان وبلدان عدّة في منطقة الشرق الأوسط، حيث تسود لغة العنف والحرب والقتل، بدل المحبّة والسلام.
فها هي الحرب المدمّرة قد فُرِضَت على سكّان الأراضي المقدسة، ولا سيّما قطاع غزّة، والذين يعانون الأمرَّين ويدفعون ثمن هذه الحرب الظالمة. نجدّد مناشدة جميع المعنيين من حكومات وشعوب، للعمل الجادّ على إحلال السلام والأمان في أرض السلام، بإطلاق سراح جميع الرهائن والوقف الفوري للحرب والعنف، وتأمين المساعدات والمقوّمات الأساسية لحياة السكّان، من إنسانية وطبّية.
وفي لبنان، نرى أنّ الأعمال العسكرية في المناطق الحدودية في الجنوب تتزايد وتيرتها بصورة تصاعدية مخيفة، منذرةً بحربٍ وشيكةٍ تشمل مناطق لبنانية عدّة، لا سمح الله.
إنّنا نهيب بكلّ الجهات المعنيّة، من محلّية وإقليمية، التعالي عن الصغائر والمصالح الشخصية والحزبية لدرء خطر الحرب عن لبنان الذي لم يعد يحتمل. وها هو الشعب اللبناني يئنّ تحت وطأة معاناة الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، ولا يزال يستجدي فتات الأموال من المصارف بعد أن تبخّرت الودائع المالية، فيما المسؤولون السياسيون بشكل عام، والنواب بشكل خاص، يحجمون دون أيّ مبرّر عن انتخاب رئيس للجمهورية، ونحن نجدّد مطالبتهم بالقيام بهذا الواجب الدستوري دون أيّ إبطاء، فيعود الانتظام إلى عمل المؤسّسات السياسية والدستورية، بغية إجراء الإصلاحات الواجبة للنهوض بالبلد من كبوته، كي يستعيد ازدهاره، ويتمكّن من وقف نزيف الهجرة، لا سيّما ضمن فئة الشباب، ويعطي حافزاً للذين أُرغِموا على الهجرة بالعودة إلى الوطن، ليشاركوا في نهضته واستقراره.
ولا يمكننا أن ننسى ما يعانيه أبناؤنا في سوريا، كما سائر إخوتهم في الوطن، من جراء الأوضاع الاقتصادية والأمنية، خاصّةً بسبب العقوبات المفروضة التي نجدّد مطالبَتَنا برفعها، لأنّها جائرة وتعاقب المواطنين، ممّا يؤدّي إلى ازدياد الهجرة، ويحول دون تطوّر البلد الطامح إلى الحرّية والعدالة والسلام.
كما لا تفوتنا أوضاع أبنائنا في العراق، بعدما نُكِبوا بالفاجعة المريعة في عرس قره قوش (بغديده) في أيلول المنصرم، وكذلك التحدّيات الكثيرة سياسياً واقتصادياً، والتي تجابه المسؤولين في سعيهم لإحلال الأمن والمساواة والاستقرار في بلاد الرافدين.
وبمناسبة عيد القديس مار أفرام السرياني، نتوجّه بالمعايدة القلبية إلى جميع أبنائنا وبناتنا المنتشرين في مختلف المناطق والبلدان عبر القارّات، في لبنان وبلدان النطاق البطريركي، في سوريا والعراق والخليج العربي ومصر والأردن والأراضي المقدسة وتركيا، وفي بلدان الانتشار في أوروبا والأميركتين وأستراليا، متمنّين لهم جميعاً صوماً مباركاً يقودنا إلى فرح الاحتفال بقيامة الرب يسوع منتصراً على الموت. ونحثّهم على عيش إيمانهم والتزامهم الكنسي، وتعلُّقِهم بتراثهم ولغتهم السريانية، وتربية أولادهم التربية المسيحية الصالحة، لأنّ العائلة هي الكنيسة البيتية والنواة الأساسية للكنيسة والمجتمع والوطن.
نسأل الرب يسوع أن "يملأكم كلّ سرور وسلام في الإيمان لتزدادوا في الرجاء بقوّة الروح القدس" (رومانيين 15: 13)، كي نصل معاً إلى ميناء الخلاص، بشفاعة أمّنا مريم العذراء، سيّدة النجاة، ومار أفرام السرياني، ومار جرجس الشهيد شفيع هذه الكاتدرائية، وجميع القديسين والشهداء، آمين.
|