الى إخوتنا الأساقفة الأجلاء
والآباء الكهنة والرهبان والراهبات الأفاضل
وأحبائنا المؤمنين والمؤمنات، لكم بركة الرب
اليوم، ونحن نحتفل مع جميع المؤمنين بعيد الميلاد، تجسُّد كلمة الآب الأزلي بقوّة الروح القدس في أحشاء البتول مريم، نتذكّر كيف أنّ الله افتقد شعبه والبشرية جمعاء بنوع عجيب. إنّ مولود بيت لحم الذي جئنا نتأمّله يشعُّ نوراً وسلاماً. هذا الطفل الضعيف عنوان البراءة، المحدود ظاهرياً بشروط طبعه البشري، هو لنا، بأعين الإيمان ودون تهرّب أو مواربة، معجزة الحب اللا محدود في لقاء الله مع خليقته. لأنّ عظمة سرّ التأنس تكمن في اتحاد الإله الحقّ والإنسان الحقّ: "... والكلمة صار بشراً وحلّ بيننا، فرأينا مجده " (يوحنا 1: 14).
عيد الميلاد دعوة لنا كي نتأمّل في هذا السرّ غير المدرك، سرّ اتحاد الخالق بخليقته، "عمانوئيل أي الله معنا" (متى1: 23). حقيقة إيمانية تسمو على كل عقل بشري، لا يقبلها إلا مَن آمن بأعجوبة المحبة. وما عناه الملاك في تبشيره للرعاة: "وُلد لكم اليوم مخلّص" (لوقا 2: 11)، تذكيرٌ لنا بأنّ اسم يسوع بالعبرية، وهو اسمٌ لا نرضى عنه بديلاً، يعني "الله مخلّص".
يتجلّى عيد الميلاد في كل عام، وبين غالبية شعوب العالم، بزينة من ألوان وأنوار متميّزة تبعث جواً من البهجة والفرح والشعور بالسلام، يكاد يطغي على كل عيد أو احتفال أو مناسبة. وكم تغمرنا السعادة لحماس أطفالنا وتلهّفهم لمعرفة الهدايا التي ستُغدق عليهم! هذه المظاهر هي دون شك معبّرة عن فرادة عيد الميلاد، واختصاصه في إثارة الفرح في مجتمعاتنا التي طالما احتاجت إلى متنفَّسٍ عن همومها وتطمينٍ في مخاوفها، بحثاً عن نفحة أمل ورجاء في عيشٍ أكثر أمناً وسعادة.
ولكننا، كمؤمنين دُعوا كي يعيشوا بقناعة كاملة هذا السرّ الذي أخفي عن العقلاء المتغطرسين وأوحي إلى الأطفال، نعلم أنّ عيد الميلاد هو أعظم بكثير من أن يُختزل بالمظاهر البرّاقة، وأسمى من أن نقضيه بوثنية الذين يعتبرونه عطلة شتوية. فالذكرى السنوية لولادة مخلّصنا، تعني لنا الإنطلاقة الأولى لسرّ فدائنا، وهي احتفال الفرح ثمرة المحبة، وتجديد دعوتنا لنتجاوب وهدية السماء، فنضحي رسل السلام.
والميلاد، احتفال الفرح والتسامح، فيه تلتقي الجماعة المسيحية لتعيش جواً روحياً يبدّد كل خوف. هي تستقبل مخلّصها، تنحني إليه طفلاً عجيباً، شاكرةً ومعترفةً بعظمة العطاء الإلهي الذي يفوق كل هدايا البشر، لأنّ الرب "افتقد شعبه وافتداه" (لوقا 1: 68). كما أنها تؤمن بأنّ النور الذي أشرق فوق بيت لحم لا بُدّ وأن يبدّد ظلمة الخطيئة، وأنّ يسوع الوديع والمتواضع الراقد في مذود، قادرٌ أن يليّن أكثر القلوب قساوةً ونفوراً. لطالما حنّ إلى الميلاد أصدقاءٌ متباعدون، وتاقت إليه عائلاتٌ تمزّقت لأتفه الأمور، فقاموا بفعل تسامح شجاع وطووا صفحة من الماضي مؤلمة ومشكّكة.
