يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال رتبة الصلاة الافتتاحية التي ترأسها غبطته في كاتدرائية سيّدة البشارة للسريان الكاثوليك، المتحف - بيروت، مساء يوم الاحد 19 كانون الثاني 2020:
موعظة غبطة أبينا البطريرك في الصلاة الافتتاحية لأسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس في لبنان
"مجتهدين في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام" (أفسس 4: 3)
إخوتي أصحاب القداسة والغبطة الكلّيي الطوبى
الإخوة أصحاب النيافة والسيادة رؤساء الكنائس في لبنان وممثّليهم
الآباء الخوارنة والكهنة والرهبان والراهبات والشمامسة والإكليريكيين
أيّها الأبناء والبنات الأحبّاء المبارَكون بالربّ
نجتمع اليوم معاً في هذه الكاتدرائية المُشادة على اسم والدة الإله القديسة مريم العذراء سيّدة البشارة، لنفتتح أسبوع الصلاة من أجل وحدة كنائس المسيح. في هذه الفترة الممتدّة من 18 حتى 25 كانون الثاني، نكثّف الصلاة طالبين المغفرة بسبب الأخطاء والشكوك بل الخطايا التي ارتكبناها على مدى العصور، من أنانيّةٍ وفوقيّةٍ وعناد، تناسياً بل تنكّراً لوصية الرب يسوع في صلاته إلى الآب السماوي عشيّة إقباله على الصلب والموت فداءً لجنسنا البشري: "ليكونوا بأجمعهم واحداً كما نحن واحد" (يوحنّا 17: 22).
يسرّنا أن نرحّب بكم جميعاً أيّها الأحبّاء، باسم كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وباسم اللجنة المسكونية في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، فنتشارك جميعاً صلاة الافتتاح لهذا الأسبوع، على مثال الكنيسة الأولى التي كان أعضاؤها يجتمعون معاً ويصلّون سويّةً بقلبٍ واحدٍ وروحٍ واحدة، "مجتهدين في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام"، ومجسّدين المحبّة علامةً مميَّزةً لمشاركتنا في إنجيل الخلاص: لأنّنا جميعاً لدينا "ربٌّ واحدٌ وإيمانٌ واحدٌ ومعموديةٌ واحدة" (أفسس 4: 5).
إنّ الصلاة لأجل الوحدة المسيحية أضحت ضرورةً في العالم، حيث تطالعنا منظّمة الأمم المتّحدة بأنّ المسيحيين هم الجماعة الدينية التي تعاني أنواعاً من الاضطهادات أكثر من أيّ دينٍ آخر. كما تبرز أهمّية الصلاة والسعي لهذه الوحدة في شرقنا الأوسط خاصةً، حيث غنى التعدّد في الإنتماءات الناتجة عن تقاليدٍ وطقوسٍ ولغاتٍ متميّزة، تشكّل في الوقت عينه تحدّياتٍ بل عقباتٍ في طريق الوحدة، ممّا يضعف شهادة المسيحيين في أعين الأكثرية العظمى التي تختلف عنهم. وما القول عن لبناننا الحبيب حيث الحنين إلى وحدة الكنائس يتضاعف ويتعمّق كلّ يومٍ في نفوس المؤمنين، بينما لا تزال كنائسنا عاجزةً عن توحيد الأعياد، لا سيّما الاحتفال بعيد قيامة مخلّصهم، ولا يزال المسيحيون غير مبالين بتحقيق المساواة بين طوائفهم أكثريةً كانت أم أقلّية!
أصغينا إلى قراءة الإنجيل المقدس بحسب القديس يوحنّا، حيث يستودع الرب يسوع تلاميذه وصيةً جديدة، هي قمّة الوصايا وعربون التلمذة الحقيقية له، والأساس الراسخ الذي به ينطلق المؤمن في سعيٍ جادٍّ وحثيثٍ نحو القداسة. هذه الوصية هي المحبّة "أحبّوا بعضكم بعضاً" (يوحنّا 15: 17)، المحبّة التي تُبنى على الإيمان، وتتوطّد بالعمل الصالح، النابع من قلب الإنسان المتمثّل بالله الذي هو المحبّة الكاملة الفائضة بالحبّ على الجميع، الحبّ الذي قاد الآب إلى التضحية بابنه الوحيد، باذلاً ذاته على خشبة الآلام والصلب والموت في سبيل أحبّائه.
"دعوتُكم أحبّائي" (يوحنا 15: 15)، فبفضل الحريّة التي تمنحنا إيّاها المحبّة، نستطيع أن نختار أصدقاءنا وأن يختارنا الآخرون كأصدقاءٍ وأحبّاءٍ لهم. "لم تختاروني أنتم، بل أنا اخترتُكم" (يوحنا 15: 16)، يقول يسوع لكلٍّ منّا. تسمو علاقتنا بيسوع ومحبّتنا له بمقدار سموّ علاقات المحبّة والتعاضد فيما بيننا والتفاعل المخلص مع مجتمعنا، وهي تخبرنا عن محبّة الله العميقة والتي لا تنضب لجميعنا.
