يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للكلمة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال الجلسة الإفتتاحية للمؤتمر الخامس والعشرين لمجلس بطاركة الشرق الكاثوليك، وذلك صباح يوم الأربعاء 9 آب 2017، في الكرسي البطريركي الماروني الصيفي في الديمان – شمال لبنان:
أصحاب الغبطة...
نشكر أخانا صاحب الغبطة والنيافة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي، ونرحّب بالإخوة البطاركة. نأسّف لعدم عقد اجتماع لنا كان قد تقرّر سابقاً، إن في العراق أو في مصر لأسباب أمنية.
نلتقي كرعاة روحيين يقرّون بأنّ أوضاع كنائسهم في بلدان الشرق الأوسط تتميّز بحسب الأنظمة والطابع الطائفي ونسبة المسيحيين فيها. لذا فإننا لا نستطيع أن نتكلّم بلغة واحدة عن أوضاع المسيحيين في لبنان وأوضاعهم في سائر البلدان كالعراق وسوريا ومصر. ومع ذلك، نحن مدعوون إلى التمسّك بهويتنا المشرقية والأمانة لرسالتنا في مجتمعاتٍ أضحينا فيها قلّةً.
ولا يخفى على أحد أنّ كنيستنا السريانية الكاثوليكية عانت في السنوات الاخيرة الأمرَّين في العراق وسوريا، بسبب الخضّات الأمنية وأعمال العنف الإرهابية والجرائم التكفيرية. قبل سنوات ثلاث مضت، وتحديداً في ليلة 6-7 آب 2014، اقتُلِع ما يقرب من خمسين ألفاً،من أرضهم في سهل نينوى، العراق، فأضحوا نازحين داخل الوطن أو تائهين وراء البحر. إنّ كنيستنا التي عرفت على مرّ العصور كشقيقاتها في الشرق جميع أنواع الإضطهاد، أضحت اليوم بالقول والفعل كنيسةً شاهدةً وشهيدةً، شاهدةً لإيمانها وتاريخها وتراث آبائها العظام، وشهيدةً حتى سفك الدم أمانةً لإنجيل السلام وتولّهاً بيسوع، معلّمها الإلهي.
أرى أنّ التحدي الأخطر الذي نواجهه اليوم، نحن البطاركة المؤتمَنين على "القطيع الصغير" هو كيفية مجابهة ظاهرة نزوح المسيحيين من أراضيهم الأصلية في الشرق الأوسط. يقولون إنّ هذه الظاهرة أضحت عالمية، وإنّ عدد المسيحيين المرغَمين عليها أقلّ من غيرهم! ولكن هل يحق لنا أن نتناسى نسبة المسيحيين المتدنّية مقارنةً مع الآخرين؟
لقد أضحى لزاماً علينا أن نتخلّى عن "الحديث السياسي"! حان الوقت لكي نطلق نداءً نبوياً شهادةً للحقيقة التي تحرّرنا حسب روح الإنجيل. هذا النداء النبوي نوجّهه أولاً لأبناء كنائسنا وبناتها المرغَمين، لا المخيَّرين على الهجرة، وثانياً للهيئات الحكومية والمراجع الدينية في بلادنا، وثالثاً إلى الأب الأقدس، البابا فرنسيس.
أولاً، نقول لشعبنا المسيحي الذي تعرّض لشتّى أنواع الظلم والتمييز من اضطهاد ديني لم يُعرَف له مثيلٌ، حتى في القرون الأولى للإضطهادات: لقد استهدفكم التكفيريون، مع أنكم أنتم المكوّنات الأصيلة في أرض الوطن. ولقد اضطهدوكم من أجل "اسم المسيح" وخطّطوا لاقتلاعكم بسبب الدين، ليس إلّا! نريد أن نستميحكم عذراً لأننا تغافلنا وتأخّرنا في اكتشاف الحلول لمعاناتكم المأساوية. ولكنّنا، في الوقت عينه، نذكّركم أنّه مهما عتى الظالمون عن معرفةٍ وتصميم، وزاغ الجهّال مستغلّين جنحنا إلى السلام، لا بدّ لعدل السماء أن ينتصر! دعوتنا اليوم لكم أن تضحوا ك"الخميرة في العجين"، وكالنور المضيء في عالم متعطّش إلى الروح الذي يحيي. سنبقى متجذّرين في أرض الآباء والأجداد، متطلّعين برجاء "فوق كلّ رجاء" إلى مستقبلٍ نرى فيه مكوّناتنا التراثية العريقة التي تميّزنا، غنىً لنا ولمجتمعاتنا وللكنيسة الجامعة شرقاً وغرباً.