أحبائي، كان من المفترض أن تأتي احتفالاتنا بعيد الميلاد في لبنان عنواناً للفرح للأفراد والعائلات وشعوراً بالطمأنينة في البلد الواحد. ولكن هي الحقيقة عليها أن تقال: لا زلنا نتوجّه بأفكارنا نحو إخوةٍ وأخواتٍ كانوا هدفاً لمجزرةٍ في كنيستنا، كاتدرائية سيدة النجاة في الكرادة ـ بغداد. وصدى هذه الفاجعة لا يزال، بعد ما يقرب من شهرين، يرنّ في آذاننا، يبكينا ويدمي قلوبنا. نشارك كنيستنا في بغداد، أسقفاً وكهنةً، راهباتٍ ورهباناً وشمامسةً والمؤمنين كافةً في أوجاعهم، كما نشاركهم في تساؤلاتهم الكثيرة: كيف تمّت هذه الجريمة النكراء؟ ولماذا؟ من وراءها وما تعليلها؟ ولكننا في الوقت عينه إذ نعزّيهم، نعزّي ذواتنا، ومعهم يحقّ لنا بل واجبٌ علينا أن نقف فخورين باعتزاز وإجلال أمام شهدائنا الأبرياء. إنّ الكاهنين المحبوبين ثائر ووسيم، والأخوات والإخوة الذين فقدناهم جسدياً، قد مزجوا دمهم بدم الحمل الفادي. وهذا الحمل الإلهي الحامل خطايا العالم هو الذي تلقّاهم مكلَّلين في دار الخلود، وأضحوا لنا فيها شفعاء أبرار!
وإذ نريد أن نشاطر إخوةً وأخواتٍ لنا في المكوّن المسيحي العراقي مشاعر خوفهم وقلقهم وألمهم، علينا أن نضرع إلى المولود الإلهي في بيت لحم ونستلهمه الطرق الفضلى لعيش التضامن الفاعل معهم. من واجبنا أولاً أن نداوم على الصلوات والأدعية كي يبقى المسيحيون في العراق ثابتين في الإيمان وراسخين في الرجاء رغم كل ما يحيطهم من أهوال التهديد والرعب، والقتل والتهجير... نصلي من أجلهم كي يعملوا على توحيد القلوب وتنقية النوايا في إيجاد أفضل السبل للصمود في وطنهم، والتشبّث بأرضهم الطيّبة والحضارية. والله هو الذي يلهمهم كي يجابهوا بعزيمة واحدة كل أنواع الإرهاب ووسائله المقيتة.
ولكي يأتي تضامننا فاعلاً، لا بدّ وأن نمدّ يد العون إلى الكنيسة المتألمة في العراق، شعباً وإكليروساً، فنقدّم التبرّعات، بروح عيد الميلاد الذي يحثّنا على العطاء السخي لكل من هم أكثر حاجةٍ منّا، والذين حُرموا بهجة العيد. وذاك هو التعبير الأفضل والأكثر مصداقية عن عرفاننا بالجميل نحوه تعالى، الذي يغدق علينا وعلى عائلاتنا ووطننا نعمه وخيراته. وهنا نودّ أن نذكر البادرة الطيّبة التي قام بها عشرةٌ من أبناء أبرشية حلب الذين تنادوا فقدّموا مساعدةً لإخوتهم المنكوبين في بغداد.
ولكي نساعد إخوتنا المتألمين في العراق حتى يتغلّبوا على محنتهم ومعاناتهم، سيّما تجربة الاستسلام واليأس، من واجبنا اليوم ألا ندّخر جهداً، فنضمّ صوتنا إلى صوتهم، نطلقه عالياً لإحقاق الحق. علينا أن نتجاوز مرحلة الاستنكار والتنديد، فنطالب من دون كلل أو تخاذل وبكل الوسائل الحضارية، أن تستيقظ شعوب العالم الحرّ وحكوماته، ليتحسّسوا الوضع المأساوي الذي تعيشه المكوّنات المستضعفة في بلاد الرافدين، لا سيّما المسيحيون منهم، ويحثّوا المسؤولين والمراجع المخوّلة لديهم، كي يعملوا بفعالية على تأمين الحقوق المدنية لجميع المواطنين، وعلى ضمان الحريات الدينية للجميع، بما فيها حرية الضمير التي نادت بها شرعة حقوق الإنسان العالمية.
