في تمام الساعة الحادية عشرة من صباح يوم الخميس 24 آب 2017، عقد غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، ندوة صحافية في المركز الكاثوليكي للإعلام، تحت عنوان "تجذُّر مسيحيي الشرق في أرضهم". شارك في الندوة سيادة المطران بولس مطر رئيس أساقفة أبرشية بيروت المارونية ورئيس اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان ورئيس المركز الكاثوليكي للإعلام، والخوري عبده أبو كسم مدير المركز، وبحضور سيادة المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى المعاون البطريركي والزائر الرسولي للسريان الكاثوليك في أستراليا ونيوزيلندا، والمونسنيور أفرام سمعان، والأب حبيب مراد أمين سر بطريركية السريان الكاثوليك الأنطاكية، وأعضاء اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام، وحشد من الإعلاميين.
بدايةً، رحّب سيادة المطران مطر بغبطته، وقال: "نحن المسيحيين أبناء هذا الشرق قبل الكثيرين بزمن طويل، وحضارتنا أعطت الحضارة العربية الكثير، وأخذنا منها، وصرنا نحيا مصيراً مشتركاً ضمن الإحترام للجميع، وهذا مطلب حق.
شاركنا في مصير هذا الشرق لقرون وقرون، ولكنّنا كنّا معذَّبين فيه أيضاً، حملنا الصليب، بكلّ فخر، صليب الفداء والمصالحة بين الناس جميعاً، لنصبح كلّنا أبناء الله موحَّدين.
مرّ المسيحيون في هذه السنوات المنصرمة عبر مطبّاتٍ كبيرة، هُجِّر من هُجِّر، قُتِل من قُتِل، وصمد من صمد. ولكنّنا على الرغم من كلّ ذلك متشبّثون بأرضنا، بحقوقنا وبشراكة المصير مع إخوتنا من أجل مستقبل زاهر.
يجب أن تكون عودة المسيحيين إلى أرضهم واندماجهم مع سائر المواطنين قضيةً إسلاميةً وقضيةً عالميةً. صوت غبطتكم معروف في العالم بمطالبتكم بتبنّي قضية العودة، ونحن في لبنان حاملون قضية العودة بروح الأمل والرجاء".
غبطة البطريرك يونان
وتحدّث غبطة أبينا البطريرك، فقال:
"شكراً من القلب لسيادة المطران مطر لكلمات الترحيب الموجَّهة لي ولكلّ إخوتنا وأخواتنا المعذَّبين اليوم في بلاد الشرق من مسيحيين وغيرهم، وهو المعروف عنه الإنفتاح على الجميع والشعور بآلام الأبرياء من شعبنا في الشرق الأوسط، والذي يحثّ على جمع الكلمة ما بين الأطراف المختلفة، إن كان في لبنان أوخارجه في العالم.
أرحّب أيضاً باسمكم بأخي صاحب السيادة المطران مار باسيليوس جرجس القس موسى، إبن العراق وبخديده – قره قوش، كما أشكر الأب عبده لدعوته وجميع الحاضرين.
ليس الوقت هنا كي نعيد ما حدث لإخوتنا وأخواتنا المسيحيين في العراق منذ ما يقرب من العقدين، وفي سوريا منذ ما يقرب من سبع سنوات.
كلّنا نعلم الآلام والمعاناة، دوّامة العنف التي حدثت في العراق وجعلته يعيش في الفوضى، وكذلك الصراعات في سوريا التي غذّاها الأقوياء في العالم، مستغلّين التعصّب الطائفي وما يسمّى أيضاً الجهاد التكفيري حتّى يخلقوا في هذا البلد، جار لبنان، الفوضى التي هي أكبر عدوّ للمكوّنات الصغيرة، المسالمة والنزيهة في شرقنا الأوسط، ومن بين هؤلاء، المسيحيون هم الأكثر استهدافاً.
يقولون لنا إنّ المسيحيين ليسوا مختلفين عن غيرهم من الأديان والطوائف الأخرى الذين عانوا الحروب والصراعات والجرائم التكفيرية والإضطهاد والتهجير والقتل. ما هو صحيح، إنّ المسيحيين لم يختلفوا عن غيرهم، ولكنّهم المكوّن الأكثر استهدافاً والأكثر تعرُّضاً لمصيرهم في هذا الشرق، لأنّهم يعتبرون أنفسهم مكوّناً أصيلاً، ولكن لا يقبله البعض إن كان أولئك التكفريين أو المسلّطين الجبناء في حكوماتهم، أو الدول التي تسعى لتحقيق مصالحها بطريقة نسمّيها "الوصوليّة"، وقد عانينا من هذه السياسة التي تسعى فقط للمصلحة.