وها هو قداسة أبينا البابا فرنسيس يتحدّث في الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل" عن أهمّية عيش شهادتنا لإيماننا المسيحي في خضمّ الصعوبات والمعانيات، فيقول:
"... إنّي أتفهّم الأشخاص الذين يحزنون بسبب مصاعب ثقيلة عليهم تحمّلها، إلاّ أنّه شيئاً فشيئاً يجب أن يُسمَح لفرح الإيمان أن يبدأ فيستيقظ مثل تحفة خفيّة لكن صامدة، حتى وسط أشنع الهموم" (فقرة 6).
ثانياً، إنّ لقاءنا كرعاةٍ مسؤولين يذكّرنا بواجب اتّخاذ المواقف النبوية التي تحتاج إليها كنائسنا وشعوبنا، فننقل معاناتنا ومطالبنا إلى الهيئات المدنية والمرجعيات الدينية ذات الشأن. وبرأيي إنّ الكلمات المعسولة لم تعد كافية ولا مقنعة. علينا أن نتمسّك بواجب إعلان الحقيقة بالمحبّة، وأن نفعّل الحقيقة دوماً بالمحبّة، كما يذكّرنا بولس رسول الأمم. بات واجباً علينا أن نتجنّب الحديث المزدوج والمتلوّن بالدبلوماسية أو ذاك الذي تفسده السياسة. حان الوقت كي نطالب بشجاعة بشرعية فصل الدين عن الدولة وعن الشؤون العامّة في دساتير أوطاننا، حيث يعيش الجميع متساوين في الحقوق والواجبات، دون النظر إلى الدين أو الطائفة. وهذا شرطٌ لا بدّ منه كي يطمئنّ المسيحيون وسائر المكوّنات الصغيرة في بلادنا. نسمع من الكثيرين تمنّياتهم لنا بأن نبقى، وإلا فقد الشرق نكهته وبهت نسيجه! ليت الشعر وما أكثره في ثقافتنا، يقنع الأجيال الطالعة فيحوّلوا أنظارهم عن آفاق التغرّب، ويظلّوا متجذّرين في أرض الآباء والأجداد، ومعتزّين بالحضارة المشرقية الأمّ، فلا يستسلموا لتجربة الهجرة دون رجعة!
ثالثاً، ومَن لنا سوى بطرس نلجأ اليه؟ أجل، أيّها الإخوة الأحبّاء، يبدو أنّ مصابيحنا قربت أن تنطفىء، ونحن نطرق أبواب العالم "المتحضّر" ضارعين إليه أن يرحم من يريد أن يبقى من شعبنا في أرض موطنه الأصيلة. نريد أن نذكّر قداسة البابا، خليفة شمعون بطرس، بأننا مستعدّون أن نلبّي دعوتنا إلى القداسة باتّباع المخلّص على درب آلامه. ولكنّنا نمثّل كنائس نشأت في أرض شرقنا منذ عهد الرسل، ولها العريق من لغة وثقافة وحضارة، أضحى وجودها في خطر حقيقي.
جميعنا شارك في مؤتمرات وندوات ومقابلات، وحاولنا أن ننقل إلى العالم بشاعة الظلم الذي لحق بشعبنا المسيحي. ولكنّنا لسنا تلك "الأمّة" الممتدّة شرقاً وغرباً، ولا تلك التي تسترعي اهتمام عمالقة المال، ولقد أضحينا ذاك "القطيع الصغير" والمسالم! فلم يبقَ سواك يا قداسة البابا، لتدعو الممثّلين عن المتحكّمين بمصائر الشعوب، كي تذكّرهم بل توبّخهم بأنّ الإستمرار بتهجير المسيحيين من الشرق الأوسط هو بالتأكيد مشروع إبادة، وهو كارثة إنسانية، بل نيلٌ من حضارة المعمورة.
نبقى متّحدين بالمحبّة المتبادلة وبرباط الشراكة الأخوية، تقودنا كلمات قداسة البابا فرنسيس في الإرشاد الرسولي "فرح الإنجيل":
"أودّ أن أطلب بالأخص من مسيحيي كلّ جماعات العالم شهادة شراكة أخوية تصبح جذّابة ومنيرة. وليتمكّن الجميع من أن ينظروا بإعجاب كيف تهتمّون بعضكم ببعض، وكيف تتبادلون التشجيع بعضكم لبعض، وكيف يرافق بعضكم بعضاً: "بهذا يعرف الجميع أنّكم تلاميذي: إذا أحببتم بعضكم بعضاً"(يو 13: 35).
أجدّد الشكر والتحيّة والتعبير عن المحبّة الأخوية للجميع، راجياً من الرب أن يبارك لقاءنا هذا بنعمه الوافرة. ودمتم بشفاعة أمّنا مريم العذراء سيّدة النجاة وسيّدة لبنان وجميع القديسين والشهداء.
|