يطيب لنا أن ننشر فيما يلي النصّ الكامل للموعظة التي ألقاها غبطة أبينا البطريرك مار اغناطيوس يوسف الثالث يونان بطريرك السريان الكاثوليك الأنطاكي، خلال رتبة الصلاة الافتتاحية التي ترأّسها غبطته في كنيسة مار اغناطيوس الأنطاكي، في مقرّ الكرسي البطريركي، المتحف – بيروت، مساء يوم السبت 18 كانون الثاني 2025:
موعظة الصلاة الافتتاحية لأسبوع الصلاة من أجل وحدة الكنائس
كنيسة مار اغناطيوس الأنطاكي، الكرسي البطريركي السرياني، المتحف - بيروت
السبت 18 كانون الثاني 2025
"... وعلِّموهم أن يحفظوا كلَّ ما أوصيتُكم به، وهاءنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم" (متى 28: 20)
إخوتي أصحاب القداسة والغبطة البطاركة الكلّيي الطوبى وممثّليهم
Son Excellence Révérendissime le Nonce Apostolique au Liban
الإخوة أصحاب النيافة والسيادة رؤساء الكنائس في لبنان وممثّليهم
الآباء الخوارنة والكهنة والشمامسة والرهبان والراهبات والإكليريكيين
أيّها الأبناء والبنات الأحبّاء المبارَكون بالربّ
نجتمع اليوم لنفتتح معاً أسبوع الصلاة من أجل وحدة كنائس المسيح، في هذه الفترة الممتدّة من 18 حتّى 25 كانون الثاني، فنلتقي في هذا الكرسي البطريركي وهذه الكنيسة المُشيَّدة على اسم القديس مار اغناطيوس الأنطاكي، الأسقف الشهيد، وهو من أشهر الآباء الرسوليين معلّمي الإيمان، الذي طحنَتْه أنياب الوحوش وأضحى خبزاً نقياً للمسيح، كما كتب في رسالته إلى كنيسة روما. هذا القديس هو أوّل مَن أعطى صفة الجامعية للكنيسة، إذ كتب في إحدى رسائله السبع: "حيث يسوع المسيح هناك الكنيسة الجامعة (الكاثوليكية باليونانية) (من رسالته إلى كنيسة سميرنا 8). وهي صفة نردّدها في "قانون الإيمان"، وبها يتميّز اجتماعُنا الروحي هذا المساء. كما عرفَتْها بنوع خاص الكنائس المشرقية منذ العهود الرسولية، ولا تزال تعيشها، رغم ما تنتاب تعدُّديتها في السلطة والطقوس والتقاليد من أزمات وتحدّيات ومؤثّرات سياسية وثقافية قد تنالُ من أمانتها لمعلّمها الإلهي وكرازتها ببشرى الخلاص.
يسرّنا أن نرحّب بكم جميعاً، أيّها الأحبّاء، باسم كنيستنا السريانية الكاثوليكية الأنطاكية، وباسم اللجنة الأسقفية للعمل المسكوني في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، فنتشارك جميعاً صلاة الافتتاح لهذا الأسبوع، على مثال الكنيسة الأولى التي كان أعضاؤها يجتمعون معاً ويصلّون سويّةً بقلبٍ واحدٍ وروحٍ واحدةٍ، "مجتهدين في المحافظة على وحدة الروح برباط السلام" (أفسس 4: 3)، ومجسّدين المحبّة علامةً مميَّزةً لمشاركتنا في إنجيل الخلاص. جميعنا أعضاءٌ في جسدٍ واحدٍ رأسه المسيح، وعلينا أن نعيش وحدتنا بصدقٍ ومصداقيةٍ، بروح المحبّة الأخوية، والحوار والإنفتاح المستمرّ على بعضنا البعض، من خلال الإصغاء المتواضع إلى يسوع معلّمنا ومثالنا، كي يؤمن العالم بشهادتنا، وعلى رجاء أن يتعرّف علينا الربّ ويعترف بنا تلامذةً له في مجيئه الثاني المجيد.
