يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النص الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الأنطاكي، في القداس الإلهي وسيامة ثلاثة مطارنة جدد، هم: مار يعقوب جوزف شمعي، ومار أفرام إيلي وردة، ومار اسحق جول بطرس، وذلك في الكنيسة الكبرى في دير سيّدة النجاة – الشرفة، درعون – حريصا، لبنان، صباح يوم السبت 18 حزيران 2022:
"... كُنْ مثالاً للمؤمنين، بالكلام والسيرة، والمحبّة والإيمان، والعفاف... لا تُهمل الموهبةَ التي فيك..." (1 تيموثاوس 4: 4).
ترحيب بالحضور: الكنسيين، المدنيين، الأهالي، وفود الرعايا، القادمين من بعيد وقريب
أيّها الأحبّاء،
نحتفل اليوم بالذبيحة الإلهية لسيامة ثلاثة مطارنة مُنتخَبين جدد، جوزف شمعي مطراناً رئيس أساقفة للحسكة ونصيبين - سوريا، وإيلي وردة مطراناً للقاهرة - مصر ونائباً بطريركياً على السودان، وجول بطرس مطراناً في الدائرة البطريركية.
لقد انتخبهم مجمع أساقفتنا في أيلول المنصرم، وثبّت البابا فرنسيس انتخابهم كي يتكرّسوا بالمحبّة والتفاني والنزاهة، لرعاية شعب الله الموكَل إليهم. إنّها الروح السينودسية الحقيقية التي تميّز كنائسنا البطريركية الشرقية.
"... كُنْ مثالاً للمؤمنين، بالكلام والسيرة، والمحبّة والإيمان، والعفاف... لا تُهمل الموهبةَ التي فيك..." (1 تيموثاوس 4: 12، 14). هذه هي التوصية التي يوجّهها بولس رسول الأمم إلى تلميذه المحبوب تيموثاوس. وهي توصية تتضمّن أهمّ الفضائل التي يجب أن يتحلّى بها كلُّ معمَّد، لا سيّما الكاهن والأسقف الذي ينال ملء الكهنوت، المدعوّين لخدمة شعب الله حسب قلب المعلّم الإلهي.
لقد استجاب المطارنة المنتخَبون للنعمة الإلهية. قَبِلوها بحرّيتهم وقناعتهم، وتعهّدوا ألّا يُهملوها طوال حياتهم، لأنّها موهبة فريدة ومميَّزة من كنز المراحم الإلهية. وسيامتُهم تتمُّ اليوم في الزمن الطقسي للعنصرة، أي حلول الروح القدس، وانطلاقة الكنيسة لنشر ملكوت الله. واليوم هو أيضاً عيد مار أفرام، وكان التقليد أن نحتفل بعيد ملفاننا وشفيع كنيستنا السريانية في دير الرهبان الأفراميين في الشبانية.
استمعنا إلى كلمات بولس رسول الأمم الذي يوصي تلميذه تيموثاوس: "موهبة خاصة"، وعلى هذه الموهبة أن تنمو وتُـثمر بالفضائل التي تتجسّد دون كذب ورياء في خدمته. فمن لبّى نداء الأسقفية مدعوٌّ أن يكون مثالاً لإخوته الكهنة معاونيه، وللمؤمنين في أبرشيته التوّاقين أن يروا أسقفهم يبرهن عن مصداقيته في عيش دعوته قولاً وفعلاً، وذلك بالمحبّة التي لا تعرف تمييزاً أو شروطاً، وبالإيمان الراسخ، وبعفّة النفس والجسد، لأجل بناء الملكوت السماوي.
وفي إنجيل يوحنّا الذي سيعلنه الأساقفة الجدد بعد سيامتهم، يقدّم لنا الرب يسوع ذاتَه راعياً صالحاً يعرف رعيته بأسمائها، يجمعها، يحنو عليها، ويحميها، يحبّها حتّى بذلِ نفسه من أجلها. وعلى مثال يسوع الفادي، يتعهّد الأساقفة الجدد بخدمة النفوس التي دُعُوا أن يكونوا لها المسؤولين أمام الله والكنيسة عن: تقديسها، وتعليمها، ورعايتها. سيقومون بمسؤولياتهم الأسقفية بروح الأب والأخ، في خدمةٍ نزيهةٍ، يُرفِقون كلامهم بمصداقية الفعل المُقنِع والمثال الصالح.
يعرف أحبّاؤنا الأساقفة الجدد أنّ الدعوة إلى الخدمة الأسقفية ليست وظيفةً بلغوا إليها بعلمِهم المتميّز أو بكفاءتهم الشخصية، فعُدَّتْ لهم "كرامة" بالمفهوم البشري وبمديح المعجَبين، كما يظنُّ بعضٌ من الذين وصلوا إليها. عليهم أن يتجنّبوا الغرور، ويعيشوا بالتواضع المطلوب من المدعوّين! "... أنا اخترتُكم، يقول الرب، وأقمتُكم لتنطلقوا وتأتوا بثمارٍ وتدومَ ثِمارُكم..." (يو 15: 16). هي نعمة الرب المجّانية التي ستكفيهم، إن وضعوا ثقتهم الكاملة بمعلّمهم الإلهي، واتّكلوا عليه كلّياً، بالرغم من ضعفهم ومحدوديتهم، ومهما كَثُرت الصعوبات وقَوِيت التحدّيات.
