في تمام الساعة السادسة من مساء يوم الخميس 31 تشرين الأول 2024، احتفل غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، بالقداس الإلهي بمناسبة الذكرى السنوية الرابعة عشرة لمذبحة كاتدرائية سيّدة النجاة (أمّ الشهداء)، وذلك على مذبح كاتدرائية سيّدة النجاة عينها، في الكرّادة – بغداد، العراق.
عاون غبطتَه صاحبا السيادة مار أفرام يوسف عبّا رئيس أساقفة بغداد وأمين سرّ السينودس المقدس، ومار أثناسيوس فراس دردر النائب البطريركي في البصرة والخليج العربي، بحضور ومشاركة صاحب السيادة مار يوحنّا بطرس موشي رئيس الأساقفة السابق لأبرشية الموصل وتوابعها ومستشار الأبرشية.
وشارك في القداس صاحب السيادة نرسيس زاباريان مطران بغداد للأرمن الكاثوليك، والمونسنيور تشارلز لاوانجا القائم بأعمال السفارة البابوية في العراق، وعدد من الآباء الخوارنة والكهنة والرهبان والراهبات من مختلف الكنائس في بغداد. وخدم القداس شمامسة أبرشية بغداد، وجوق كاتدرائية سيّدة النجاة.
كما حضر هذه المناسبة سيادة الدكتور كامل الدليمي رئيس ديوان رئاسة الجمهورية العراقية، ممثّلاً فخامة الرئيس العراقي الدكتور عبداللطيف جمال رشيد، وعدد من أصحاب المعالي الوزراء، وأصحاب السعادة النواب، وأصحاب المقامات والفعاليات.
وشاركت في القداس جماهير غفيرة من المؤمنين، ومن بينهم ذوو الشهداء الأبرار، وجميعهم حضروا للصلاة والتضرُّع إلى الرب، وطلب شفاعة الشهداء، والابتهال من أجل تسريع الخطى لإعلان تطويبهم من قِبَل الكرسي الرسولي في الفاتيكان حيث تتمّ متابعة دعوى التطويب.
بدايةً، دخل غبطته إلى الكاتدرائية بموكب حبري مهيب، يتقدّمه الأساقفة والكهنة والشمامسة، على أنغام ترنيمة استقبال رؤساء الأحبار.
وفي موعظته بعد الإنجيل المقدس، بعنوان "طوبى للمضطهَدين من أجل البرّ"، استهلّ غبطة أبينا البطريرك كلامه متوقّفاً عند "موعظة الرب يسوع على الجبل، حسبما وردت في الإنجيل المقدس بحسب القديس متّى، وفيها التطويبات التي تعطينا الخارطة لطريق المسيحيين أينما كانوا. ونحن نفتخر بأنّ الرب يسوع يطوِّب جميع المضطهَدين من أجل البرّ والحقّ والعدل والعبادة للإله الواحد".
وأشار غبطته إلى أنّنا "جئنا لنشارككم، أيّها الأحبّاء، في هذه الذكرى الرابعة عشرة لاعتلاء شهدائنا كرسي الشهادة في الملكوت. نعم، نحن الكنائس الشرقية، السريانية والكلدانية والآشورية والأرمنية، ننشد أنّ الشهداء يتكلّلون بالمجد عندما يدعوهم الرب، على مثال المعلّم الإلهي الذي قدّم ذاته على الصليب. ففي الصلاة الفرضية، نرتّل أنّ الشهداء هم كالنسور يحلّقون في السماء: ܣܳܗܕ̈ܶܐ ܠܢܶܫܪ̈ܶܐ ܕܳܡܶܝܬܽܘܢ".
ونوّه غبطته إلى أنّها "لذكرى مؤلمة ومفجعة نتذكّرها في هذا المساء، ذكرى شهدائنا الذين سبقونا، ولو أنّنا نفتقدهم بشكل خاصّ، صغاراً وكباراً، أطفالاً ورجالاً ونساءً. وأذكر أنّني جئتُ في اليوم الثاني كي أشارك في هذه الآلام، آلام النكبة. كما أنّني ذهبتُ وعُدتُ الجرحى، أكان في روما – إيطاليا، وفي باريس – فرنسا. نعم، نحن نبقى دوماً متّحدين بالرب، وكما سمعنا من رسالة مار بولس إلى أهل روما: من يفصلني عن محبّة المسيح. بولس لم يكتب فقط، لكنّه كان عالماً أنّه سيذهب إلى الاستشهاد في روما".
