يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، في قداس السيامة الأسقفية للمطران مار أثناسيوس فراس دردر النائب البطريركي في البصرة والخليج العربي، مساء يوم الجمعة 30 تشرين الأول 2020، في كاتدرائية سيّدة النجاة، الكرادة – بغداد، العراق:
موعظة سيامة المطران مار أثناسيوس فراس دردر
30 تشرين الأول 2020، كاتدرائية سيّدة النجاة، بغداد
30 تشرين الأول 2020
"تشدّد وتشجّع واعمل... لأنّ الرب الإله إلهي معك"
سلام وشكر وترحيب بالحضور: أساقفة، خوارنة، كهنة، رهبان، راهبات، ذوي الأسقف الجديد، والدته وشقيقته،المؤمنين من إخوة وأخوات...
جئنا كي نحتفل بسيامة مار أثناسيوس فراس دردر الذي انتخبه مجمع كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وثبّتَ الكرسي الرسوليانتخابَه، أسقفاً نائباً بطريركياً على البصرة وبلدان الخليج العربي. يشاركني في رتبة الرسامة ثلاثةٌ من إخوتي الأساقفة يمثّلون مجمَعَنا الأسقفي، وهم: مار أفرام يوسف عبّا رئيس أساقفة بغداد وأمين سرّ السينودس المقدس، ومار يوحنّا بطرس موشي رئيس أساقفة الموصل وتوابعها، ومار نثنائيل نزار سمعان مطران أبرشية حدياب – أربيل وسائر إقليم كوردستان.
أشكركم أحبّائي بالرب، وقد جئتم من قريب ومن بعيد، من العراق وأكثر من بلد، رغم الآفة الوبائية المخيفة التي أصابت العالم، حماكم الرب بشفاعة أمّنا العذراء مريم "سيّدة النجاة". إنّ مشاركتكم هذه هي تأكيد عن محبّتكم لأبونا فراس، المطران الجديد، أنتم الآباء الخوارنة والكهنة، والشمامسة والرهبان والراهبات، والأهل والأصدقاء، مع الأخويات والحركات الرسولية وجوقة الأناشيد والشباب والمنظّمين لهذا الاحتفال. وأرى واجباً أن أخصّ بالشكر والترحيب وفد كنيستنا في البصرة الذين عانوا الكثير في السنوات الأخيرةمن غياب الراعي الدائم لكي يخدمهم روحياً ورعوياً، وجاؤوا اليوم يشاركوننا في الفرح والرجاء، وكذلك الوفد القادم من بغديده – قره قوش الغالية، ومن رعايانا من سهل نينوى وكوردستان، كهنةً وراهباتٍ ومؤمنين.
في هذه الأزمنة الحرجة التي تمرّ بها الإنسانية، نذكّر الجميع بأنّه ليس من حقّ حرّية الرأي إهانة الديانات، ونندّد بالعنف الذي يُرتكب باسم أيّ دين في أيّ مكان.
نلتقي في كاتدرائية "سيّدة النجاة" الشاهدة لإنجيل المحبّة والسلام، والشهيدة من أجل الرب يسوع فادينا، في عشية الذكرى العاشرة لشهدائنا الأبرار، الذين أطلقتْ الأبرشيةُ بهمّة راعيها الجليل أخينا مار أفرام يوسف، دعوى تطويبهم في المجمع الروماني الخاص بالقديسين.
جئنا وقلوبنا عامرة بالرجاء والمسامحة والغفران، دون أن ننسى هولَ تلك المجزرة، لأنّنا شعب الرجاء، على مثال آبائنا وأجدادنا الذين نقلوا إلينا الإيمان. جئنا لنعبّر عن قِيَم التآخي والسلام، متشبّثين بجذورنا في العراق الحبيب، مهما عصفت زوابع الكراهية والإجرام.
هو الرب يسوع، رئيس الأحبار والراعي الصالح، الذي يختار تلاميذه لينطلقوا للرسالة، هو القائل: "لستم أنتم الذين اخترتموني، بل أنا اخترتُكم وأقمتُكم لتنطلقوا وتأتوا بثمار وتدومَ ثمارُكم..." (يو 15: 16). ويأتي اختياره لهم، لا لأنهم يتميّزون على إخوتهم بمفهوم العالم، بل بفيض رأفته الإلهية وبحكمته غير المدركة.
