في هذه المرحلة المفصلية من حياتنا الوطنية، التي ينزلق فيها البعض من حولنا نحو منطق العنف ومخاطر التشرذم والتباعد الطائفي والمذهبي، وتسعى فيه الشعوب العربية، بتعثُّر، لتلمُّس مستقبلها وخياراتها الفضلى، فإننا على يقين، صاحب القداسة، أنّ زيارتكم للبنان ستساهم بإعادة البريق إلى وهج رسالته، وتسليط الضوء على موقعه ودوره الرائد وسط محيطه، كوطن للحوار والتلاقي والتوافق، وكنموذج حيّ، ومركز دولي مرتجى، لحوار الحضارات والثقافات والديانات، على ما دعوتُ إليه في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
لقد تعاهدنا منذ البدء، صاحب القداسة، على العيش معاً، في كنف الدولة، في إطار نظام ديمقراطي يضمن حرية الرأي، ويسمح بالتداول الدوري والسلمي للسلطة، وقد جاء في المادة التاسعة من الدستور اللبناني "أنّ حرية الاعتقاد في لبنان مطلقة وبأنّ الدولة تحترم جميع الأديان والمذاهب وتكفل حرية إقامة الشعائر الدينية تحت حمايتها".
والعيش معاً بالنسبة للبنانيين، ليس معادلة جامدة، بل تكامل إنساني بنّاء، وتفاعل فكري وثقافي منتج، وإغناء متبادل، وإنتماء، وهو في صلب فلسفة كيانهم الوطني، يستند إلى إرادة سياسية حرة ومتجدّدة،
ويترجَم على الصعيد العملي، في مشاركة جميع الطوائف والمجموعات المكوّنة للمجتمع، في إدارة الشأن العام، بصورة متكافئة ومتوازنة، وصولاً إلى الدولة المدنية الضامنة لحقوق جميع المواطنين من دون تمايز أو تفاضل.
هذا جوهر ما توافقنا ميثاقياً عليه، وما نعمل دوماً على تطوير صيغته وترسيخ ركائزه من طريق التفهّم والتفاهم والحوار، بالرغم ممّا يعترضنا أحياناً من عثرات ويصيبنا ظرفياً من كبوات.
نعلم، قداسة الحبر الأعظم، أنّ لا مصالح اقتصادية أو مادّية للكرسي الرسولي، في رسم سياساته وتوجّهاته، بل حرص موضوعي وغيور على الخير العام وعلى كرامة الإنسان وهنائه.
لذا تحمل رسالتكم إلى لبنان، وانطلاقاً منه إلى المنطقة بأكملها، بمسيحييها وبمسلميها، وبجميع مكوّناتها الدينية والطائفية والاجتماعية، وإلى المنتشرين اللبنانيين والمشرقيين في كل أصقاع الدنيا ورحابها، مضموناً نقياً منزّهاً عن الأطماع والأهواء؛
وخصوصاً من خلال الإرشاد الرسولي للسنيودس الخاص لمجمع الأساقفة من أجل الشرق الأوسط، الذي وقّعتم عليه بعد ظهر البارحة، وهو إرشادٌ يحمل من المضامين والتوصيات والعبر ما يصلح أن يكون نبراساً وهادياً إلى زمنٍ بعيدٍ آتٍ، وخريطة طريق للمسيحيين المشرقيين ولكلّ سالك لطريق الشراكة والمحبّة والعدالة والسلام.
من هذا المنطلق نضع تجربتنا اللبنانية الفريدة، تحت نظركم الكريم، وهي تجربة لم تنل منها الصعاب التي امتحنت إرادتنا بالعيش معاً، خلال العقود المنصرمة، وإن كانت التحدّيات ما زالت تعترض مسيرتنا الوطنية، في عالم متقلّب ومتداخل.