ولفت غبطته إلى أنّ "القديس مار اغناطيوس الأنطاكي هو من أول الشهداء وآباء الكنيسة، والذي اشتهر بكونه أحد آباء الكنيسة الرسوليين، وهو تلميذ بطرس، وقد كتب سبع رسائل وهو في طريقه إلى الموت في الكوليسيوم بروما. يقول اغناطيوس: أنا حنطة الله، ستطحنني أنياب الوحوش، لكنّني سأصبح خبزاً طاهراً للمسيح. نعم، أيّها الأحبّاء، نحن، وإن كنّا نعاني ونتألّم، لكنّنا نعلم أنّ الرب هو الذي يدعونا إليه، وفي السماء نلتقي، ونحن أبناء الرجاء. نعم، سنبقى، أيّها الأحبّاء، شعب الرجاء، ونرجو من شبابنا ألا يشعروا بالفشل والخيبة في حياتهم".
وذكّر غبطته أنّ "قداسة البابا فرنسيس يدعونا في رسالته إلى أن نعيش دوماً في الرجاء، رغم الآلام والمعاناة والاضطهادات في العالم كلّه، فنحن أبناء وبنات الرجاء. وهذا اليوم، في هذا الاحتفال، وهذه الذبيحة الإلهية، نحيي بألم وأسى هذا الفراق الذي فُرِضَ على كنيستكم هنا في بغداد، وعلى كنيستنا في العراق ككلّ. نحيي هذه الذكرى المفجعة، لكنّنا ننفح على الدوام بالرجاء أولادنا، لا سيّما شبابنا، كي يظلّوا راسخين في أرض العراق العزيز، رغم كلّ ما يصادفهم من صعوبات وعراقيل وتحدّيات في بحر هذا العالم".
وتناول غبطته "زيارتنا اليوم إلى فخامة رئيس الجمهورية، إذ شكرناه لكلّ ما يقوم به وما تقوم به الحكومة العراقية لنشر الاطمئنان والسلام في البلاد. كما شكرناه لأنّ هناك تقدُّماً من هذه الناحية، أنّ الاطمئنان يسود بشكل عام في هذا البلد الغالي، ولو أنّه ليس هناك أيّ نظام كامل في العالم، لكنّ الحكومة تبذل جهدها، ونشكر جميع المسؤولين الذين يخدمون هذا الشعب الطيّب بصدق وأمانة".
وتطرّق غبطته إلى زيارته الراعوية "إلى أستراليا في شهر تمّوز المنصرم، وكنّا فرحين أن نلتقي بأولادنا هناك، لكن في الوقت نفسه تألّمنا لهذه الهجرة الكبيرة التي حدثت، فقبل 11 سنة زرنا ملبورن – أستراليا، وكانت لدينا 150 عائلة هناك. وفي شهر تمّوز الأخير، أخبرَنا الكاهن خادم الكنيسة أنّ لديه 1300 عائلة. لا نقول ذلك لكي نجعلكم تشعرون بنوع من الفشل والأسى، لكنّ حضوركم هنا في أرض الآباء والأجداد، في هذه الأرض الطيّبة، وهذا البلد الحضاري، ضروري حتّى يتواكب كلّ العراقيين في هذا الموكب، موكب بناء العراق وازدهاره وتوسيع دائرة العدل والرأفة والقربى، لأنّنا شعب واحد".
وختم غبطته موعظته شاكراً "صلواتكم وأدعيتكم من أجل السلام في لبنان الذي يمرّ بوضع عصيب، ويتأرجح من سيّئ إلى أسوأ. وللأسف الشديد، هذا البلد الصغير الذي كان قبلةً لجميع الشرقيين، لا سيّما للعراقيين الذين يحبّون لبنان، عليه أن يمرّ اليوم بهذه المحنة الأليمة، وقد شكرْنا فخامتَه لتعاطُفه مع لبنان. نسأل الرب أن يملأ قلوبنا جميعاً رجاءً، لأنّه حاضر بيننا، كما في هذه الذبيحة الإلهية، بشفاعة سيّدة النجاة وشهدائنا الأبرار".