"... أمّا أنتَ يا رجلَ الله... اسعَ في إثر البِرّ والاستقامة والإيمان والمحبّة والصبر والتواضع..." (الرسالة الأولى إلى تيموثاوس 6: 11)، كأنّها توصية يكرّرها مار بولس لتلميذه تيموثاوس، لأنّه مدركٌ تماماً كم هي خطيرة رسالة الأسقف أمام الله والكنيسة، وهي رسالة ثلاثية، على الأسقف الالتزام أن يعيش بمقتضاها. وبدوري أكرّر لكم أبعاد رسالتكم الأسقفية ذات الإلتزام الثلاثي، بالحق والنزاهة والمصداقية:
الإلتزام الأول: أن تعيشوا بصدق الروحانية الإنجيلية الصافية في عالمٍ يسعى بكلّ الطرق إلى فرض المادّية والعلمنة باسم الحرّيات والأنانية الفردية. إنّكم مؤتَمَنون على الإيمان الذي نقله إلينا آباؤنا القديسون، وعلى القيم الأخلاقية المسيحية. تنادون علناً بقيم العائلة التي هي الكنيسة الأولى، وبقدسية سرّ الزواج الذي يوحّد الرجل والمرأة،وبالدفاع عن الحياة في جميع مراحلها، من الحَبَل حتّى المَمات.
والإلتزام الثاني: أن تخدموا بروح المعلّم الإلهي الذي قال: "... ما جئتُ لأُخدَم بل لأَخدُم وأبذل نفسي..." وتُبدعوا بالبذل والعطاء، منفتحين على علامات الأزمنة، وترافقوا الجميع، لا سيّما المساكين وُدَعاء القلوب، والمهمَّشين ذوي الحاجات الخاصّة، والمسنّين المنسيين، وأن تفهموا بشكلٍ خاص حاجات شبيبتنا وطموحات الغيورين على الكنيسة بين الأجيال الصاعدة التوّاقة إلى حناننا وتشجيعنا وتقديرنا. هكذا تشاركون في مسيرة الكنيسة الجامعة، في الإعداد للسينودس الروماني المقبل عام 2023، والذي سيكون موضوعه: "الكنيسة السينودسية: شركة وشراكة ورسالة"، يإلهامات الروح القدس.
أمّا الالتزام الثالث: فهو الأمانة لتراثنا السرياني العريق، طقساً وتقليداً ولغة. أنتم مدركون أنّ هذا التراث الذي نفتخر به ونسعى لإحيائه والمحافظة عليه، لأنّه يعود إلى عصور الكنيسة الأولى، يجابه خطرَ النسيان والإهمال، ويواجه تهديداً حقيقياً من قِبَلِ الثقافات المستورَدة والمستقوية.
كنيستكم السريانية تناديكم، وهذه الجماعة المؤمنة والصديقة تصلّي من أجلكم، كي تعيشوا بفرحٍ دعوتكم الأسقفية في خدمةٍ جديدةٍ متجسّدةٍ بالتقوى والتواضع والصبر والإحتمال، ببذل الذات وسخاء العطاء، بالتجرّد عن المنفعة الشخصية، والترفُّع عن المكاسب المادّية، شخصيةً كانت أم عائلية. فأنتم مدركون تماماً بأنّ من أراد اتّباع يسوع، لا يضع شروطاً لخدمته، ولا يحمِّل جميلاً للجماعة التي دُعي لخدمتها، بل يتفانى من أجل خلاصها.
لقد طالعتم دون شكّ نشيد المحبّة لرسول الأمم (أولى كورنثوس: 13)، على محبّة الأسقف للرب والكنيسة والمؤمنين ألّا تعرف حدوداً ولا شروطاً.
في صلاة استدعاء الروح القدس خلال طقس السيامة الأسقفية، والتي سنتلوها بعد قليل، يصلّي البطريرك:
«ܐܳܘ ܠܡܰܘܗܰܒܬܳܐ ܕܪܽܘܚܳܐ ܩܰܕܺܝܫܳܐ.ܐܳܘ ܠܐ̱ܪܳܙܳܐ ܪܰܒܳܐ ܕܠܳܐ ܡܶܬܡܰܠܰܠ.ܐܳܘ ܠܰܬܡܺܝ̈ܗܳܬܳܟ ܡܳܪܝܳܐ ܕܰܠܘܳܬ ܓܶܢܣܰܢ.ܡܳܪܶܐ ܟܽܠ ܫܽܘܒܚܳܐ ܠܳܟ ».
وترجمتها: "يا لموهبة الروح القدس العظيمة، يا للسرِّ العظيم الذي لا يُسبَر. يا لعجائبك يا ربُّ نحو جنسِنا البشري، يا سيّدَ الكلّ لك المجد".
يا سيّدة النجاة تشفّعي فينا، يا مار أفرام صلِّ لأجلنا، يا مار اغناطيوس الأنطاكي ويا أيّها الطوباوي فلابيانوس ميخائيل وجميع القديسين والشهداء، صلّوا لأجلنا. آمين.
|