نحن نقرّ أنّ المرجعيات الاسلامية تدعو إلى بقائنا في الشرق، ونشكر لها هذه البادرات. إنما هناك عناصر تسعى وتساهم في تهجيرنا من أرضنا وموطننا الأصلي.
نحن مكوّن أساسي في الشرق منذ آلاف السنين، ولدينا إيماننا بالرب يسوع مخلّصنا، إله السلام والمحبّة والأخوّة، والذي دعانا لمحبّة الجميع وحتى الأعداء. نحن موجودون في هذا الشرق كمكوّن حضاري، ومعروف أنّنا ساهمنا في تكوين حضارة هذا المشرق، ومشهود لنا أنّنا كنّا في أساس النهضة العربية في القرنين الأخيرين. لكن، وللأسف، هناك من يريد اقتلاعنا من موطننا الأصلي في الشرق، إن كان بشكل مباشر إرادياً من خلال العصابات التكفيرية المجرمة التي ساهمت باقتلاعنا، أو بطريقة غير مباشرة وهي عدم الإكتراث لنا، لأنّنا لسنا أمّة بالعدد ولا نملك آبار البترول، ولا نهدّد أحداً بأعمال إرهابية، لذلك أُهمِلنا.
اليوم علينا أن نقلب صفحة الماضي ونسلّط الأضواء على حاضرنا:
هناك النقاط السلبية: التهجير، الإقتلاع وعدم تمكّننا من إقناع أولادنا وشعبنا أن يبقوا في أرضهم، لأنّهم وللأسف فقدوا الثقة في الذين يحكمونهم، وطبعاً خافوا على مصير مستقبل أولادهم بسبب الإرهاب الذي تمّ وحصل في السنوات الأخيرة. نحن لا نتّهم أحدا ًولا نريد أن نكفّر أحداً، لكن للأسف هناك من كفّرنا.
عندما نعود إلى قُرانا، إن كان في العراق أو في سوريّا، نجد آثار هذا الترهيب الديني، الحرق وتكسير الصلبان والأيقونات وحرق الكنائس، وهذا ما رأيته وعاينته أنا بنفسي، في حين هذه الآثار غير موجودة في مناطق أخرى، وهذا ما يسمّى بعامل انتقامي ناتج عن الكراهية.
اليوم علينا أن نفكّر كيف نساعد أبناء شعبنا للبقاء والتجذُّر في أرضهم رغم كلّ ما حلّ بهم، نحن تعوّدنا التهجير والإضطهاد والسلب والقتل. نتذكّر منذ مئة سنة ما حصل للمسيحيين من أرمن وسريان وكلدان في الدولة العثمانية آنذاك، وماذا حصل أيضاً للمسيحيين في لبنان من تجويع واضطهاد، وما يحصل اليوم لشعبنا في العراق وفي سوريا، وهو أشبه بابادة.
اليوم نريد أن يعود أهلنا ويبقوا متجذّرين، اليوم نحن نتعزّى بما يصلنا من صور وأخبار عن عودة أبنائنا إلى سهل نينوى وإعادة البناء، ولكنّنا نذكر أنّ المساعدات كلّها تأتي من المؤسّسات الكنسية المحلّية والإقليمية والعالمية، وليس من الحكومات التي هي بعيدة عن التفكير بواجباتها لترميم ومساعدة الأهل للعودة إلى بيوتهم. كما نفرح بدعوة الرعاة الكنسيين لمن يرغب بأن يعود إختيارياً، ونحن كبطاركة سعينا ونسعى ونصرخ ونطلب من الدول مساعدتنا للمحافظة على تجذُّر أبنائنا في أرضهم، ونطلب من القيّمين على مصير العالم أن يساعدونا كي نبقى متجذّرين في أرضنا، فنحن لا نريد أن نهجَّر، وهذا ما ذكرناه في اتصالاتنا ولقاءاتنا مع الحكّام والدول. نطالب أن نبقى، حتّى نعيش بكرامتنا الإنسانية ونحافظ على إيماننا.