لقد اختار الربُّ بصوت آباء مجمعنا المقدس أبونا فراس أسقفاً، كي يسير على خطاه، ويقوم برسالة الخدمة الأسقفية كنائبٍ بطريركي في البصرة وبلاد الخليج العربي. ليس هدفُ هذه الأسقفية الكرامة الدنيوية الزائلة، ولا الإستعلاء على الآخرين، بل التجاوبَ مع دعوة الفادي، بخدمةٍ غير مشروطةٍ ومجانيةٍ تسعى لتقديس المؤمنين بالأسرار الخلاصية، وبالتعليم الإيماني والأخلاقي القويم، وبالرعاية الأبوية، وملؤها العدل والرحمة والمحبّة، والسعي لإقامة علاقاتٍ أخويةٍ صادقةٍ وسليمةٍ مع الأغلبية من المواطنين في البصرة ومحيطها، وحيث يُطلَب من رسالته في بلاد الخليج العربي.
فكما كانت التلمذة للرب يسوع مسؤوليةً تعني التزاماً مجبولاً بالتضحيات والمعاناة: "مَن أراد أن يتبعني، فليحمِل صليبه ويتبعني"، فهي عينها التي التزم بها اليوم الأسقف الجديد. لقد عرفناه حيثما انتدبناه للخدمة، إن في لبنان أو هولندا أو في المملكة الأردنية، كاهناً متفانياً، متحلّياً بالتواضع والصمت، وناجحاً في مبادراته الروحية والرعوية. وعلى طلبنا، لم يتردّد بل توجّه وتعرّف واختبر نوعية التحدّيات والصعوبات والأخطار المحتملة في النيابة البطريركية التي دُعي لخدمتِها. وهذا يُشيرُ إلى الشعار الذي اتّخذه، وهو وصية داود لابنه سليمان، أن: "تشدّد وتشجّع واعمل... لأنّ الرب الإله إلهي معك" (سفر الأخبار الأول 28: 20).
لقد عاهد نفسه أمام الرب والكنيسة المقدسة، أن يلبي نداء التلمذة للرب، باذلاً كلّ ما في وسعه للنهضة بالنيابة البطريركية التي عهدناها إليه، والتي نُكِبَتْ بالإهمال لزمن غير قصير. هو مدركٌ بأنه مدعو كي يرشد ويعزّي ويوجّه بروح أبوّية ووداعة إنجيلية، المؤمنين الذين اختبروا في السنوات الأخيرة أنواعاً من الضيق والتشتّت، وكي يشاركهم في همومهم وأوجاعهم، وفي آمالهم وأفراحهم، هم الذين مَكثوا متجذّرين في أرضهم، متجدّدين بالرجاءٍ فوق كلّ رجاء. كما أنّه سيتواصل مع العديدين منهم الذين أُرغِموا على النزوح بعيداً عن سكناهم في جنوب العراق.
لن يتوانى الأسقف الجديد عن بناء ما تهدّم من دور العبادة والمؤسّسات والأوقاف، إن في البصرة أو في العمارة، ساعياً لإحياء الفعاليات الرعوية والاجتماعية، ونشر التقوى والثقافة والعطاء. وكذلك سيبذل الجهود المناسبة لتأسيس الإرساليات التي ستُعنى برعاية أولادنا الروحيين في بلدان الخليج العربي. إنّه عالمٌ بأنّ قواه الذاتية وكفاءاته البشرية وحدها، وما حصّل من معرفة وخبرة عن أبرشيته العتيدة لا تكفيه، بل سيضع اتّكاله أولاً وأخيراً على الرب الذي اختاره ليرافقه ويذكّره دوماً أن: "تكفيك نعمتي"، حسب الوعد الذي قطعه الرب مع بولس الرسول. أجل، بدورنا نذكّره، بأنّ وحدها النعمةُ الإلهيةُ هي التي ستقوّيه وتبارك رسالته، وهي ستكون مكافأته الحقيقية على أتعابه المثمرة.
