ننشر فيما يلي النصّ الكامل للموعظة التأبينية التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال رتبة جنّاز ودفن المثلّث الرحمات مار غريغوريوس الياس طبي رئيس أساقفة أبرشية دمشق سابقاً للسريان الكاثوليك، وذلك صباح يوم الجمعة 28 نيسان 2023، في كنيسة دير سيّدة النجاة البطريركي – الشرفة، درعون – حريصا، لبنان:
جناز ودفن المثلَّث الرحمات مار غريغوريوس الياس طبي
الجمعة 28 نيسان 2023، دير الشرفة
Son Excellence Révérendissime Archevêque Paolo BORGIA, Nonce Apostolique au Liban
أصحاب النيافة والسيادة الإخوة المطارنة ممثّلي أصحاب الغبطة إخوتنا البطاركة الكلّيي الطوبى
أصحاب السيادة الإخوة المطارنة آباء السينودس المقدس لكنيستنا السريانية الكاثوليكية
أصحاب النيافة والسيادة الإخوة مطارنة الكنائس الشقيقة
الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والمؤمنين
إخوة المثلَّث الرحمات وأخواته، وأفراد عائلة طبي وجندي، وأنسباءهم المحترمين من الشرق وبلاد الغرب
أيّها المؤمنون المبارَكون بالرب
"نحنُ نعلمُ أنَّهُ إذا هُدِمَ بيتُنا الأرضي، وما هو إلا خيمة، فلنا في السمواتِ مَسكِنٌ من صُنعِ الله، بيتٌ أبديٌ لم تَصنعْه الأيدي" (2قور 5: 1)
يؤكّد لنا القديس مار بولس رسول الأمم أنّ حياتنا الأرضية لا بدّ وأن تتكلّل بالقيامة، لأنّ الرب يسوع الفادي بانبعاثه أعطانا عربون قيامتنا نحن أيضاً.
أيّها الأحبّاء،
انتقل المثلَّث الرحمات مار غريغوريوس الياس، رئيس أساقفة دمشق سابقاً، من هذه الفانية، مسلّماً حياته لمشيئة الآب السماوي، بعد أن لبّى نداء الخدمة الكهنوتية التي عاشها بالتفاني مدّة 54 سنة. كما دعَته الكنيسة لتسلّم للرعاية الأسقفية لأكثر من 27 سنة، إن في الكرسي البطريركي وفي أبرشية لبنان، وإن في أبرشية دمشق، حيث خدم ورعى الأبرشية مدّة 18 عاماً.
لقد لبّى دعوة الرعاية والتقديس والتدبير، سواء هنا في لبنان أو في أبرشية دمشق العاصمة، وعمل بما حباه الله من مواهب وطاقات لخير كنيسته وأبرشيته، أكانت علمية أو لغوية أو قانونية، في ظلّ معاناة الحرب التي ألمّت بلبنان، ثمّ بسوريا، حيث غطّت قرابة نصف فترة خدمته الأسقفية.
نشأ المثلَّث الرحمات مار غريغوريوس الياس في عائلة مسيحية صالحة وتقيّة. وُلِدَ في ماردين، وانتقل مع أفراد عائلته إلى مدينة القامشلي، إثر النزوح إلى سوريا من ماردين السريانية العريقة والشهيدة، التي اشتهرت بشهدائها وشهيداتها، من أساقفة وكهنة ورهبان وراهبات ومؤمنين. وكان سليلَ آباء وأجداد عانوا الاضطهادات المريعة، ولكنّهم ظلّوا أمناء للرب يسوع الفادي، ولم يكفّوا عن اللجوء إلى والدته مريم العذراء في زمن الشدّة والاضطهاد والمحن، يبتهلون إليها كشفيعة قادرة وأمّ حنون.
تابع دورسه الابتدائية في مدرسة الطائفة في القامشلي، ثمّ دعاه الرب منذ صغره كي يتبعه في درب التكرّس الكهنوتي، فقصد إكليريكية "سيّدة النجاة" الصغرى في دير الشرفة عام 1953، حيث نهل، مع الدراسة، روحانية التلمذة للمعلّم الإلهي مدّة سبع سنوات. وكنّا من زملائه، إن في إكليريكية سيّدة النجاة البطريركية الصغرى، وإن في كلّية انتشار الإيمان في روما، حيث نال شهادتي الليسانس في الفلسفة واللاهوت، لما يقرب من اثنتي عشرة سنة، وكنّا نتهيّأ لسرّ الكهنوت بكلّ اندفاع وحماس، ونفكّر كيف نستطيع أن نخدم كنيستنا المنتشرة في بلاد شرقنا العزيز.
وفي عام 1961، أُرسِل الإكليريكي الياس لتحصيل العلوم الكهنوتية، إلى الجامعة الأوربانية في روما، مع رفاق صفّه، ومن بينهم المثلَّث الرحمات مار يعقوب بهنان هندو، رئيس أساقفة الحسكة ونصيبين سابقاً، وهناك نال الإكليريكي الياس شهادتَي الليسانس في الفلسفة واللاهوت. وفي 4 أيّار 1969، سيمَ كاهناً بوضع يد المثلَّث الرحمات مار اقليميس اغناطيوس منصوراتي المعتمَد البطريركي في روما، مع رفيقه وصديق العمر المطران بهنان هندو، إن في سنوات الإكليريكية في لبنان وروما، وإن في رعية مار بطرس وبولس في القامشلي. ثمّ أُرسِل مجدَّداً إلى روما كي ينال الدكتوراه في القانون الكنسي.