ومن بين هذه التحدّيات، العمل على تنفيذ قرار مجلس الأمن الدولي رقم 1701 بكلّ مندرجاته، وثني إسرائيل عن خروقاتها وتهديداتها المتمادية ضدّ لبنان، ومواجهة خطر الإرهاب والدسائس والفتن، والحؤول دون أيّ شكل من أشكال توطين اللاجئين الفلسطينيين على أراضينا، ليس فقط لتعارُض التوطين مع أحكام الدستور اللبناني، ومع مقتضيات وفاقنا الوطني، بل كذلك لتناقضه أساساً مع حقّ هؤلاء اللاجئين الطبيعي في العودة إلى أرضهم وديارهم الأصلية. إضافةً إلى ضرورة تحقيق التنمية المتوازنة، وحماية البيئة، وتوفير فرص عمل للمواطنين، ولا سيّما منهم فئة الشباب، لتعزيز محفّزات تمسّكهم بأرضهم وهويتهم وتراثهم.
ويرتدي دعمكم للبنان في هذا الظرف بالذات، صاحب القداسة، أهميّة قصوى، لما تمثّلونه ويمثّله الكرسي الرسولي من مكانة روحية سامية ومن سلطة معنوية مؤثّرة.
كذلك سَرَّنا أن يكون مجلس الأمن الدولي، ومن بعده مجلس الاتحاد الأوروبي، والعديد من المرجعيات الروحية والدول، أشادوا بالدعوة إلى استئناف أعمال هيئة الحوار، وبـ "إعلان بعبدا" الذي أعاد تأكيد وصوغ مرتكزات وفاقنا الوطني، وأكّدوا دعمهم لكلّ ما يعزّز فرص الاستقرار.
قداسة الحبر الأعظم،
لقد توافقنا في لبنان على ضرورة تجنّب التداعيات السلبية الممكنة لما يحصل حولنا من أحداث، وعلى تحييد بلادنا عن سياسة المحاور والصراعات الإقليمية والدولية، درءاً للمخاطر، وحرصاً منّا على استقرارنا ووحدتنا الوطنية، من دون أن ننأى بنفسنا بطبيعة الحال، عن واجب التزام القضايا العربية المحقّة، وعلى رأسها قضية فلسطين، وقرارات الشرعية الدولية، وكلّ شأن إنساني.
من هنا إيلاؤنا كلّ اهتمام ورعاية ممكنة، لعشرات آلاف النازحين السوريين الذين وفدوا إلى الأراضي اللبنانية، نتيجة خوف أو حاجة أو ضيق.
كذلك إننا أعلنّا منذ البدء أنّ لبنان يتمنى للشعوب العربية الشقيقة، وللشعب السوري بالذات، ما تريده لنفسها من إصلاح وحرية وديمقراطيّة، وأن تتمكّن من تحقيق مطالبها المشروعة بالطرق الحوارية والسياسية المناسبة، بعيداً من أيّ شكلٍ من أشكال العنف والإكراه.
إلا أنّ هذه الديمقراطية، على ما يفترض أن توفّره من استقرار وهناء، لا يمكنها أن تستقيم وتترسّخ، من منظار المنطق والعدل، إذا لم يتيسّر لها تحقيق المستلزمات الآتية:
أوّلاً: إشراك المكوّنات البشرية والحضارية المتنوّعة للعالم العربي، ومن بينها المكوّن المسيحي المتجذّر في هذا الشرق منذ أكثر من ألفَي سنة متتالية، في الحياة السياسية وفي إدارة الشأن العام، بصرف النظر عن النسب العددية، على قاعدة المواطنة والتنوّع من ضمن الوحدة، كما أشرتُ إلى ذلك في كلمتي أمام القمة العربية في بغداد بتاريخ 29 آذار الفائت. فتطمئنّ هذه المجموعات المكوّنة للذات العربية بمختلف أبعادها الثقافية والفكرية إلى وجودها وحضورها وتساهم بصورة أفضل في نهضة وتقدّم بلدانها.
ثانياً: تحقيق العدالة الاجتماعية، والتزام الحريات العامة وحقوق الإنسان، ومن ضمنها حقوق المرأة، وإعطاء الشبيبة دورها وحقّها في عملية صناعة القرار.