كيف نساعد أولادنا على العودة؟
علينا أن نطالب الحكومات المحلّية بتأمين الأمن والسلام والإستقرار وإنشاء إدارات ذاتية لتأمين نوع من الأمان والإستقرار لأبنائنا في أرضهم.
من ناحية أخرى، علينا أن نذكر بأنّ لبنان اليوم، على صغر مساحته وعلى قلّة الموارد، أرض خصبة لاستقبال النازحين من مسيحيين وغير مسيحيين، سيّما أولادنا الذين اقتُلعوا من أرضهم بحثاً عن الأمان.
البعض من هؤلاء يريدون العودة إلى أرضهم، ونحن سعينا لدى فخامة رئيس الجمهورية للنظر في أمرهم لإعفائهم من الغرامات، وأبدى فخامته استعداده لذلك مشكوراً. وكذلك نشكر اللواء مدير عام الأمن العام، اللواء عبّاس ابراهيم، ومعالي وزير الداخلية نهاد المشنوق، لسعيهم في هذا الإطار، خاصّةً بالنسبة لعودة العراقيين الذين يحتاجون أن يستقلّوا الطائرات للوصول إلى بلدهم، نحن ممتنّون لهم وسنتابع هذه المساعي حتى نعطي لأولادنا نوعاً من الأمل.
يسوع قال لتلاميذه "أنا هو... لا تخافوا":
نحن مستعدّون لحمل الصليب وبذل الذات من أجل الإيمان بالرب يسوع، لكن يجب أن نعرف كيف نعطي معنى لحمل الصليب بالشهادة للرب بكرامتنا وحتى الإستشهاد، ونحن في الشرق كنيسة شاهدة للرب بحياتها وشهيدة له، لا تخاف أن تبذل حياتها في سبيل إيمانها بالرب يسوع. وكي نطمئن أولادنا، يجب أن تكون هناك إصلاحات حقيقية تعطينا الأمل بالمستقبل.
لقد ذكرتُ وأذكر دائماً مبدأ فصل الدين عن الدولة، حان الوقت كي نعرف أن نقدّم الديانة بمفهوم المطالبة بحرّية الإنسان، ونحن نطالب إخوتنا المسلمين بجميع مرجعياتهم بموقف واضح بقبول الآخر المختلف دينياً. وهنا يجب أن تكون للحكومات والمجالس النيابية الجرأة كي تراجع دساتيرها وقوانينها بما يتناسب مع الحرّية وقبول الآخر والمواطنة. وهذا ضروري لإقناع أبنائنا بالعودة إلى الأرض. نحن ككنيسة لا نتدخّل في شوون الدولة، إنّما نعلّم قول الحقيقة بالمحبّة، وجعل القوانين على مستوى واحد بين جميع المواطنين".
وفي الختام، ألقىالخوري عبده أبو كسم الكلمة التالية:
"بفرح كبير نستقبل غبطته في بيته، فهو مركز جميع البطاركة والأساقفة الكاثوليك.
لقد سعينا جاهدين لإبراز محنة إخوتنا في العراق وسوريا، ونتذكّر زيارتنا معكم ومع الآباء البطاركة الراعي ولحّام وأفرام، إلى أربيل، وكم سعيتم غبطتكم من أجل تخفيف محنة الصليب.
نحن نؤمن أنه بعد الصليب والموت هناك القيامة، وقد بدأت القيامة في العراق وننتظرها في سوريا. اليوم هناك كثيرون يودّون العودة، ولكنّهم بحاجة إلى ضمانات.
المسيحيون مواطنون درجة أولى، علينا أن نعرف كيف نبني الفرح حولنا، مع الشهادة للرب بفرح ودون استسلام.
نحن من هذا المركز نعلي الصوت معكم، مجدِّدين الطلب إلى فخامة الرئيس واللواء عبّاس ابراهيم، كما نطلب من الدول والأمم المتّحدة أن تساعد في إعادة الإعمار.
كما أنّ الإستقرار الأمني بحاجة إلى أن يترافق مع الإستقرار الإجتماعي وإعادة الإندماج بين المواطنين.
نحن مثل حبّة القمح التي تُزرَع في الأرض وتموت، ولكنّها متى ماتت تعطي الحياة".
|