نعم، كم نحتاج اليوم إلى إيمانٍ راسخٍ بالرب يسوع، على مثال مريم وأختها مرتا التي دعاها الرب إلى الإيمان به إلهاً حيّاً، بقوله: "أتؤمنين بهذا؟" (يوحنّا 11: 26)، وهي الآية التي اتُّخِذَت شعاراً لأسبوع الصلاة من أجل الوحدة في هذه السنة. كما نُحيي ونحتفل هذا العام بيوبيلٍ إيماني بامتياز، هو مرور 1700 عام على انعقاد مجمع نيقية المسكوني الأول. فهل تساءَلْنا أين هي أنطاكية ونيقية في مسيرة إيماننا اليوم؟ لقد نقلت إلينا نيقية، بعد مخاضٍ طويلٍ من الدراسات المضنية، وبعد صلواتٍ وتأمّلاتٍ عميقةٍ، جوهر إيماننا بأعظم أسراره، أي: أسرار الثالوث الأقدس، والخَلق، والتجسُّد الإلهي، والفداء بالآلام والموت والقيامة، وسرّ التقديس بالروح القدس وماء المعمودية.
يذكّرنا هذا اليوبيل، الذي يحييه جميع المؤمنين بالرب يسوع ويجمعهم، بالإلتزام غير المنفصل بطلب المعلّم الإلهي أن نبقى واحداً فيه، كما عبّر جهاراً في صلاته إلى أبيه السماوي ليلة إقباله على الصلب والموت فداءً لجنسنا البشري: "ليكونوا بأجمعهم واحداً كما نحن واحد" (يوحنّا 17: 22). ولكي نحقّق هذا الهدف الذي نحنّ إليه جميعُنا، نحتاج اليوم إلى يقظةٍ إيمانيةٍ مُبرِّرةٍ ومُحييةٍ، نعيشها بصدقٍ في عائلاتنا وكنائسنا ومجتمعاتنا، كي تثمر شهادتنا للإنجيل!
وإن كنّا ننادي بإيمانٍ واحدٍ ورجاءٍ واحدٍ، فلنسأل ذواتنا أين نحن من المحبّة، رباط الكمال؟ أجل، إنّ الوحدة المنظورة لكنائسنا هي نعمةٌ إلهيةٌ وعطيةٌ من الروح القدس، لأنّ التاريخ، بما فيه من سلبياتٍ وخواصِّ التقاليد واللغات، فرض على كنائسنا أن تتعدّد في بلاد الشرق الأوسط، وليس هناك من سبيل للوصول إلى توحيد السلطة والمؤسّسات. ولكن على المحبّة أن توحِّد النفوس والقلوب ليؤمن العالم، وهي المحبّة التي تعلو ولن تزول.
سمعنا منذ قليل في القراءة من نبوءة إرميا هذه الآية المعبّرة: "...لأنّي أعلم أنّ أفكاري التي أفكّرها في شأنكم هي أفكار سلامٍ، لأمنحكم مستقبلاً ورجاء" (إرميا 29: 11). لا يخفى على أحدٍ أنّ توق الإنسانية إلى السلام وحاجتها إليه يعودان إلى غابر الأزمنة منذ نشأة الخليقة العاقلة. أمّا الرجاء فهو فضيلةٌ إلهيةٌ تحنّ إليها النفوسُ المؤمنة، في عالمٍ تكتنفه المخاوف وتهدّده ظلماتُ الشرور والإيديولوجيات المُعلَنة والخفيّة التي تتسرّب عبر وسائل التواصل الإجتماعي، عابرةً الزمان والمكان.
وفي غمرة التحوّلات المفاجئة والمتراكمة في مجتمعاتنا المشرقية، تأتي دعوة قداسة البابا فرنسيس إلى إحياء سنة الرجاء اليوبيلية، استجابةً ناصعةً للآمال والتطلُّعات التي على الكنيسة أن تقدّمها لعالمٍ يتخبّط في تعرُّجات الشكوك، بل اليأس والقنوط، وتأكيداً ساطعاً على الوعد الثابت للرب يسوع القائل: "هاءنذا معكم طوال الأيّام إلى نهاية العالم" (متّى 28: 20)، مهما قست الظروف وعظمت التحدّيات.