وفي هذا كلّه، سيبذل جهدَه ليتابع مسيرة أسلافه الرعاة الأمناء، أساقفةً وكهنةً، الذين خدموا في البصرة والعمارة، وبذلوا كلّ ما بوسعهم للحفاظ على الرعية ومؤسّساتها، وأدّوا رسالة المحبّة والشهادة للأخوّة الصادقة نحو الجميع، إن في زمن السلم والإزدهار، وإن في فترات القلاقل والمعاناة.
"كُن مثالاً للمؤمنين بالكلام والسيرة، بالمحبّة والإيمان والعفاف..."
هذا ما استمعنا إليه في رسالة بولس رسول الأمم الأولى لتلميذه تيموثاوس، وفيها يذكّره: بأن يكون قدوة للنفوس المؤتمَنة له، قارناً كلامه في الموعظة وفي التعليم، بسيرةٍ صالحةٍ لا لومَ فيها ولا رياء، ومجسّداً المحبّة في الخدمة المجّانية، وراسخاً في الإيمان، وملتزماً بحياةٍ عفيفةٍ في رسالته وعلاقاته.وهذا ما نوصي به بدورنا أبونا فراس، الأسقف الجديد، ليتذكّر أنّ عليه أن يحافظ على أمانته لمعلّمه الفادي ولتعليم الكنيسة الجامعة، ولتراث كنيسته السريانية الأنطاكية، فخوراً بكنوزها الروحية والطقسية.
وكما أرسل الربّ يسوع تلاميذه "ليروحِنوا" العالم، لا لينقادوا إلى روح العالم، نعهد إليه هذه الرسالة، ونوصيه أن يسهر على تغذية نفوس المؤمنين بوديعة الإيمان والأخلاق التي نادتْ بها الكنيسة منذ نشأتها، دون مساومة أو نقصان.وله من مار أثناسيوس الإسكندري، وقد اتّخذه اسماً أبوياً لأسقفيته وشفيعاً في خدمته، المثال الناصع للأسقف المدافع عن حقائق إيماننا الثابتة، وأعظمها سرّ الثالوث الأقدس، وسرّ الفداء الذي حقّقه من أجلنا الإبنُ، الكلمة المتأنّس، المساوي لأبيه في الجوهر، حسبما أعلنه بطرس أوّل الرسل في الإنجيل الذي سمعناه: "أنت هو المسيح ابن الله الحيّ!"، وكما جاء في أوّل المجامع المسكونية، في نيقية.
وها هم آباؤنا السريان يؤكّدون على اقتفاء الأساقفة الرعاة مثال الرب يسوع راعي الرعاة:
«ܫܠܳܡܳܐ ܥܰܡܗܽܘܢ ܕܰܢܒܺܝ̈ܶܐ ܘܕܰܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܘܣܳܗܕ̈ܶܐ܆ ܐܰܪ̈ܕܺܝܟܠܶܐ ܕܗܰܝܡܳܢܽܘܬܳܐ ܐܳܦ ܥܰܡܽܘ̈ܕܶܐ ܕܥܺܕܰܬ ܩܽܘܕܫܳܐ. ܕܣܰܝܒܰܪܘ̱ ܗ̱ܘܰܘ ܟܽܠ ܐܽܘܠܨܳܢܺܝ̈ܢ ܡܶܛܽܠ ܡܳܪܰܢ܆ ܘܰܢܦܰܩܘ̱ ܢܰܦܫ̈ܳܬܗܽܘܢ ܒܳܬܪܶܗ܆ ܐܰܝܟ ܕܙܰܡܰܪ ܕܰܘܺܝܕ܆ ܡܫܺܝܚܳܐ ܐܰܠܳܗܳܐ ܒܰܨܠܰܘ̈ܳܬܗܽܘܢ ܪܰܚܶܡ ܥܠܰܝܢ».
"السلام مع الأنبياء والرسل والشهداء، مهندسي الإيمان وأعمدة الكنيسة المقدّسة. فقد احتملوا كلّ الضيقات في سبيل ربّنا، وسكبوا ذواتهم في إثره، كما رنّم داود، أيّها المسيح الإله، بجاه صلواتهم ارحمنا" (من صلاة مساء الخميس في كتاب الصلوات الإشحيمية البسيطة).