وكان سيادة المطران مار أفرام يوسف عبّا قد ألقى كلمة رحّب فيها بغبطة أبينا البطريرك، قائلاً: "بقلوب يغمرها الفرح ويملؤها الرجاء بالمسيح القائم من الموت، يطيب لي، باسم الحاضرين جميعاً، أن أرحّب بكم أجمل ترحيب في بيتكم وأبرشيتكم وكنيستكم التي تحبّكم حبّاً جمّاً، وتتوق إلى لقائكم ونيل بركتكم، بإكليروسها ومؤمنيها".
وتابع سيادته: "أنتم، يا صاحب الغبطة، لطالما حملتم منذ تبوُّئكم الكرسي البطريركي بالنعمة والاستحقاق، هموم أبنائكم وشجونهم في كلّ أصقاع الأرض، في بلاد المنشأ في الشرق كما في أراضي الإنتشار في الغرب. فكنتم ولا تزالون وستبقون تصدحون مجاهرين بصوت الحق، معلنين على رؤوس الأشهاد أحقّيّة شعبنا المسيحي أن يحيا في أرضه الأمّ في الشرق، بالكرامة الإنسانية والحقوق والواجبات المحترَمة، أسوةً بسائر إخوته وأخواته من جميع المكوّنات في الوطن، ومؤكّدين على الملأ أنّ دماء الشهداء، وفي مقدّمتهم شهداء كاتدرائية سيّدة النجاة، هي منبع البركات، وهي الصوت الصارخ الذي يستصرخ الضمير العالمي، إن بقي هناك ضمير في دنيا النفاق، على حدّ تعبير غبطتكم في رسالتكم الأبوية إلى أبرشية بغداد الثكلى وأنتم تعزُّونها إثر حدوث تلك المجزرة الرهيبة في 31 تشرين الأول 2010".
وأردف سيادته: "نشكركم يا صاحب الغبطة لتجشُّمكم عناء السفر المحفوف بالمخاطر من لبنان الجريح الذي يرزح تحت وطأة الحرب التي تفتك به، ونضرع إلى الله أن تنتهي ويعود إلى أمنه وسلامه وازدهاره. نسأل الله أن يديمكم بالصحّة والعافية والعمر المديد، لتتابعوا رعايتكم الأبوية الصالحة وتدبيركم الحكيم لكنيستنا السريانية التي تنعم في كنف أبوّتكم بالراحة والطمأنينة، وتتلألأ بالإنجازات الروحية والراعوية والعمرانية، بشراً وحجراً، رغم ما يحيط بها من ظروف عصيبة يعيشها أبناؤها بسبب الأوضاع السياسية والأمنية الصعبة، فضلاً عن النزوح والهجرة والاقتلاع".
وأضاف سيادته: "نحتفل اليوم بالذكرى السنوية الرابعة عشرة للمجزرة المفجِعة في كاتدرائية سيّدة النجاة للسريان الكاثوليك في قلب العاصمة العراقية بغداد، والتي أسفرت عن ثمانيةٍ وأربعين شهيداً، على رأسهم الأبوان الشهيدان ثائر عبدال ووسيم القس بطرس، بالإضافة إلى عشرات الجرحى، عشيّة عيد جميع القديسين في 31 تشرين الأوّل 2010".
وختم سيادته كلمته متضرّعاً "إلى الله أن يمنح بلادنا والشرق والعالم، لا سيّما لبنان وسوريا والأراضي المقدسة، السلام والأمان، بشفاعة شهدائنا الأبرار، لينعم الناس أجمعين بالطمأنينة والاستقرار والعيش الكريم، وبارخمور سيّدنا صاحب الغبطة".
وبعد القداس، توجّه غبطة أبينا البطريرك بموكب حبري إلى مدافن الكهنة والشهداء في فناء الكاتدرائية، حيث ترأّس غبطته تشمشت (خدمة) الشهداء، راحةً لنفوس شهدائنا الأبرار، وطلباً لشفاعتهم أمام منبر المسيح في السماء، وسط جوّ روحي مهيب مُفعَم بالتأثُّر.
بعدئذٍ بارك غبطته جماهير المؤمنين الذين تحلّقوا حوله في ساحة الكاتدرائية طالبين بركته الأبوية.
|