أيّها الأحبّاء،
إنّ الوحدة أمرٌ ضروري وأساسي لأداء الشهادة الحقيقية للرب. صحيحٌ أننا لم نبلغ الوحدة المنظورة حتى الآن، إلا أنّنا قطعنا أشواطاً طويلةً من اللقاء والحوار والتقارب الليتورجي والروحي واللاهوتي، مع إقرارنا بأنّ العلمانيين سبقونا في مغامرة الوحدة هذه. ولكن تبقى أمورٌ عديدةٌ بحاجةٍ إلى متابعةٍ بالحوار المشترك، بروح الانفتاح والمحبّة الأخوية. لذا يحثّنا الرب على عيش المحبّة بالصدق مع أنفسنا، والإنفتاح المستمرّ على بعضنا البعض، وذلك بروح الإصغاء المتواضع إلى يسوع معلّمنا ومثالنا، راجين أن يتعرّف علينا الربّ ويعترف بنا تلامذةً له متى جاء.
"هوذا الآن وقت القبول الحسن، هوذا الآن يوم الخلاص" (2 كورنثوس 6: 2)، إنّ الرب يدعونا اليوم على لسان مار بولس رسول الأمم إلى أن نعمل الآن وبدون تراخٍ أو تأخير، فنهيّئ الأطر اللازمة والطرق المؤدّية إلى الوحدة الكاملة، أمنية المسيحيين جميعاً في كلّ أنحاء العالم. هذه الوحدة مطلوبةٌ الآن بإلحاحٍ وأكثر من أيّ وقتٍ مضى، سيّما في ظلّ ما يعيشه العالم من تقلّباتٍ وتغيّرات، بسبب مرض اللامبالاة الدينية وتفشّي الإلحاد أو التطرّف الديني الخطير، لا بل معاداة بشرى الإنجيل التي تسعى الكنيسة أن تقدّمها لمن يجهلها وهو متعطّشٌ إليها. لذا وجب علينا أن نستلهم نعمةً وحكمةً وتنوُّراً من لدن الله تعالى، كي نتفهّم المتغيّرات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية في عالمنا اليوم، ونكون رسلاً حقيقيين نشهد لبشرى الخلاص شهادةً حيّةً واحدةً موحّدةً، كي يرى جميع الناس أعمالنا الصالحة ويمجّدوا الآب السماوي.
ولكن، كيف لنا أن نبلغ هذه الوحدة ونحن هنا في لبنان "الرسالة" نرى الطوائف تتسابق والذراع المدني في التمييز بين أكثرية وأقلية وفي المطالبة بالحصص. ونجد واجباً علينا أن نناشد من هذا المكان المقدس جميع المسؤولين السياسيين الذين ينعتهم الشعب المنتفض بحقّ أنّهم لا يستحقّون شرف هذا العمل النبيل، كي يبادروا على الفور إلى تشكيل حكومةٍ فاعلةٍ مؤلّفةٍ من اختصاصيين مستقلّين وغير ملوَّثين بالفساد أو مشاركين في السرقات وهدر المال العام. ونعرب عن تضامننا مع جميع المواطنين وبخاصّة الشباب الذين يتابعون حراكهم المطالب بأبسط حقوق العيش الكريم، وينادون دون كللٍ بدولةٍ نزيهةٍ تحافظ على كيان الوطن وتنتشل الاقتصاد من الوهدة السحيقة التي سقط فيها. ونتمنّى بإلحاح أن يحافظ هذا الحراك الشعبي على سلميّته صوناً لأهدافه النبيلة، بالتعاون البنّاء مع القوى الأمنية والعسكرية المخلصة والساهرة على أمان الوطن وسلامة أراضيه وجميع مواطنيه.
صلاتنا في هذا المساء من أجل الوحدة علامة رجاءٍ حيٍّ للمسيحيين في العالم كلّه، وبشكلٍ خاص لكنائسنا في الشرق الأوسط، سيّما في سوريا الجريحة التي يعاني مواطنوها الصعوبات والآلام نتيجةً للصراعات الهدّامة التي ابتُلِيت بها منذ تسع سنوات، وفي العراق العزيز الذي لا يزال يكابد النزاعات والانقساماتبسبب الصراعات السياسية والطائفية ممّا دفع بالمسيحيين إلى هجرة أرضهم ووطنهم، ومصر والأراضي المقدسة، كما في بلدان الانتشار حيث تشتّت أهلنا.
هذا ما نطلبه من الربّ يسوع في هذا المساء وفي الأيّام القادمة من هذا الأسبوع المبارك المخصّص للصلاة من أجل الوحدة، مقتدين بآبائنا الملافنة السريان الذين ابتهلوا إلى الله في صلواتهم كي يجمع أبناءه المؤمنين إلى واحد، حسبما نصلّي في صلاة الفرض الأسبوعية البسيطة "الشحيمة": "ܡܫܺܝܚܳܐ ܪܰܒ ܪ̈ܳܥܰܘܳܬܳܐ ܟܰܢܶܫ ܥܳܢ̈ܳܟ ܕܰܡܒܰܕܪܳܐ أيّها المسيح ربّ الرعاة، اجمع خرافك المبدَّدة".
ختاماً، إذ يسرّنا أن نتشارك في الصلاة، نضرع إلى الله كي ينشر أمنه وسلامه في العالم بأسره. إنه السميع المجيب، له المجد والشكر والسجود على الدوام، آمين.
|