كم نريد أن نصدّق ما نسمعه في المحافل والندوات ونقرأه في البيانات والتوصيات، من تردادٍ مملّ أنّ من ارتكب تلك الجريمة الشنيعة في كنيسة سيدة النجاة في بغداد، ومن يقترف مثيلاتها في أماكن أخرى، أفراد قلائل غُسلت أدمغتهم على يد جماعات إرهابية ليست لها صلة بالدين. وكم نحاول أن نفهم أولئك الذين يزوّدوننا بنظرياتهم عن مؤامرات خارجية تبغي تفرقة أبناء الوطن الواحد وتدمير المنطقة. ألا يحق لنا أن نتساءل: ما ذنب أولئك الأبرياء المصلّين في كنيستهم؟ وماذا قطف المتآمرون الغرباء من سفك دمائهم؟ ألم يحن الوقت بعد كي يقتنع القيّمون على الدين والمخوَّلون بتقديم العظات والخطب الدينية، أن يوجّهوا المؤمنين ويربّوهم على ثقافة القبول بالتعددية، والإبتعاد عن كل ما يدعو إلى التفرقة والتشهير والتكفير، فيقطعوا الطريق على المتآمرين الأجانب؟
كثيرٌ منا يعتبر أنّ على الحوار، كي يأتي بالثمار المرجوّة، أن يتجنّب الثوابت اللاهوتية التي تخص الأديان وتميّزها، ويركّز اهتمامه بالأحرى على قيم العيش المشترك والمصلحة العليا للشعوب والأوطان، وقبول الآخر واحترامه في الإنسانية الواحدة. أجل، وحده التمسّك بقيم الإنسانية التي نفحها الخالق وزيّن بها النفس البشرية، قادرٌ على أن يجمع ويوحّد، فلا يباعد ويفرّق بين المواطنين. هناك العديد من المواضيع ذات الآفاق الإنسانية، بوسعها أن تكوّن خطاباً دينياً إيجابياً، يُبرز الفضائل التي تبني الذات والأفراد والمجتمع: كالرحمة، والعفاف، والأمانة، والحرية المسؤولة، والإحسان، والتكافل، والتعاضد... كما أنّ هناك تحديات تجابه مجتمعات اليوم، مثل تربية النشء، وتوجيه الشبيبة، وحماية العائلة، وكرامة المرأة وحقوقها، وبناء الوطن وتقديم مصلحته على المصلحة الخاصة، واحترام القوانين المدنية، والتفاعل الإيجابي والمنفتح بين مختلف مكوّنات الوطن الواحد، وإبراز الوجه الحضاري للوطن بين سائر الأمم...
"إذا كانت الحرية الدينية درباً للسلام، فإنّ التربية الدينية هي طريق مميّز لتأهيل الأجيال الناشئة، كي ترى في الآخر أخاً وأختاً لها للسير معاً والتعاون، عندئذٍ يشعر الجميع بأنهم أعضاء حية في الأسرة البشرية نفسها بدون استثناء أحد"(البابا بينيدكتوس السادس عشر، رسالة يوم السلام العالمي، 2011).
ونودّ في هذا المقام أن نعبّر عن شكرنا الخالص وامتناننا الكامل إلى اللبنانيين الذين شعروا ويشعرون بآلام ومعانيات إخوانهم العراقيين. كما ندعو جميع اللبنانيين المخلصين لوطنهم "الرسالة" أن يحافظوا على وحدتهم الوطنية برصّ الصفوف وتشابك الأيدي وتلاقي القلوب بالمحبة والإلفة، فيصونوا لبنان العزيز الذي يفاخر العالم بحضارته، ليبقى شامخاً كالأرز بنسيجه الفريد جوهرةً ترصّع تاج المنطقة. ونحثّ اللبنانيين جميعاً على اختلاف انتماءاتهم السياسية والحزبية أن يلتفّوا حول رئيس البلاد مجدّدين الثقة التي أولوه إياها لما فيه خير ورفعة لبناننا الغالي الحبيب.
أيها الأحباء، بالرغم من كل ما ينتابنا في هذه الأيام من حزنٍ وأسى وشعور بالمرارة، لما تعرّض له إخوتنا وأخواتنا في العراق، يذكّرنا إيماننا بألا نستسلم لليأس أو القنوط، لا سمح الله، إزاء عبثية الظلم وما تبدو من جولاتٍ غالبةٍ لقوى الشرّ في عالمنا. فتلك، وإن حاولت تشويه إنسانيتنا وصورة الخالق فينا، لا بدّ وأن تندحر بتكاتفنا في نشر الحقيقة والدفاع عن الحق بالمحبة دون زيف. لنستلهم روحانية الميلاد كي نعيش هذه الروحية بتميّز، وننشر رسالة الميلاد السامية، أي: روح العطاء بفرح، والسلام بعدل، والمحبة دون تمييز.
"المجد لله في الأعالي، وعلى الأرض السلام، للناس ذوي المسرّة الصالحة" (لوقا 2: 14)
صدر عن كرسينا البطريركي في بيروت، في اليوم الثالث والعشرين من شهر كانون الأول عام 2010، وهي السنة الثانية لبطريركيتنا.
محبكم بقلب الرب يسوع المخلّص
اغناطيوس يوسف الثالث يونان
بطريرك السريان الأنطاكي
|