وقد تمّت سيامتنا الأسقفية نحن الإثنين، بوضع يد المثلَّث الرحمات مار اغناطيوس أنطون الثاني حايك، في السابع من كانون الثاني لعام 1996، في كنيسة مار بطرس وبولس في القامشلي. وخدم في لبنان بصفة معاون ونائب بطريركي ورئيسٍ للمحكمة الكنسية، وممثّلاً في اللجنة التنفيذية لمجلس كنائس الشرق الأوسط، ثمّ في أبرشية دمشق في ظروف بالغة الصعوبة ومحفوفة بالمخاطر، حيث شارك رؤساء الكنائس في الدفاع عن الوطن، داعياً لتحقيق العدل والمساواة وتأمين المواطنة الكاملة.
خلال خدمته الأسقفية، عانى الكثير من الآلام والضغوطات من جراء الأوضاع الصعبة في سوريا وآثار القصف على مركز الأبرشية في باب شرقي – دمشق. ومع ذلك ظلّ صامداً بين المؤمنين من أبناء رعاياه في دمشق وفي سائر ريفها، إلى أن سلّم الأمانة إلى خليفته المطران مار يوحنّا جهاد بطّاح.
جئنا اليوم كي نودّع بإيمان ورجاء أخانا المثلَّث الرحمات، ونحن ندرك أنّنا سنُدعى كي نمثل أمام منبر المسيح، ونقدّم ثمرة أتعابنا والوزنات التي أعطانا إيّاها الرب كي تكون لمجده وخدمة كنيسته.
نعزّي نفسنا ومجمع أساقفتنا، بغياب مار غريغوريوس الياس من بيننا، ونخصّ بالذكر الأسافقة آباء المجمع الحاضرين معنا: مار أثناسيوس متّي متّوكة، مار ربولا أنطوان بيلوني، مار فلابيانوس يوسف ملكي، الذين عرفوه وكانوا من معلّميه في الإكليركية الصغرى، مار غريغوريوس بطرس ملكي، الذي كان زميلاً له في الدراسة الإكليريكية لعدّة سنوات، مار يوحنّا جهاد بطّاح، مار متياس شارل مراد، مار يعقوب جوزف شمعي، ومار اسحق جول بطرس. كما يشاركنا في الدعاء والصلاة، الأب جليل هدايا زميل المثلَّث الرحمات في سنوات الدراسة في روما، وفي الخدمة في لبنان، والخوراسقف عامر قصّار والمونسنيور عماد غمّيض، والأستاذ الوزير السابق جوزيف سويد من أبرشية دمشق، كذلك الرهبان الأفراميون، وكهنة أبرشية بيروت البطريركية، وطلاب إكليريكية دير الشرفة، والأمّ هدى الحلو وسائر الراهبات الأفراميات، والمونسنيور حبيب مراد الذي تفانى باسم البطريركية في متابعة أمور العائلة كي تأتي وتشارك في الصلاة ووداع المثلَّث الرحمات الغالي، كذلك الأب سعيد مسّوح من قِبَل دير الشرفة في التنظيم الذي نشهده.
نقدّم التعازي إلى ذويه الأحبّاء، إخوته وأخواته وعائلاتهم، الحاضرين بيننا، وأولئك المنتشرين في بلاد عدّة.
ونعزّي أبرشية دمشق التي خدمها 18 عاماً، نعزّي مطرانها مار يوحنّا جهاد بطّاح الذي قام بخدمة المثلَّث الرحمات في السنوات الأخيرة لمرضه في أبرشيته في دمشق، ونعزّي الكهنة والإكليروس والمؤمنين في تلك الأبرشية المباركة.
نحن شعبُ إيمانٍ ورجاءٍ، لا سيّما ونحن نعيش أفراح قيامة مخلّصنا يسوع المسيح من القبر، وقيامته هي عربون قيامتنا. لذلك عندما نفقدُ عزيزاً، نجدّدُ فعلَ إيماننا وثقتنا بالمعلّم الإلهي القائل "أنا معكم كلَّ الأيام وحتّى انقضاء الدهر" (مت 28: 20). ولأنّ مسيرتَنا الأرضية، مهما طالت أو قصرت، عليها أن تتكلّل بنور القيامة، وتكون انعكاساً لمحبّة الله للبشر، فنحن قادرون بنعمته تعالى على تحمُّل فراق الأحبّاء مهما كان قاسياً علينا، متذكّرين أنّنا جميعاً أهل السماء، وأنّ حياتنا على هذه الفانية ما هي إلا مسيرة نحو الأبدية.
فلنبتهل بالصلاة إلى الرب يسوع، بروح الإيمان والرجاء، كي يمنح فقيدنا الغالي الرحمة والسعادة الأبدية، بشفاعة أمّنا العذراء مريم، سيّدة النجاة، وجميع القديسين والشهداء.
ومع الكنيسة نرنّم مبتهلين إلى الله:
«ܠܟܽܘܡܪܳܟ ܐܰܢܺܝܚ ܒܰܝܢܳܬ ܟܺܐܢ̈ܶܐ ܒܪܳܐ ܕܰܐܠܳܗܳܐ܆ ܒܗܳܝ ܡܰܠܟܽܘܬܳܐ ܕܠܳܐ ܡܶܫܬܰܪܝܳܐ ܥܰܡ ܩܰܕ̈ܺܝܫܶܐ»
"نيّح يا ابن الله حبرك بين الأبرار، في ذاك الملكوت الذي لا يزول مع القديسين".
فليكن ذكره مؤبَّداً. المسيح قام، حقّاً قام.
|