لذلك نحن جميعنا مدعوون اليوم لنقدّم مبرِّراً مُقنِعاً لرجائنا الذي لا يُخَيِّب في الرب يسوع "الطريق والحقّ والحياة" (يوحنّا 14: 6)، لذَوي الإرادة الصالحة في العالم أجمع، لا سيّما للأجيال الصاعدة المتعطّشة إلى الحرّية الحقّة والبنّاءة. وعلينا أن نعترف بدايةً بالنقائص والأخطاء التي ارتكبها البعض منّا، تجاه الأضعف بين إخوتنا وأخواتنا المؤتَمَنين إلى رعايتنا، ليستقيم تعليمنا، ونتمثّل بتفاني الراعي الصالح ومحبّته ووداعته تجاه الجميع.
أيّها الأحبّاء، صلاتُنا معاً في هذا المساء من أجل الوحدة علامةُ رجاءٍ حيٍّ للمسيحيين في العالم كلّه، وبشكلٍ خاصّ لكنائسنا في الشرق الأوسط، لا سيّما في لبنان الذي بدأ يلوح فيه بريق الأمل بغدٍ مُشرِقٍ مع انتخاب فخامة رئيس الجمهورية العماد جوزاف عون، الذي يطيب لنا أن نقدّم له باسمكم جميعاً التهاني والأدعية من أجل أن يعضده الرب ويقوّيه في قيادة لبناننا الحبيب وانتشاله من وهدة الأزمات التي يتخبّط بها منذ سنوات، سياسياً واقتصادياً وأمنياً، مع جميع معاونيه في خدمة هذا الوطن – الرسالة، وفي مقدّمتهم الحكومة الجديدة التي نتمنّى لرئيسها المكلَّف القاضي نوّاف سلام التوفيق في تشكيلها من ذوي الكفاءة والاختصاص. فتتضافر الجهود للنهوض بالوطن وتحقيق تقدُّمه وازدهاره وعودة من هجره إليه، وخاصّة الشباب، مستقبله الباسم.
ولا يمكننا أن ننسى سوريا العزيزة التي عانى مواطنوها الصعوبات والآلام نتيجة الصراعات الهدّامة التي ابتُلِيَت بها منذ سنواتٍ عديدةٍ، والتي نسأل الله أن تعود إلى سابق عهدها من التطوّر والازدهار، بتكاتُف جميع مواطنيها على نتوُّع مكوّناتهم، بالمساواة والحرّية، ولا سيّما المكوِّن المسيحي الأصيل والمؤسِّس فيها.
ونعبّر عن الارتياح الكبير بقرب انتهاء مأساة حرب غزّة مع إنجاز اتّفاق وقف إطلاق النار. وكذلك نأمل أن يتجنّب العراق العزيز النزاعات والانقسامات بتعاضُدِ أبنائه ووحدتهم، وخاصّةً شعبنا المسيحي، لمتابعة مسيرة النهوض ببلدهم. كما نستذكر أبناءنا في مختلف بلدان الشرق وفي عالم الانتشار حيث تشتّت أهلنا، والذين يحافظون على ثباتهم بالإيمان رغم التحدّيات الجمّة.
ويطيب لنا أن نشكر اللجنة الأسقفية للعمل المسكوني في مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، ومجلس كنائس الشرق الأوسط، على إعداد صلوات هذا الأسبوع وتنظيمها والدعوة إليها. ونهنّئ مجلس الكنائس بمناسبة سنة اليوبيل الخمسين على تأسيسه، سائلين الله أن يوفّقه في متابعة تأدية رسالته في خدمة الشركة والوحدة بين الكنائس في الشرق الأوسط، بعيش الحقيقة في المحبّة، تجسيداً لدعوة الرب يسوع لنا.
هذا ما نطلبه من الربّ يسوع في هذا المساء وفي الأيّام القادمة من هذا الأسبوع المبارك المخصَّص للصلاة من أجل الوحدة، مقتدين بآبائنا الملافنة السريان الذين ابتهلوا إلى الله في صلواتهم كي يجمع أبناءه المؤمنين إلى واحد، حسبما نصلّي في صلاة الفرض الأسبوعية البسيطة "الشحيمة": "ܡܫܺܝܚܳܐ ܪܰܒ ܪ̈ܳܥܰܘܳܬܳܐ ܟܰܢܶܫ ܥܳܢ̈ܳܟ ܕܰܡܒܰܕܪܳܐ أيّها المسيح ربّ الرعاة، إجمع خرافك المبدَّدة". آمين.
|