ثالثاً: الالتزام بصورة أكثر عمقاً وتبصّراً بموضوع الحوار بين الحضارات والثقافات والديانات، بما في ذلك الحوار بين الطوائف والمذاهب، على قاعدة الاحترام المتبادل، في وجه محاولات التفرقة بعيداً عن منطق التقوقع أو التصادم والغلبة.
رابعاً: دفع المجتمع الدولي إلى فرض حلّ عادل وشامل لكافة أوجه الصراع العربي الإسرائيلي ولقضية فلسطين، بما في ذلك مسألة الوضع الخاص لمدينة القدس وللأماكن المقدّسة، وفق جدول زمني ملزم محدّد، يحول دون تكريس أيّ أمر واقع يهدف إلى إقامة المستوطنات غير الشرعية وتهويد القدس وتكريس الاحتلال. ومثل هذا الحلّ، لا يمكن أن يكتسب صفة الثبات، إذا لم يستند إلى القانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة، ومرجعية مؤتمر مدريد، والمبادرة العربية للسلام التي أُقرّت في بيروت منذ عقد من الزمن.
وتبقى القدس دائماً وأبداً في وجداننا، زهرة المدائن، ومدينة السلام ونقطة الجذب التي من المفترض أن يستقيم فيها العدل، فتسير إليها جميع الشعوب المؤمنة وتلتقي، على قاعدة الألفة والمحبّة والإيمان، في حضرة الإله الواحد الأحد.
قداسة الحبر الأعظم،
في وجه المآسي والمحن، وعند كلّ امتحان للطباع والإرادات، بإمكان المرء أن يتفرّج ويتنحّى جانباً، أو أن يهرب ويبتعد، أو أن ينخرط بشجاعة في الحركة التضامنية الكريمة، من أجل بلسمة الجراح، وإعادة بناء ما تهدّم، ووصل ما انقطع، أو مواساة من أصابه سوء أو ضرر.
دعوتي إلى المواطنين، وإلى فئة الشباب منهم بشكلٍ خاص، في حضوركم وبمباركتكم صاحب القداسة، إلى ألا ينزلقوا يوماً نحو الانكفاء أو الانعزال أو التطرّف، بل أن يُقدموا على العمل الهادف لتثمير مواهبهم وخدمة الخير العام، وأن يلتزموا دوماً روح الانفتاح والعطاء التي تميّزهم، وأن يحافظوا على إيمانهم وذواتهم الإنسانية، وعلى مجمل القيم الروحية والعائلية التي سمحت لهم بأن يغالبوا الصعاب وأن يفوزوا بالكثير من نعم الله. فيبقى لهم ومعهم لبنان، واحة لحوار الأفكار والقلوب، ومنارة فكر إيجابي، وجسر تواصل وتكامل، ورسالة حرية وعيش مشترك للشرق والغرب.
ومع ذلك فإننا نعي أنّ الديمقراطية والعدالة والسلام واحترام الرأي الآخر، وروح المحبّة والحوار،
هي ثقافة قبل كلّ شيء، ونهج تفكير وحياة، وهي مسؤولية تربوية وإعلامية ومجتمعية تقع على عاتق القيادات والهيئات الروحية والزمنية على السواء، في عالم مترابط بات يغلب عليه الشكّ والاضطراب، فيما تتعثّر فيه الجهود الهادفة إلى إقامة نظام سياسي واقتصادي عالمي جديد أكثر عدلاً وإنصافاً والتصاقاً بالقيم.
يشرّفنا، قداسة الحبر الأعظم، أن نرحّب بكم تكراراً، وأن نصغي بإمعان إلى الرسالة المحورية التي رغبتم في توجيهها من هذا الموقع بالذات، غداة توقيعكم على الإرشاد الرسولي.
أتوجّه بالشكر الجزيل لحضور أصحاب الدولة وأصحاب السماحة والغبطة ورؤساء الطوائف الأجلاء ورجال الدين وأصحاب السعادة والسيادة والحفل الكريم، وبالشكر الخاص للقوى العسكرية والجماهير من كافة الطوائف والمناطق التي استقبلت قداسته على طريق القصر.
عشتم
عاش الكرسي الرسولي
وعاش لبنان
|