وعلى خطى مار أثناسيوس، المنارة بين آباء كنيسة القرن الرابع، نذكّر الأسقف الجديد بألا يرضخ لنظرياتٍ وممارساتٍ تسوّقها اليوم منظّماتٌ وحركاتٌ مشبوهةٌ، إن من خارج الكنيسة وإن من داخلها. وهي اجتهاداتٌ وسلوكياتٌ تناقض أخلاقيتنا المسيحية، بحجّة أنّ على الإيمان أن يرافق التطوّر الحاصل في البلاد الغربية. على الأسقف الجديد أن يدافع عن الحياة الإنسانية من الحبل وحتى الممات، وأن يتمسّك بقدسية سرّ الزواج كأساسٍ للعائلة، "الكنيسة البيتية"، النابعة من ميثاق الحبّ الزوجي بين الرجل والمرأة، وثمرتُه إنجاب الأولاد، الذين هم عطية الله الخالق. فالطفل ليس سلعةً تُباعُ وتُشترَى، أو ألعوبةً بيد بالغين يبحثون عن لذّاتهم الأنانية. من حقّ كلّ طفلٍ أن ينشأ في عائلةٍ قوامها أبٌ وأمّ!.
"أنا هو الراعي الصالح، والراعي الصالح يبذل نفسه عن الخراف"
في الإنجيل الذي سيتلوه علينا مار أثناسيوس فراس بعد سيامته، يقدّم لنا المعلّمُ الإلهي صورةَ الأسقف الحقيقي. فعلى مثال يسوع الراعي الصالح، سيتعرّف الأسقف الجديد على رعيته بأسمائها، سيدعوها لمرافقته على طريق القداسة، سيظلّ يحنو عليها ويحميها من اللصوص الأشرار الذين لا ضميرَ لهم، ويعمل على جمعها بروح الوحدة، باذلاً نفسه من أجلها، بالمحبّة والوداعة.
نرافق المطران الجديد بصلواتنا الحارّة وأدعيتنا الصادقة، إذ أنّه مدعوٌّ للقيام، في الوقت الحاضر، بدور الأسقف والكاهن معاً في النيابة البطريركية التي دُعي لخدمتها بأمانةٍ في جنوب العراق، ولتأسيس إرسالياتٍ وكنائس في بلدان الخليج العربي. ونعاهده بمحبّتنا وتضامننا، وندعو له كي يكون الممثّل الصالح لكنيستنا، وذلك بانفتاحه الإيجابي على الجميع، على اختلاف معتقداتهم وآرائهم وثقافاتهم، مستنيراً دوماً بأنوار الروح القدس، من حكمةٍ وفهمٍ ومشورة. كذلك نوصيه أن يسترشد بالتوجيهات الحكيمة التي سيزوّده بها إخوته الأساقفة، لا سيّما سيدنا مار أفرام يوسف عبّا، سلفه الأمين في خدمة النيابة البطريركية في البصرة، الذي رعاها الرعاية الصالحة، وهو صاحب الخبرة الرعوية والحكمة والدراية.
وخير ما نختم به ابتهال لمار يعقوب السروجي عن الرسل والآباء:
«ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܰܐܒܳܐ ܕܰܓܒܳܐ ܫܠܺܝ̈ܚܶܐ ܠܟܳܪܽܘܙܽܘܬܳܐ܆ ܘܣܶܓܕܬܳܐ ܠܰܒܪܳܐ ܕܫܰܕܰܪ ܐܶܢܽܘܢ ܠܰܐܪܒܰܥ ܦܶܢܝ̈ܳܢ. ܬܰܘܕܺܝ ܠܪܽܘܚܳܐ ܕܚܰܟܶܡ ܐܶܢܽܘܢ ܒܟܽܠ ܠܶܫܳܢܺܝ̈ܢ܆ ܘܰܢܦܰܩܘ̱ ܐܰܟ̣ܪܶܙܘ̱ ܬܠܺܝܬܳܝܽܘܬܳܐ ܚܰܕ ܐܰܠܳܗܳܐ».
"المجد للآب الذي اختار الرسل للكرازة، والسجود للإبن الذي أرسلهم إلى الجهات الأربعة. الشكر للروح الذي فقّههم بكلّ اللغات، وخرجوا يكرزون بالثالوث الإله الواحد" (من صلاة مساء الخميس في كتاب الصلوات الإشحيمية البسيطة).
|